صورة زنكوغرافية لذاكرة جيل… كما رسمها جمال همد

بقلم بشير ادريس نور
يُعد الأستاذ جمال عثمان همد من الأسماء البارزة التي حفرت حضورها العميق في المشهدين الثقافي والسياسي الإريتري، إذ بدأ مسيرته النضالية منذ انضمامه إلى الاتحاد العام لطلبة إرتريا في عام 1978، ومنذ ذلك الحين ظل حاضراً في صفوف المنظمات الجماهيرية، يحمل على عاتقه همّ الوطن والمواطن، ويعبّر عنهما بصوتٍ صادق وقلمٍ مثقف ينبض بالوعي والمسؤولية. بعد الاستقلال، التحق جمال بالعمل في القسم العربي لإذاعة “صوت الجماهير” التابعة لوزارة الإعلام في العاصمة أسمرا، حيث شارك في صياغة خطاب إعلامي وطني تميّز بالموازنة بين المصداقية والتأثير، واستطاع من خلاله أن يلامس الوجدان الشعبي برؤية واعية ومحتوى ملتزم.
في عام 2023 صدرت له عن دار النسيم بالقاهرة مجموعته القصصية “صورة زنكوغرافية لاستراحة المحارب”، وهي عمل أدبي فريد يحمل بصمة خاصة، يمزج فيه همد بين التأمل والحنين والمعاناة، ويقدّم عبر قصصه سرداً يتجاوز حدود الحكاية ليغوص في أعماق الشعور الإنساني، ويرصد تفاصيل الحياة في المنفى والغربة بلغة مشحونة بالعاطفة، تتأرجح بين نغمة الشعر ووقع السرد الواقعي. هذه القصص ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي لحظات مكثفة من الوجع والأمل، تُروى بصدق وبراعة، وتنبض بتجربة أجيال عاشت التهجير والخذلان والحنين الدائم إلى ما لا يعود.
في أحد المقاطع يبرز أسلوب همد في رسم المشهد النفسي من خلال تصويره لموقف التحقيق، حيث يكتب: “عندما ينشغل في النظر إلى الأوراق المبعثرة التي أمامه، يوحي بأنه غارق فيها، لكن عينيه تلتهمانك في صمت، يرصد أنفاسك كما لو كان يعدها واحدة واحدة”، وهي عبارة تفتح الباب لتأمل التجربة الجماعية التي عاشها كثير من شباب إرتريا، وتحمل قدرة نادرة على تحويل لحظات الخوف والانتظار إلى مشاهد نابضة بالحياة، موشّاة بالتوتر والحسّ الإنساني العميق.
الإهداء الذي يفتتح به الكتاب لا يقل أهمية عن النصوص نفسها، إذ يخصّ به والدته وأخاه الشهيد كرار عثمان همد وكل شهداء الثورة الإريترية، في إشارة واضحة إلى مدى ترابط الكتابة عنده مع الوفاء والانتماء والنضال. فالنص ليس فعلًا أدبيًا معزولًا، بل هو استمرار لمسيرة بدأت بالكفاح المسلّح واستمرّت بالكلمة الصادقة والتوثيق النبيل.
شخصيات القصص ليست خارقة ولا بطولية، بل هي نماذج بشرية مرهقة، متعبة، تعيش على هامش الزمن، وتحاول أن تظل واقفة وسط ظروف قاسية وتاريخ مضطرب. بعضها يواجه الحرب وجهاً لوجه، وبعضها يحاول النجاة من شظاياها العالقة في الجسد والذاكرة، فتبدو هذه الشخصيات وكأنها مرايا تعكس ملامح القارئ ذاته، في غربته، وصمته، ومحاولاته لفهم ما جرى وما يجري.
“صورة زنكوغرافية لاستراحة المحارب” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي شهادة أدبية على مرحلة وطنية وإنسانية بالغة الحساسية، ورسالة مكتوبة إلى جيل يعيش التيه بين الأمس والغد. نصوص تُقرأ بالقلب قبل العين، وتبقى في الذاكرة طويلاً، لأنها كُتبت لا لتُنسى، بل لتُستعاد كلما ضاق الأفق واشتدّ الحنين.