مقالات

محمد وردي وإرتريا: ملاحظات شاهد على التكوين : فكري الحسن محمد عثمان*

7-Mar-2012

المركز

سر البرقية التي تأخرت 24 ساعة “إكا آجلي إكامشاكا” وهي باللغة النوبية، وتعني: (أتذكرك وإشتاق إليك)بعد الخبر المفجع برحيل الفنان الخالد محمد وردي، سارع الكل ينعاه. وقد تريثت كثيراً في الكتابة لأن البنان أبى أن يطاوعني لأخط على الورق ما يجيش قي صدري، وقد تذكرت مقولة لحكيم تقول: “إذا أردت أن تخلّد شخصاً فأكتب عن ذكرياته”.

في صبيحة إستقلال إرتريا في 24 مايو 1992، كان الفنان الراحل معي في منزلي بالإسكندرية، وقد كلفني جينها أن أرسل برقية تهنئة إلى دولة إرتريا حكومة وشعباً. وعند ذهابي إلى مكتب البريد، وبعد أن تسلّم الموظف البرقية وقرأها، إنتفض فجأة وقال في لهجة مصرية محببة: “آيه يا عمي إنت عاوز توديني وراء الشمس”. وهذا يعني خوفه من إستجواب رجال الأمن. وفي مساء نفس اليوم تم إستدعائي من قبل رجال الأمن وبدأوا في إستجوابي بتلك الأسئلة السمجة: “لمن هذه البرقية، وما علاقة الفنان وردي مع الإرتريين(؟). وفي نهاية الأمر تمكنت من إقناعهم بأن هنالك علاقة خاصة بين الشعب الإرتري والفنان وردي.وبعد سنوات وعندما أستقر بي المقام في العاصمة الجميلة أسمرا وتحديداً في عام 1996، حضر الفنان وردي في زيارة ثانية له إلى إرتريا بعد تلك الزيارة الأولى التي كانت في العام 1963، وشرفني ثانية أن يكون في منزلي وقضى قرابة الثلاثة أشهر بإرتريا، كانت مليئة بالذكريات الجميلة. أذكر ذات ظهيرة ونحن في المنزل جاءت إحدى الفتيات دون سابق موعد، وقابلناها بكل ود وترحاب، وبداء وردي يتجاذب معها أطراف الحديث. وفجأة إنهارت الفتاة في بكاء حار وظننا للوهلة الأولى أنها تعاني مشكلة ما، وبعد أن هدأت قالت للراحل برجاء حار أن حفل زواجها الأسبوع القادم وتتمنى لو أن وردي شرفها بحضوره. إبتسم العملاق الإنسان ووعدها بالحضور. ويوم الحفل وكنت قد نسيت الموضوع كله، فإذا بوردي يذكّرني لنستعد للذهاب للحفل. ومكثنا في المناسبة قرابة الساعة وعند خروجنا أخذ وردي المايكروفون وغني مقطع من أغنية 19 سنة التي يعشقها سكان الهضبة.أذكر ذات يوم أيضاً وكان الجو بارداً أننا ذهبنا للسوق لشراء بعض الملابس الشتوية، وأثنا إنشغالنا بمشاهدة المعروضات كان البائع (وهو شاب في مقتبل العمر)، ينظر إلى وردي متعجباً ويردد بالتكرينيجا (نوت أسو)!! أي (ليس هو). وفجأة إلتفت إلى وردي وسأله: “هل أنت محمد وردي”؟ فأجابه بنعم، فرد بالإنجليزية Still you are alive (هل مازلت على قيد الحياة!!). فضحك وردي وقال له: “ما لك يا إبني داير تقتلني”.ومن الطرائف أنه وفي ذلك الوقت أقام التلفزيون الإرتري لقاء مفتوح على الهواء مع وردي وكانت هناك مداخلات من المعجبين، وفي مداخلة من أحد الشباب قال له: “يا أٍستاذ وردي أبوي قال لي إنك غنيت في عرس أمه سنة 1933″، أي بعد ميلاد وردي بعام. فتبسم وردي وقال له: “يمكن تقصد جدي الغني ليها”. وعند عودتنا للمنزل قال لي وهو يبتسم: “دا قايلني سيدنا عيسى عليه السلام بتكلم وأغني في المهدي صبياً وعمري سنة”.أثناء تلك الزيارة أتذكر أننا طفنا كل أنحاء إرتريا وأقام وردي حفلات مع الراحل المقيم يماني باريا، والفنان قرماي سلمون أطال الله عمره. وفي مدينة بارنتو وقبل بداية الحفل بدقائق أُصيب الراحل يماني باريا بآلآم حادة في المعدة مما أعاقه من التحرك من الفراش، ومع أن وردي كان يستطيع إحياء الحفل وحده، إلا أنه أصّر على أن يعتذر للجمهور ويؤجل الحفل لمساء اليوم التالي، وظل طوال الليل ملازما ليماني. وبعد سفر وردي للقاهرة بحوالي شهر توفي الفنان يماني ونعاه وردي ببرقية نُشرت في جريدة إرتريا الحديثة.يعتقد بعض الإرتريين أن وردي غني لإرتريا أغنية واحدة (قوال كرن سعداتات) بلغة التقري، ولكن الحقيقة أنه غني لإرتريا في العام 1996 في حفل كبير بإستاد أسمرا حضره قرابة الـ 20 ألف شخص، أغنية (ملالمح إرترية) من كلمات الشاعر الإرتري أحمد عمر شيخ التي يقول مقطع منها:إرتريا السهول والنجودجبالها التغفو على صدر الهوىونسمة تتيه في الوريدأمانة الشهيدومع بدية هذا الحفل كان بعض المقاتلين المعوقين يزحفون بدراجاتهم نحو المسرح لتحية الفنان وردي، إلا أنه نزل وبدأ في تحيتهم فرداً فرداً وأخذ الصور التذكارية معهم.في نفس تلك الزيارة أحيى الراحل حفل في سينما مدينة تسني، وفي المساء ذهبنا برفقة بعض من رجال الأمن المرافقين لنا إلى الحدود الإرترية السودانية وعندما بدأنا نقترب رويداً رويداً من آخر نقطة غير مسموح لنا بتجاوزها، وحينما جاءت النسمات محملة بروائج جنائن كسلا، إنهار وردي وبكى بشدة، مع أنه لم يبكي في حياته، وكان يقول أنه يبكي بكاء داخلياً، فسألته متعجباً ما الذي يبكيك يا محمد قال: “عندما أشتم رائحة السودان وأنا خارج الوطن لا أستطيع أن أسيطر على مشاعري”.كم كان هذا العملاق يعشق السودان، وكم سما فوق العرقية والإثنية وإستطاع أن يصنع السلام والمحبة بين الشعوب. ويكفي إرتريا فخراً أن وردي لم يغني طوال مشواره الفني الطويل إلا بغير اللغة العربية والنوبية ما عدا تلك الأغنية التي غناها بلغة التقري.أللهم أرحم وردي وأغفر له بقدر ما أعطى لهذا الوطن. * فكري الحسن محمد عثمانسوداني مقيم بإرترياFikri.3usman@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى