مقالات

وماذا بعد الملاحظات؟ (2-3) بقلم الدكتور عبدالله جمع إدريس *

11-Aug-2014

عدوليس ـ ملبورن ـ

بعد أن أوضحنا الضرر الذي تسبب به المشروع الطائفي لإسياس أفورقي وقومه علي الدولة والشعب الإرتريين ، بما في ذلك أبناء الطائفة التي يشير مقتضي الحال الي أنّ الدكتاتور أفورقي وأذنابه (الهقدفيون) يقومون بعملهم الطائفي التخريبي البائس من أجلها ، نقرأ اليوم ما بين السطور في صفحة التاريخ عن دور الدين والمنطقة الجغرافية والقبيلة في تكوين الكيان الإرتري.

كان الشعب الإرتري يعيش في توازن مجتمعي وكان الإحترام للإختلاف الديني مقدر من الجميع ، حتي جاءت مرحلة تقرير المصير وحملت معها التحديات الاجتماعية وعمليات الإستقطاب الديني التي صاحبت بحث القرارات المصيرية للكيان الإرتري الذي أوجدته القوي الإستعمارية في حدوده المتعارف عليها ، غير أن جذور الإستقطاب كانت تتولد بشكل متدرج.
فبالرغم من أنّ الحروب الدينية كانت تمور في الجوار الإثيوبي والسوداني ، فلم تسجل حوادث تاريخية عن حروب طائفية ذات شأن في الداخل الإرتري ، إذا استثنينا المناوشات المتقطعة بين الأساورتا في المرتفعات والقبائل الأخري في المنخفضات من جهة ، وبين عصابات الشفتا الوالغايت وحلفائهم في الداخل من ناحية أخري رغم طابعها الاقتصادي والاجتماعي حيث كانت تدافع القبائل عن ثرواتها الحيوانية. لكن روح المواجهة الطائفية كانت أظهر في تصدي العفر والساهو والجبرتي لهجمات الحكام الإثيوبيين عليهم ، فهذه المواجهات كانت تحمل في طياتها روح الحروب الدينية الي حدٍ كبير ، وقد سجلت الأشعار والأغاني البطولة و(الجهاد) في تلك المواجهات. وفي المنخفضات كانت القبائل الإرترية تدخل في الدين الإسلامي أفواجاً علي أيدي الدعاة والأسر الدينية مثل عد شيخ حامد وعد شيخ محمود وغيرهم ممن حملوا الدين مع العلم وممن فتحوا قلوب الناس للدين بالمعاملة وليس بالسيف ولا بالإكراه.
أما عبر الحدود فكان الأمر مختلفاً ، فقد كانت إثيوبيا تأكلها المؤامرات داخل القصر الإمبراطوري باسم الدين ، ووتنطلق الحروب في أحيان أخر برايات شعوبية وإثنية. وكان السودان يمر بمخاض تكوين دولته وتتجاذبه القوي الدينية والعنصرية. وكان الصراع بين الدولتين يحمل في طياته صراعات دينية تختلف في أشكالها باختلاف الأزمان. صارت الدولة المركزية في إثيوبيا ، بعد نشأة دولة أكسوم ، حامية حمي المسيحية في المنطقة. وكان يتحكم الأباطرة الأمهرا علي تلك الدولة ، ولكن كانت تتخللها فترات من السيطرة التغراوية ، وكانت تدور حروبها بشكل أساسي لبسط السيطرة علي المنطقة المعروفة بامتداد العنصر الكوشي فيها ، بدءاً بمصر مروراً بممالك النوبة وممالك البجة وكل الساحل الممتد علي البحر الأحمر وصولاً الي المرتفعات الحبشية وسهول دنكاليا والصومال. ولكن كان الصراع يدور بشكل أساسي ودائم للسيطرة علي المسلمين من الأرومو والجبرتي والعفر والساهو والصوماليين. وكان اسم الجبرتي يشمل كل مسلمي المنطقة بما في ذلك القاطنين في مناطق الجنوب والوسط الإثيوبي مثل منطقة هرر وفي شمال إثيوبيا مثل إقليم التغراي. وكانت الحرب ضد القائد أحمد إبراهيم الأعسر (غورا) هي الأشد ضراوة والتي كان يصل صداها إلي الداخل الإرتري مما كان ينقل عن طريق الكنيسة للتهييج العاطفي ضد الدين الإسلامي. والصراع الإقليمي بين دولة أكسوم المسيحية (بعد اعتناق ملكها عيزانا للمسيحية) وبين الجوار السوداني (مجازاً) كانت تحركه عوامل دينية. فقد أدي غزو أكسوم لمروي الوثنية إلي انهيارها ، وخلفتها دولتي علوة (وعاصمتها سوبا وتعتنق الأرثوذكسية الرومانية) والمقرة (وعاصمتها دنقلا وتعتنق الكاثوليكية الرومانية). وبالرغم من إعتناق المسيحية ظلت الدولتان علي خلاف مذهبي مع أكسوم (الأرثوذكسية القبطية). وقد اسقطتهما دولة الفونج المسلمة (وعاصمتها سنار) ، والذي كانت تنظر إليه إثيوبيا بعين الريبة والسخط مما أدي الي الاستقطاب الديني المستمر بين إثيوبيا والسودان منذ نهاية القرن الخامس عشر. وقد زادت حدة ذلك الاستقطاب بتبني الدولة المهدية الطرح الإسلامي للحكم. وكان الداخل الإرتري يتأثر بعوامل ذلك الصراع والاستقطاب كلٌ بحسب انتماؤه الديني ، وجهته الجغرافية. علي سبيل المثال تعتبر المرتفعات (المسيحية) الإرترية تاريخياً امتداداً لدولة أكسوم ، وظل المسلمون في (المرتفعات) وفي السهل الساحلي للبحر الأحمر في صراع دائم مع أكسوم ووريثتها في الدولة الإثيوبية. كذلك كانت السهول الغربية تتبع الدولة المركزية بدرجات متفاوتة تاريخياً. فاقليم التاكا (سهل القاش) كان يتبع دولة علوة (المسيحية) بالرغم من وجود دولة (إسلامية) داخله وهي مملكة (تفلين). ثم كان إقليم بركا والدكن تابعاً لدولة سنار (الفونج). كما كانت بعض القبائل البجاوية تدين بالولاء للدولة المهدية.
وكانت الحروب التي تخوضها الدولة المهدية باسم الإسلام تجد لها صديً داخل إرتريا في صور متعددة. فمن ناحية فإنّ حرب الدراويش ضد الملك الإثيوبي يوهنس وإنهاء سيطرة التغراي علي مقاليد الأمور في إثيوبيا وانتقال الحكم تلقائياً إلي خصومهم من الأمهرا قد زاد من مخاوف المسيحيين الإرتريين من دور الإسلام كدين يتمدد بسرعة وكعامل مؤثر علي الساحة السياسية ، خاصة وأنّ بعض أهل الحبشة من الجبرتي قد شاركوا المهدية في قتال يوهنس الذي كانت جيوشه تسومهم الخسف والذل ، بل يقال أنهم من قتلوه ، رغم هزيمة الدراويش في المعركة وتراجعهم عن حملة الفتح (الإسلامي) علي الحبشة. وكان وضع الجبرتي في إرتريا عكس الوضع في إثيوبيا ، حيث يجدون لهم وطن يتعايش فيه الناس في سلام. فبالرغم من القانون الكنسي الذي حرّم عليهم تملك الأرض في كبسا ، إلا أنهم إستعاضوا عن ذلك بالتحكم في التجارة والالتحاق بالتعليم. أما الجانب الآخر من تأثير المهدية في الداخل الإرتري هو أنه خلق استقطاب بين القبائل الإرترية علي أساس الانتماء للطريقة الختمية ، التي ناصبت المهدية العداء ، من بعض الأطراف مثل قبيلة البني عامر التي حمت الشيخ الميرغني راعي طائفة الختمية وسهلت هروبه الي إرتريا ، كما احتضنته القبائل المقيمة بمنطقة كرن مثل البلين. ووقف في الطرف الآخر أصحاب الولاء للدولة المهدية من قبائل أخري مثل الحدارب والحباب. كما أنّ تمدد المهدية في مناطق القبائل البجاوية قد أدي إلي إقتطاع إقليم التاكا وكسلا من دولة إرتريا الإيطالية بواسطة البريطانيين مما أوجد رابط الدم بين إرتريا والسودان لاحقاً عبر الحدود ، والذي تعزز بعد الاستعمار البريطاني لإرتريا ، ثم نتيجة للجوء الإرتريين بأعداد كبيرة الي السودان أثناء الثورة الإرترية لاحقاً. وكل ذلك الاستقطاب الديني والطائفي قد مهّد لاحقاً للانقسامات السياسية الإرترية في فترات تقرير المصير والثورة والدولة.
