23-Apr-2006
الراى العام
بقلم الاستاذ/ محمد ابراهيم الشوش
الهجوم الذي وقع على ثلاث مناطق في ولاية كسلا قبل عدة أسابيع، يحمل كل عناصر الغدر والدناءة واللاإنسانية، التي اتسمت بها مثل هذه الهجمات المتكررة في الشرق. لم يكن الهجوم الأول فقد سبقته عدة هجمات مماثلة كان أبرزها ما وقع على مطار كسلا
حين فاجأته عصابة مسلحة وأوقعت فيه خسائر في الأرواح والطائرات والمعدات. ولم يكن توقيته مفاجئاً فقد جاء في مسلسل اشعال الحرائق وإحداث فرقعة إعلامية عالمية تسبق فتح جبهة جديدة. فقد حدث هجوم مماثل على مطار الفاشر إيذاناً ببدء معركة دارفور، نفذته جماعة تدربت في حضن أريتريا وانتقلت بقدرة قادر وعلى بساط سحري شبحي من أقصى الشرق الى أقصى الغرب في بلد أهله نائمون. تماماً كما انتقلت قوات العدل والمساواة من أقصى الغرب الى أقصى الشرق بنفس السرعة، للمشاركة في شرف الاعتداء على مستشفى وقر وترويع مرضاه وسرقة أدويته ومعداته الطبية مؤكدة بذلك ألا شئ يربطها بالسودان أو دارفور أو بالرجولة والشرف. كيف انتقلت هذه الحركة العجيبة بجند بلغوا بشهادة شهود عيان ومسؤولين عسكريين ومدنيين أربعة آلاف جندي بعتادهم للانضمام الى جيش من جبهة الشرق قوامه ألف جندي على أبواب همشكوريب ينتظرون أن يفتح لهم حلفاؤهم الأبواب، ويقومون بطلعات عبقرية لضرب أماكن آمنة من بينها المستشفيات والمدارس. وقيل إن لأريتريا ضلعا في الهجوم وفي تجمع حشود همشكوريب. وكان ذلك مجرد تخمين لا يحتاج الى كبير ذكاء. وجلسنا ننتظر أن يقطع الشك باليقين وأن تكشف التحقيقات عن طبيعة وأهداف المنفذين لهذه العملية الإجرامية، يعلنونها بأنفسهم على شاشة التلفاز: من جندهم؟ ومن سلحهم؟ ومن نقلهم عبر الأراض السودانية وعبر الحدود الشرقية؟، ومن أوصلهم الى هدفهم العسكري الرهيب بين ضعاف المرضى في مستشفى وقر؟ وتاه الموضوع وساد الصمت السوداني المعهود ولم نسمع عن تحقيق أو يحزنون وسكتت الصحف ليس فيها واحد دفعه حب الاستطلاع الى معرفة الحقيقة: مجموعة مسلحة تدعي أنها تناضل من أجل دارفور وتملك قدرة على التحرك المريب من أبوجا الى احتلال السفارة السودانية في تشاد، ومن الحدود السودانية الشرقية الى الحدود الغربية لتهاجم مستشفى، ولا أحد يدري ماهوية أفرادها ومن يقف وراءها ولا أحد يهتم. وأحسب لو أن قوة من خارج الكرة الأرضية حطت وسط الخرطوم لما تنبه لها أحد أو اهتم بأمرها. كنت وحدي على ما يبدو انتظر أن يسفر التحقيق عن الجاني ومحرضيه وأن يكشف التحليل السياسي عن أهداف أريتريا من هذا التوغل العميق في شؤون السودان ربما أكثر من أحزابه: ما إذا كانت تطمع في الاستيلاء على أرض سودانية أو تعمل لحساب جهة أجنبية؟ ألم أقل لكم إن هذا بلد سائب. في مسلسل اسبيلبرج «المأخوذ» يقول قائد الكتيبة الخاصة لجنوده وهم يهللون بالنصر: «هل تعرفون لماذا انتصرنا عليهم؟ ليس لأننا أتقن سلاحاً أو أسمى تدريباً أو أكثر شجاعة. هزمناهم لأننا كنا نعرف أسرارهم وكانوا يجهلون أسرارنا». ونحن أسرارنا ملقاة على عرض الطريق وفي بيوت الأفراح والعزاء وأندية البطالة، وأسرارهم مخفية عنا لا ننشط لمعرفتها.وفي انتظار ما يكشف عنه التحقيق إن كان هناك تحقيق فوجئت بالطبول تدق والزغاريد تنبعث من رومبيك لا تبشر فقط بإنتهاء القطيعة وانصراف أريتريا لإدارة شؤونها بل تطالب بأكثر من التطبيع تطالب بوضع قضية الشرق برمتها والتي استثمرت فيها أريترياً كثيراً، تحت الرعاية السامية لقيادتها لحيادها وحسن تصرفها. لم تكن الدعوة مفاجأة فبين أريتريا والحركة الشعبية رباط وثيق وقد كانت أول محطة زارها الراحل جون قرنق بعد توقيع الاتفاقية. وتعتبر أريتريا من أكثر المنفذين لمشروع السودان الجديد في أكثر مظاهره تشدداً وفي ذلك تلتقي مع أكثر المتعصبين عنصرياً من كوادر الحركة المعادين للشمال والساعين لتمزيقه وسلخه من كل إنتماء عربي إسلامي. ومع دقات طبول الاستحسان احتفالاً بالزواج المرتقب جاء وفد أريتريا يجوب البلاد يمرح ويعلن من جانبه رفع التمثيل الدبلوماسي وتبادل السفراء. كل ذلك دون أن يقدم شيئاً لا اعتذاراً عما سبق ولا وعداً بما سيأتي. ومن جانبي ظللت أقلب الصحف عل أريتريا قد قدمت أعذاراً غابت عني أو وعداً بتحسين السلوك ورفع اليد.. ولا شئ من ذلك. بل فوجئت بمحاولة لا أدري كيف أصفها تجعل من هذه العملية الخطيرة جريمة عادية كأية جريمة قتل أو سطو في أي حي من الأحياء. ويصدر عن وزير العدل تهديد (مجرد تهديد) برفع الأمرإذا استلزم للانتربول للبحث عن الجناة ومعاقبتهم بتهمة القتل والنهب والسلب. ولا أدري متى أصبح الغزو المسلح شأناً من شؤون وزارة العدل؟ وغداً ستتحول أسمرا الى مركز خصم وحكم: توقد النيران بيد وتدير باليد الأخرى عمليات الإطفاء. فقط كنت أتمنى أن تكون المفاوضات تحت الرعاية الكاملة للولايات المتحدة لأني لا أحب الوسطاء، ولأني أعتقد أن الشعب الأريتري المنهك أحق بجهود قادته ولأنني -بصراحة- أثق في بوش أكثر.