أما من ناحية العرق والأصل الإثني والمكاني فأزعم أنّ معظم أهل المنخفضات إما أنه قد نزل من المرتفعات ، أو أنّ بعض أبناء المنخفضات قد أقاموا بالمرتفعات فصاروا منها. فكثير من قبائل المنخفضات الحالية ترجع أصولها إلي المرتفعات مثل الحباب والبلين والبيت جوك وبعض بطون القبائل الأخري مثل المنسع. ومن ناحية أخري فإنّ الإنتشار الواسع لبعض القبائل أصبح عامل ربط بين مختلف جهات إرتريا. وأضرب أربع أمثلة في هذا الشأن (لمزيد من التفصيل أنظر مقالات سابقة للكاتب عن الأصول التاريخية للشعب الإرتري).
أولاً انتشار البلو كلو علي جميع مساحات الوطن الإرتري ابتداءاً من تأسيس مملكة البلوكلو في منطقة أكلي غوزاي الحالية في وقت سابق لقيام دولة أكسوم ، ثم مساهمتهم في تكوين مملكة الحدارب في سواكن وفي منطقة البجة ، مروراً بتأسيس قبيلة البني عامر (وعامر هو جد البلو) في بركا والساحل ، واتصالهم بأصل وجود بيت طوقي من قبيلة البلين علي أنقاض (عد موسي من البلو كلو) ، وربما كذلك هناك رابط ما للبلوكلو مع الشطر الآخر من البلين (بيت ترقي) نتيجة السكن المشترك واللغة المشتركة لفرع عد موسي ، وهي لغة البلين التي ربما إخذت اسمها من البلوكلو الذين كان يطلق عليهم قدماء المصريين اسم (البليميين) أو (البليميز). وكذلك عنصر الحدارب (المرتبطين بالبلوكلو) في البيت جوك والبني عامر والكسر وغيرها من القبائل الإخري. أضف الي ذلك تفرق البلو كلو علي مناطق القاش ، وفي المرتفعات كذلك (مجموعات تنتمي الي قبيلة الزاغر من البلوكلو) ، إضافة الي وجودهم في باطع (مصوع) مثل عد نايب وعمرو وغيرهم ، وصولاً الي مناطق العفر ، بل والي تغراي.
أما المثال الآخر فهو تمدد قبيلة (أساورتا) في كافة مناطق إرتريا. فالبعض يظن أنّ الأساورتا تعيش في المرتفعات فقط ، وهو غير صحيح ، بل إنّ الذين يعيشون في المنخفضات منهم أكثر بكثير ممن يعيش في المرتفعات مع قبائل الساهو ، كما ذكر ذلك المناضل محمود إسماعيل في كتابه عن (قبائل الأساورتا). خذ مثالاً بمنطقة سمهر ستجد أن سكانها في غالبيتهم تعود أصولهم إلي تلك القبيلة مثل عد توكل وعد خليفة وغيرها من الأسر (التي تتحدث التغرايت) وكذلك من تعود أصولهم الي القبائل الأخري الناطقة بالساهو مثل المنفري ، أو الطروعة ، إضافة الي التداخل مع الأسر الدينية القادمة من الجزيرة العربية وتنتشر علي طول الجغرافيا الإرترية والتي اختلطت بالساهو وأصبحت جزء من نسيجها الاجتماعي مثل قبائل (شيخا) أو عد شيخ ، بالإضافة الي أسر جمعتها بهم ظروف الجيرة والعمل مثل عد قاضي وغير ذلك من عوامل التداخل والتآخي مع قبائل تجسر المسافة بين المرتفعات والمنخفضات وصحراء دنكاليا. بل إنّ بركا والقاش والساحل الشمالي وسنحيت ، ناهيك عن دنكاليا ، كلها تزخر ببطون القبائل المحلية التي تنتمي للأساورتا. وهؤلاء لم يأتي بهم إسياس ولا إثيوبيا بل هم قبائل متواجدة منذ القدم حيث وصلوا في نفس الفترة التي سكنت قبائلهم الحالية في مساكنها وربما أبكر في بعض الحالات. كذلك نجد أخوّة الدم والأصل العرقي بين الطروعة الناطقة بالساهو وقبائل الماريا والمنسع الناطقة بالتغرايت وإخوانهم بني الهمية (بني أمية) في جنوب النيل الأزرق بالسودان.
المثال الثالث هي (قومية) الجبرتي ، فهؤلاء القوم بالرغم من عدم ارتباطهم بمفهوم القبيلة التقليدي القائم علي السلالة وملكية الأرض ومضارب القبيلة ، إلا أنهم يمثلون عنصر إثراء للمجتمع الإرتري بحكم تعدد مشاربهم وانتمائهم الإثني والمناطقي. فالجبرتي بشكل أساسي يعتمدون في تعريفهم بانتسابهم للإسلام وتحدثهم بلغة التغرينية بغض النظر عن السلالة ، بل إن عامل المصاهرة والسكن يكسب الإنسان الانتماء الجبرتي نتيجة اكتساب اللغة إضافة الي المشترك الديني. فتجد منهم من أصله من دنكاليا مثل الشهيد عبدالقادر كبيري ، أو من الساهو أو البلين أو البلو أو البني عامر أو الحدارب أو من سراي أو من تغراي أو من الصومال وغير ذلك التعدد الذي لم يكن عامل تشرذم بينهم. ويعود أصل الكثير منهم إلي الجزيرة العربية ويصل بعضهم نسبه الي أسر مكية مثل بني مخزوم والهاشميين من ذرية عقيل بن أبي طالب ، وكانت مراكزهم التاريخية في دول الطراز الإسلامي عديدة علي الساحل الصومالي والإرتري (الحبشة) ، لكنهم نسبوا الي مدينة (جبرت). كما أنهم ينتشرون في معظم المدن الإرترية من مندفرا مروراً بأسمرا وكرن ، وصولاً الي أغردات حتي الداخل السوداني.
المثال الرابع وليس الأخير في الواقع الإرتري ، هو أن العديد من الأسر المسيحية والناطقة بالتغرينية تعود في أصولها إلي قبائل ناطقة بالساهو والتغرايت والبلين والباريا والحدارب والعفر. بل إنّ أسمرا الحالية قد تكونت من أربعة قري هي خليط بين التغرينية الحماسين مع فرع من الأساورتا هم أبناء إسماعيل بن ثابت أحد أحفاد عمر أساور جد الأساورتا. وقد تنصر هذا الفرع وجدتهم هي التي أطلق عليها اسم (أربعتي أسمرت) لإصلاحها بين القري الأربعة التي كانت متناحرة. ويسمي بعض بطون هذا الفرع (إندا إسماعيل ني أربعتي أسمرت) حيث يقيمون في حماسين وأكلي غوزاي ، والبعض الآخر انتقل ليعيش في المنخفضات بين البلين والمنسع والحباب وغيرهم. كذلك هناك أمثلة لأسر تعود أصولها لمملكة زاغوي الإثيوبية من (الأغو) والتي تنتشر في خمس وعشرين قرية في المرتفعات ويعيش جزء منها بأرض البلين والمنسع والساحل كما ذكرت ذلك عايدة كدان. بل نجد قري وعائلات تسمي ب(ألمداي) و(أسفداي) و(زاغر) وغير ذلك من الأسماء المعروفة بين قبائل المنخفضات.
أتيت بهذه الأمثلة لأؤكد أنّ التعصب للقبيلة والجهة الجغرافية لا معني له في هذا التكوين الفسيفسائي للقبائل الإرترية والمكونات المختلفة للمنخفضات وارتباطها بعوامل ربط غاية في الرسوخ بالمرتفعات. وأزيد وأقول إنّ الشئ الذي يميّز الإرتريين عن بعضهم البعض بشكل نسبي هو الدين لا المنطقة ولا القبيلة. كما أن الإختلاف الديني لم يبرر يوماً التناحر الطائفي إلا في فترة تقرير المصير وقد تم ذلك لأسباب سياسية وليست دينية. كما أنه لا يوجد ما يبرر العداء الشديد الذي نحسه تجاه مسلمي المرتفعات في كتابات وتعليقات البعض وهم يدافعون عن فكرة رابطة المنخفضات. فلم نجد من تعدي من هؤلاء القوم علي المنطقة وأهلها بسوء من الساهو أو الجبرتي. بل نجد إنّ الشهيد عبدالقادر كبيري وإخوانه من أسمرا وعدي قيح ومندفرا وغيرها من حواضر وقري المرتفعات قد قدموا أنفسهم شهداء في سبيل قضيتهم الوطنية المشتركة مع إخوانهم في الرابطة الإسلامية وفي الكتلة الإستقلالية. كذلك نجد أن الشهيد سعيد حسين هو مبعوث القيادة ، التي كونت جبهة التحرير الإرترية في القاهرة بمصر ، إلي الميدان الثوري بقيادة الشهيد البطل حامد إدريس عواتي ، وهو قائد الفدائيين الذين غضّوا مضجع الاحتلال الإثيوبي في المنخفضات وأسمرا وفي كل مكان من الوطن ، ونجد أنّ الشهيد (وللوا) من هؤلاء الذين رووا بدمائهم الزكية أرض المنخفضات. ونجد أنّ شباب وفتيات المنخفضات كانت تتغني بأبطال الثورة من أمثال الشهيد عبدالكريم أحمد (سني فالو) قائد المنطقة الثالثة في المنخفضات. وأن الشهيد أحمد ناصر ومن قبله الشهيد محمد إحمد عبده كانوا يقودون الثورة ولا حرج طالما حملتهم الكفاءة وثقة الجنود والسياسيين إلي تلك المناصب ، ولم نسمع عاقلاً أو منصفاً إتّهم هؤلاء المناضلين في وطنيتهم أو في حرصهم علي سلامة المنخفضات قبل المرتفعات طالما كان الهدف هو تحرير إرتريا. والحقيقة التاريخية أنه لم تكن هنالك أي احتكاكات خشنة بين مسلمي المرتفعات وبين المنخفضات في أي مرحلة تاريخية عدا خلافات وملاسنات بين المناضلين في فصائل جبهة التحرير متفرقة لا يجمع بينها منهج. وقد حدثت داخل الاتحادات الطلابية إو داخل أطر تنظيمات جبهة التحرير الإرترية أو بين أفراد من اللاجئين الذين فطر قلبهم ضياع كل التضحيات وذهابها هباءاً منثوراً ، وهي كلها ناتجة عن الهزيمة التاريخية للجبهة الأم وخروجها من دائرة الفعل الثوري ، التي تم القاؤها خارج حدود الوطن لعوامل داخلية وإقليمية ودولية. لذلك كان من الطبيعي أن يختلف الفريق المهزوم ويرمي بعضه بعضاً بالاتهامات الجزافية المرسلة ، ويتخندق كل فريق بما يستر عورته بالتكتلات العصبية مثل القبيلة والدين والمنطقة مما أقحمها الانتهازيون في أتون صراعاتهم السياسية.
كذلك الحال بالنسبة لمسألة النضال المشترك بين المسلمين والمسيحيين. فلا يعقل أن تكون مجموعة سكانية بأكملها أو أبناء طائفة ما علي قلب رجل واحد ولو كانت تقودهم الجن. فقد شارك المسيحيون إخوانهم المسلمين في الثورة الإرترية السلمية من خلال الكتلة الإستقلالية بقيادة الشهيد إبراهيم سلطان إبن المنخفضات ، ثم في حركة تحرير إرتريا بقيادة الشهيد محمد سعيد ناود ، التي وحدت القلوب والعقول والهدف في الحلقات التنظيمية السباعية (محبر شوعتّي) ، ونجد الأبطال المناضلين من المسيحيين من أبناء المرتفعات الذين التحقوا بالثورة بروح وطنية ونضالية صادقة ، والتحموا بمناضليها وقيادتها في جبهة التحرير الإرترية وظلوا أوفياء لها حتي لقوا ربهم ، بل وكانوا من يتصدي لعصابة (نحنان علامانان) و(سلفي ناتسنت) و(هقدف) بكل ما أوتوا من قوة فكان نصيبهم الإختطاف إو الإغتيال داخل الميدان أو في شوارع كسلا وبورتسودان والخرطوم أو إغتيالهم معنوياً بتشويه صورتهم في مجتمعاتهم المحلية. لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلي أنّ جزءاً كبيراً من كبسا (المسيحيين) قد سار في ركاب الدعوة الطائفية البغيضة لإسياس أفورقي ومجموعته ، ويرجع ذلك لعوامل تاريخية واجتماعية وطائفية وسياسية واقتصادية.
نأتي في ختام هذه الحلقة الي جمع هذه الخيوط المتشابكة ، ونقول إنّ الإستعمار قد استغلّ الظرف السياسي في فترة تقرير المصير وضخم الخلافات الثانوية وعمق الاختلاف الديني ليحقق سياسة فرّق تسد. وقد تفرّق الشعب الإرتري الي طوائف دينية متناحرة في المواجهة بين دعاة الاستقلال في (الرابطة الإسلامية) ضد دعاة الانضمام (إندنّت) ، وقسمت القوي الاستعمارية البريطانية المسلمين وسلخت منهم دعاة التقسيم من زعماء ما يسمي (المنخفضات) ، كما سلخت إثيوبيا من الصف المسلم من أيدّ الإنضمام الي إثيوبيا خاصة بعض من رأي أنّ الرابطة الإسلامية تهدد زعامته وتهدد بتمرد (التغري) علي الشماغلي ، كذلك انسلخ من الرابطة اليائسون من النضال ضد الإرهاب الإثيوبي أو ممن فشل من دعاة المنخفضات في مسعاه. كما تفرّق الإرتريون أثناء الثورة ، وزادت فرقتهم بعد التحرير. في الحلقة القادمة نمسك بهذه الخيوط لنصل بها الي المرحلة الحالية ، ونفكك الأزمة القائمة ونحاول فهم طبيعتها ، في سبيل تلمس طريقنا نحو إيجاد مقاربة في إطار مشروع وطني إرتري عساه يكون الترياق لداء الفرقة المزمنة التي ضربت باطنابها في الساحة الإرترية ، والذي مكّن للديكتاتورية الانتهازية السبيل لتسلق رقاب الثورة وهياكل الدولة. فالي الملتقي بحول الله ،،،
* الدكتور/ عبدالله جمع إدريس ناشط سياسي وإعلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى