محطات في تاريخ النضال الوطني الإريتري لقاءات مع مناضلي جبهة التحرير الإريترية( 2/2). إعداد وحوار نقاش عثمان
23-Jan-2019
عدوليس ـ ملبورن
نواصل في الحلقة الثانية والأخيرة من “محطات في تاريخ النضال الوطني الإرتري – لقاءات مع مناضلي جبهة التحرير الإريترية”، حوارنا مع المناضل محمد سعيد إدريس مفلس، حيث كنا توقفنا في الحلقة الأولى من الحوار حول أهم المعارك التي خاضها جيش التحرير الإريتري، قبل معركة “حلحل” التاريخية. فإلى مضابط الحوار :
قبل الدخول في تفاصيل معركة حلحل؛ هل هناك معارك لجيش التحرير تود تناولها؟؟هناك معارك خاطفة كانت تخوضها قواتنا في هذه المنطقة وغيرها من المناطق. فمثلاً في منطقة “جنقرين” التي تقع بين مدينة كرن وحلحل، كانت تجري بشكل متواصل معارك استنزافية للعدو كل أسبوع تقريبًا، وذلك لقربها من كرن. وبسبب هذه المعارك المتواصلة في تلك الفترة عمت حالة الخوف والهلع في قوات العدو الإثيوبي، ومؤسساته الاستعمارية في المنطقة. ويعرف سكان المنطقة ما كان يتردد على أفواه أفراد قوات “الكوماندوس” أي “لو كنت رجلاً انزل إلى جنقرين”. وإذا كنا سنتحدث عن معارك كبيرة في تلك الفترة يمكننا أن نشير إلى ثلاث معارك هامة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر :
1.معركة قرورة الشهيرة
2.معركة حقات
3.معركة حلحل.
قبل الحديث عن معركة “قرورة”، أود أن أشير إلى بعض الملاحظات عن ممارسات قوات العدو الإثيوبي. بدء جيش العدو، في بداية شهر نوفمبر 1967، بحملة كبيرة ضد الشعب الإريتري، وكان من بين تلك الحملة العدوانية إحراق قرى عديدة في المنطقة الثانية وإحراق المزارع. ومن أجل التصدي لهذه الحملة أرسل قائد المنطقة، المناضل عمر حامد إزاز، برسالة الي السرية الثالثة، والتي كانت متواجدة في مناطق “ودقان” و”عيلا ظعدة”، يطلب منها التحرك فورًا باتجاه “عنسبا”، لخوض معارك مع العدو بهدف إيقاف زحفه تجاه القرى.
وعند وصول رسالة رئيس المنطقة فان قائد السرية الثالثة الشهيد عبدالله ادريس ديغول، ونائبه المناضل صالح فرج علي، لم يكونا موجودين مع السرية، حيث كان قد تحركا لأداء مهمات نضالية أخرى. لذلك سلمت رسالة قائد المنطقة لقائد الفصيلة الثانية. وقد جميع قائد الفصيلة الثانية قادة الفصائل وقادة المجاميع في السرية، لإبلاغهم بفحوى الرسالة، وطلب منهم تجهيز الجيش للتحرك فورًا حسب توجيهات قائد المنطقة. وهنا طرأت فكرة للمجتمعين، وهي إذا كان تحريك الجيش إلى “عنسبا” هو لمواجهة العدو، والذي سيأخذ أيامًا عدة، حتى الوصول إلى المواقع المطلوبة، فلماذا لا نضرب العدو هنا في “قرورة”. وبعد الاخذ والرد، اتفق القادة على خوض معركة ضد جيش العدو في مدينة “قرورة”ـ وكانوا يدركون بأنهم سيتحملون نتائج وخيمة في حالة فشل المعركة، لأنهم قرروا خوضها دون الحصول على موافقة من قيادة المنطقة. وكانوا مستعدون لتحمل أية تبعات تنجم عن قرارهم هذا، وبدأ التخطيط للمعركة بشكل سريع.
وعلى الرغم من أن معركة قروة لم يكن مخططًا لها، كما ينبغي، إلا أنها الأسباب لاندلاع هذه المعركة. وكما تم الإشارة إليه، فإن قيادة المنطقة الثانية، كانت تسعى من أجل إيقاف العدو من التقدم ومواجهته في “عنسبا” والتصدي للعمليات العدوانية التي يقوم بها في تلك المنطقة، وإسعاف المواطنين ضحايا ذلك العدوان. إلا أن قيادة السرية رأت مهاجمة العدو في “قرورة” والثأر للضحايا من المواطنين والقرى والمزارع التي أحرقها.
لاشك بأن الأمر كان يحمل مجازفة كبيرة، إلا أن قادة السرية، اتخذوا قرارًا بخوض المعركة ضد العدو في قرورة. وقامت الوحدات هناك بعملية استكشاف المنطقة ومداخل المدينة ومخارجها، ومعرفة عدد قوات العدو ومواقع تمركزها وغيرها من الأمور العسكرية. وبناءً على المعلومات التي جمعت عن المدينة وقوات العدو، تحددت ساعة الصفر للقيام بالهجوم على العدو. وفي تاريخ 26 نوفمبر 1967، في تمام الساعة العاشرة ليلًا، بدأ هجوم جيش التحرير الإرتري، واستمرت المعركة بين الطرفين لأكثر من ست ساعات متواصلة، وانتهت، بحمد الله وعونه، بانتصار جيش التحرير الإرتري، وتم الاستيلاء على كامل معسكر العدو، بمعداته وأسلحته وكل ما كان فيه. كانت معركة قرورة ناجحة بكل المقاييس، ولم يخسر جيشنا سوى شهيدين هما: الشهيد البطل محمد سنوبال، والشهيد البطل ماي بتوت حامد، بالإضافة إلى أربعة جرحى، أذكر منهم المناضل عثمان شريف والمناضل إبراهيم أري.
وعلى الرغم من أن الاستعداد لم يكن كافيًا، كان من بين أسباب نجاح هذه المعركة، عامل المباغتة الذي قامت عليها خطة الهجوم. كما أن ترتيبات الأقدار أيضًا لعبت دورًا كبيرًا في هزيمة العدو وانتصار الثورة، حيث شهدت المدينة هطول أمطارٍ غزيرة قبل بداية المعركة، ما اضطر قوات العدو التي كانت مرابطة في الدفاعات، وبحوزتها أسلحة ثقيلة متقدمة، إلى إخلاء مواقعها. هذا الأمر سهل عملية الهجوم وانتصار جيش التحرير الإريتري البطل. كما أسرنا في المعركة عددًا من الضباط وجنود العدو.
أما عن معركة حقات، وعلى الرغم من أنني شخصيًّا لم أشارك فيها، لكنها تعتبر من ضمن المعارك الكبيرة التي خاضها مقاتلونا الأبطال في المنطقة الثانية في المرحلة التي نحن بصددها. ولا يمكنني أيضًا أن أعلق عليها بالتفصيل، لأنني كنت حينها، في الساحل. إن الهجوم على معسكر العدو في “حقات” والتي جرت في الليل، تمت في منتصف عام 1968، أي في الفترة ما بين معركتي “قرورة” و “حلحل”، وكان من بين شهداء هذه المعركة، المناضل عثمان موسى سلمان، الذي دخل الميدان للتو بعد تخرجه كضابط. وكان من بين الجرحى أيضًا المناضل محمد عافة محمد ادريس. ولكنني لا أعرف على وجه الدقة، عدد الشهداء أو الجرحى من جيش التحرير الإرتري، إلا انه ليس كبيرًا بالمقارنة مع معركة “حلحل” التاريخية. وعلى الرغم من أن العدو قد تكبد خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، إلا أن جيش التحرير الإريتري لم يتمكن من الاستيلاء على معسكر جيش العدو في “حقات”.
قبل الحديث عن معركة “حلحل” حدثنا عن الموقع الجغرافي لـ “حلحل”، والأجواء التي كانت سائدة آنذاك في المنطقة الثانية ؟؟
نعم، قبل الحديث عن معركة حلحل، يجب وضع صورة واضحة أمام القارئ الكريم عن الموقع الجغرافي لـ “حلحل” وسكانها. فمعسكر العدو في حلحل كان يقع في قلب المنطقة الثانية، وحلحل تقع في منطقة مرتفعة والتي تسمى بلغة الأهالي بـ “رورا”، في شمال مدينة كرن، حيث تبعد عنها 30 الي 40 كيلو متر تقريبا، يحدها بالاتجاه الشمالي منطقة ماريا قيح، وبالاتجاه الشرقي يحدها خور “عنسبا”، نزولًا من “متكل أبيت”، وفي الاتجاه الغربي منطقة “معركي”. وأهالي حلحل هم من قبائل “الطوقي” في البلين، ومنها “عد قبشه”، و”عد سمرعين” و “عدحذباي”، و عد تسي” و “عد ظفع”. وحلحل محاطة بقرى “ماي أوالد” و “ارئس” و “متكل أبيت” و “قبي لبو” و “مآتو أنجونا” وهو مكان المعسكر المعروف. وتكتسب حلحل أهميتها أيضًا من أنها كانت آخر معسكر للعدو بين كرن والحدود السودانية.
أما بالنسبة للأجواء التي كانت سائدة في المنطقة، فكانت أجواء أمل وترقب بسبب الوحدة التي بدأت بين المناطق الثلاثة، والحراك العام المطالب بالوحدة داخل جيش التحرير الإرتري، في كل المناطق. كما أن حركة الاصلاح التي شارك فيها مناضلون من جميع المناطق، والتي كانت معظم لقاءات أعضائها تتم في السودان، بدأت تؤتي أكلها، نظرًا للتأييد الذي وجدته من قبل معظم المناضلين وفي كل المناطق. علمًا بأنه، وقبل معركة حلحل ،كانت قد شكلت قيادة موحدة للمناطق الثلاثة، والذي عرفت بـ “الوحدة الثلاثية” بقيادة المناضل محمد أحمد عبده. على كل حال وفي مثل هذه الأجواء، بدأت قيادة المنطقة الثانية تخطط لمعركة حلحل، حيث كانت ترى بأن الدخول في معركة، لن يكون، بأي حال من الاحوال، عائقًا أمام تحقيق الوحدة. وفي تقديري فإن دافع قيادة المنطقة الثانية لاتخاذ هذه القرار الحازم، كان سببه قناعتها بضرورة توجيه ضربة عسكرية ضد العدو، وتدمير معسكر حلحل، كرد قوي على ما قام به من إحراق للقرى الآمنة وقتل المواطنين العزل فيها، ثم الاستمرار في المساعي الجارية لتحقيق الوحدة. ويحضرني في هذا المقام، ونحن نتحدث عن الاستعدادات لخوض معركة “حلحل”، أن المناضل الشهيد عثمان صالح علي، نبه قيادة المنطقة من مخاطر المعركة معددًا الأسباب التي دعته إلى ذلك. وبغض النظر عن صحة هذا الطرح، إلا أنه، في اعتقادي، جاء متأخرًا جدًا، حيث بلغت الاستعدادات أقصى درجاتها، مما كان ينبئ بأننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من ساعة الصفر.
وتجدر الإشارة هنا، بأن أي متابع للوضع داخل المنطقة الثانية في تلك الفترة، كان بإمكانه أن يلاحظ وجود تباين بين المقاتل العادي، الذي كان يأمل في توحيد جيش التحرير كأولوية قصوى، وبين قيادة المنطقة التي كانت ترى دراسة مسألة تحقيق الوحدة بتمهل، حتى لا يحدث شرخ بين القيادة السياسية، المتمثلة في المجلس الأعلى والقيادة الثورية. وما يؤكد ذلك، هو طلب المجلس الأعلى اللقاء بالمنطقة الثانية قبل معركة حلحل، إلا أن قيادة المنطقة أجلت اللقاء لما بعد المعركة، حيث جرى اللقاء بالفعل، بعد المعركة بمبعوثي المجلس الأعلى، في “أسماط”، وتمت مقاطعته من قبل الجيش، وانحصر اللقاء بين مبعوثي المجلس والمناضل الكبير ياسين محمد علي، ممثلًا للمنطقة، نظرًا لاستشهاد قائدها، الشهيد عمر حامد إزار، وغياب نائبه المناضل محمد عمر آدم. وكان المناضل ياسين محمد علي قائد السرية الأولى، والذي يعتبر، تراتبيًّا، الشخص الثالث في المنطقة، بعد رئيس المنطقة ونائبه. وعلى الرغم من أنني لا أعرف تحديدًا ما جرى في اللقاء، لكنني أعتقد بأن وفد المجلس الأعلى قد تأكد من إصرار مناضلي المنطقة على اللحاق بركب الوحدة التي بدأت بالانطلاق، ورفض أي محاولة لحرفهم عن طريق الوحدة.
الروح المعنوية للمقاتل طبعا تعتبر أحد عناصر الانتصار في أية معركة؟؟ كيف كانت روحكم المعنوية قبل المعركة؟؟
الروح المعنوية لمقاتلي جيش التحرير الإرتري كانت عالية جدًّا في تلك الفترة. وكما تناولنا أعلاه، أن جيشنا كان خارجًا للتو من معركة قرورة التي حقق فيها انتصارًا كبيرًا على قوات العدو، بالإضافة إلى ظهور بوادر إيجابية لتوحيد جيش التحرير الإرتري، بعد إتمام الوحدة الثلاثية، والتي عززت الآمال برؤية جيش قوي تحت قيادة موحدة، على طول الساحة الإريترية وعرضها، لتفويت الفرصة على العدو الإثيوبي، الذي يراهن على انقسام الثورة لاستمرار احتلاله لإرتريا، وكذلك ليضع حدًّا لكل الاتجاهات التي تعمل من أجل تمزيق وحدة الجبهة وأداتها النضالية الهامة “جيش التحرير الإريتري”.
هل يمكن أن تحدثنا عن مجريات المعركة؟
في الساعات التي سبقت بداية المعركة، تم تجميع الجيش في مكان واحد، وهو قرية “مآتو” والتي تقع غرب المعسكر، وعلى بعد كيلومترات قليلة من حلحل. وكان الوقت تقريبا الثانية ظهرًا، بتاريخ السابع من سبتمبر 1968 (حسب اعتقادي). وقد شاركت في الاجتماع كافة قيادات المنطقة وفي مقدمتهم قائد المنطقة الشهيد عمر حامد إزاز، الذي استهل حديثه قائلا: “نجتمع اليوم هنا لمهمة عسكرية وطنية في غاية من الاهمية، وتتطلب الكثير من التضحية، وهي تحرير معسكر حلحل. علينا جميعا الاستعداد لتلقين الاوغاد درسًا لن ينسوه، وأنني على ثقة تامة من أنكم ستقومون بهذه المهمة خير قيام، وانا معكم وبينكم حاضرًا.. هذا هو الامر الذي جمعتكم من أجله, وسأكتفي بهذا القدر من الحديث، لأجتمع بقادتكم لتكليف كل منهم القيام بما يجب، وسوف تأتيكم التوجيهات عن طريقهم، وعليكم الآن أن تأخذوا قسطًا من الراحة قبل التحرك نحو الهدف المحدد”. هذا ما أتذكره من حديث الشهيد عمر إزاز الموجه للجيش. وبالفعل انفض الاجتماع مباشرة، ثم رأينا القائد الشهيد عمر إزاز يجلس بعيدًا مع قادة السرايا والفصائل لمناقشة كيفية الهجوم. واستمر اجتماعهم لمدة ساعة تقريبًا. وفي حوالي الخامسة عقدت قيادات الجيش اجتماع آخر للمقاتلين لإصدار الأوامر التي تم الاتفاق عليها مع قائد المنطقة. وقد أشرف على هذا الاجتماع أيضًا الشهيد عمر إزاز، حيث ذكر بأنه تم الاتفاق على الخطة مؤكدًا على أن المعركة ستبدأ في تمام الساعة السابعة مساءً، بأوامر مباشرة مني، حيث سأطلق من مسدسي طلقة واحدة إيذانًا ببدء المعركة، بعد التأكد من أن الجيش أخذ مواقعه، يلي ذلك قيام المدفعية بقذف الموقع، حتى تقوم بمهمة التغطية على مسألة تقدم المقاتل نحو الهدف.
وعند اقتراب ساعة الصفر، تحرك الجيش تباعا للتمركز في أماكنه المحددة سلفًا. وفعلًا بدأت المعركة حوالي الساعة السابعة وخمسة دقائق، كما كان مقررًا بأمر مباشر من قائد المنطقة. وفي بداية المعركة انهمرت قذائف المورترز داخل معسكر العدو ولمدة عشرة دقائق، وكان تصويبها دقيقًا، ثم توقف القصف ليتسنى للقوات الشروع بالهجوم، بدأ الهجوم بشكل عنيف وواجهته مقاومة شرسة جدًّا، ثم تمت محاولة إعادة الهجوم مرة أخرى، إلا أن مقاومة العدو كانت أشرس هذه المرة أيضًا، وهكذا استمرت المعركة ومن كل السرايا المشاركة، وكان في مقدمة القوات دائمًا القائد الشهيد عمر إزاز شخصيًّا، حتى تعرض إلى إصابات بالغة حوالي الساعة الثالثة فجرًا، وتم إجلاؤه على الفور من مسرح العمليات، وجرت محاولات مستميتة من قبل الممرضين لإنقاذ حياته إلا أن الإصابات كما قلت، كانت صعبة جدًّا أدت إلى استشهاده في الساعة السابعة صباحًا تقريبًا، بعيدا عن موقع المعركة. وقد استمرت المعركة حتى بعد إصابة القائد، ولكن بشكل أخف نوعًا ما. وكما علمت فيما بعد، بأن القائد الشهيد عمر ازاز رغم جراحه البليغ، تحدث بصعوبة مع بعض القادة الذين كانوا حوله. وعلى الرغم من أنني لا أعرف فحوى هذا الحديث، إلا أنني أعتقد بأن القائد أمر بوقف الهجوم بعد ما رأى الخسائر تزداد وسط جيش التحرير الإرتري. وفي الرابعة صباحًا تقريبًا، صدرت أوامر بإخلاء كل الشهداء والجرحى من ساحة المعركة، ثم بدأت المعركة تهدأ تدريجيًّا، حتى أن الذخائر أوشكت على النفاد. وقد تم إجلاء معظم الشهداء والجرحى. أما عن الشهداء الذين أخذ العدو جثامينهم إلى مدينة كرن ومثل بها، هم الذين استشهدوا في الهجوم داخل سور معسكر العدو. أما بخصوص نسبة خسائر العدو فكانت كبيرة جدًّا في الأرواح والمعدات، رغم أنني لا أملك إحصائية، وما يؤكد ذلك أنهم ورغم حصولهم على الدعم صبيحة نفس اليوم من كرن فلم يحاولوا اللحاق بالجبهة رغم ان جيش التحرير لم يكن بعيدًا عن حلحل، بل انهمكوا في نقل قتلاهم وجرحاهم طول النهار.
ثمة كلام متداول في أوساط بعض قدامى المقاتلين يعزو خوض معركة حلحل لحسابات سياسية في إطار الصراع الذي كان دائرا بين المناطق العسكرية المختلفة؛ وخاصة مع “الوحدة الثلاثية” ومحاولة الهروب من الوصول إلى توحيد كافة المناطق الذي كان متفق عليه في تلك الفترة؟
الحديث عن معركة حلحل ليس بهذه السهولة، نظرًا لضخامة المعركة، وتوقيتها، والقوة التي شاركت فيها. وكما ذكر في بداية الحديث، أنه قيل الكثير عن هذه المعركة التاريخية، حتى بلغ الأمر لدى البعض، بتوجيه اتهام إلى قيادة المنطقة الثانية بإشعال معركة “حلحل”، هروبًا إلى الامام من استحقاقات الوحدة، التي بدأت حينها بين المناطق الثلاثة (الثالثة والرابعة والخامسة). هذا الكلام غير صحيح، حسب فهمي، ورغم صغر السن وقلة التجربة في تلك الفترة. وبصفتي مشاركًا في هذه المعركة، حاولت سرد ما جرى بأمانة، حسب استيعابي لها حينئذ، وكل ما ذكرته بشأن مجريات “المعركة”، هو استنتاج شخصي، وقراءة من شخص عايش تلك التجربة كمناضل عادي في المعركة. وثمة قيادات بارزة عايشت تلك المرحلة، من أمثال المناضل الكبير صالح سيد حيوتي، والمناضل الكبير محمد نور أحمد، وآخرين، يمكنهم تصحيح المعلومات التي ذكرتها في هذا المجال.
حسب علمي، فإن الهدف من وراء خوض هذه المعركة، بجانب توجيه رد انتقامي إلى قوات العدو الإثيوبي بعد العمليات العدوانية لهذه القوات على شعبنا، وإحراق قراه، كان الهدف تطهير المنطقة من العدو، حيث كان معسكره في “حلحل”، المعسكر الوحيد بين مدينة كرن والحدود السودانية باتجاه الشمال الغربي، أما باتجاه شرق المنطقة وشمالها الشرقي، كانت هناك معسكرات للعدو في مدن “أفعبت” و”نقفة” و”قرورة”، التي كان قد تم تحريرها قبل عام، إلا أن العدو عاد اليها بعد فترة من تحريرها.
مهما قيل عن معركة حلحل، فأنني أرى أنها كانت معركة استراتيجية، وإن الاستيلاء عليها، كان سيمكن الثورة من التخلص من كابوس كبير يمثله معسكر العدو هناك، ويساهم في تحرير جزء من الوطن. ثم هل من المعقول أن نبحث عن أسباب لتوجيه ضربة لقوات العدو أينما وجدت، مادام هدفنا هو تحرير أي شبر من أرضنا؟ لذا أقول أن كل ما قيل حول هذا الموضوع غير صحيح.
وبالعودة للحديث عن المعركة، فإننا لو تحدثنا عن الأسباب التي حالت دون تحقيق الأهداف التي كانت مرجوة منها، فهي عديدة. وكما يعلم الجميع فهناك أسباب للنجاح والفشل في اي عمل عسكري ومن ضمن اسباب النجاح في حرب العصابات هو الهجوم المباغت وعنصر المفاجئة وهذا لم يتوفر في هذه المعركة للأسباب التالية:
•جمع الجيش من مناطق بعيدة وتموضع بجوار حلحل، ومكثنا في القرى المحيطة بها عدة أيام، وهذا يعني بطبيعة الحال أننا سهلنا على العدو متابعة تحركاتنا حوله عن كثب. •نحن كجنود، كنا نعرف أنه تجري استعدادات لهجوم على المعسكر، رغم عدم معرفتنا لساعة الصفر.
•كان الهجوم في ليلة مقمرة مما جعل من إمكانية رصد العدو لتحركنا كبيرًا.•كون الهجوم تم بأعداد كبيرة من قوات جيش التحرير الإرتري المنتمين للسرايا التي تم ذكرها.
وهناك من يعزو فشل المعركة إلى تبليغ أحد العملاء للعدو، قبل 90 دقيقة من بدء المعركة، باجتماع سرايا جيش التحرير في “مآتو”. نعم هذا الحديث صحيح، لكن تبليغ العدو به يعتبر تحصيل حاصل، لأن الدقائق المذكورة، لا يمكن أن تكون ذات تأثير كبير في تغيير نتائج المعركة. وبالرغم من أن المعركة لم تنجح، ولم يتم الاستيلاء على معسكر العدو، فكان لها إيجابيات عديدة، ومنها أنها جاءت في فترة كان يستخف فيها العدو بقدرة المناضلين الإرتريين على الصمود طويلًا، والتضحية من أجل قضيتهم. فجاءت معركة “حلحل” لتؤكد له على أن الثوار الإرتريين مصممون على تحرير بلادهم من الاحتلال، مهما كلف ذلك من ثمن. كما أن هذه المعركة والعدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا فيها، كانت بمثابة حافز للمناضل العادي على مواصلة المسيرة النضالية، وفاءً لهؤلاء الشهداء والأهداف التي سقطوا من أجلها.
ومن الأشياء الغريبة أن قائد الجانب الإثيوبي في المعركة كان إرتريًّا اسمه (شامبل كاسا)، وعلمت أنه عاش في العاصمة أسمرا بعد التحرير، وكان يستلم راتبه التقاعدي، ولا أدري إن كان لا يزال على قيد الحياة أم لا، يحدث هذا في وقت يعيش من تبقى من الذين شاركوا في معركة حلحل وغيرها من المعارك البطولية الأخرى، وأسر شهدائنا الأبرار في مناطق اللجوء والشتات، محرومون من أبسط حقوقهم الإنسانية.
كنا ذكرنا أن المنطقة كانت تتكون من ثلاثة سرايا، لكن بعد معركة حلحل بعام تقريبًا، كونت سرية جديدة، وهي “السرية الرابعة” بقيادة الشهيد أحمد إبراهيم محمد نفع “حليب ستي”، ونائبه الشهيد جعفر جابر عمر.
أما بخصوص خسائر جيشنا، فلاشك أنها كانت كبيرة، لكن وبما أن من تبقى من قيادة المنطقة، قرر عدم إعلانها حفاظًا على معنويات الثوار والشعب، فلا يمكن تحديدها بدقة. وفي تقديري أننا فقدنا ما يقارب السبعين شهيدًا. وفي هذا السياق أود أن أذكر بعض القادة الذين استشهدوا في هذه الملحمة البطولية، وعلى رأسهم الشهيد عمر حامد إزاز، والشهيد محمد علي ظعدا (ضابط)، والشهيد محمد عبي، والشهيد إدريس عثمان، والشهيد آدم درع، والشهيد آدم أبكر، وهو من غرب السودان الشقيق، والشهيد اسماعيل مكلاسي، والشهيد آدم عثمان، والشهيد صالح إدريس توتيل، (شقيق إبراهيم توتيل، فك الله أسره)، والشهيد عثمان اتعروني. والقائمة تطول. رحمهم الله جميعًا بقدر ما قدموا لشعبهم ووطنهم.
وبعد المعركة تم القبض على الرجل الذي اتهم بإبلاغ العدو بمعلومات عن جيش التحرير الإريتري، وتم الحكم عليه بالإعدام.
وعلى الرغم من خسارتها الكبيرة في هذه المعركة، فإن المنطقة الثانية لملمت جراحاتها وأعادت تنظيم صفوفها وواصلت نضالها بفعالية في شتى المجالات العسكرية، وقامت بتكوين سرية رابعة، كما تم الإشارة إليه أعلاه. كما بدأت تلعب دورًا هامًّا في الجهود التي كانت تبذل من أجل تحقيق الوحدة الشاملة لجيش التحرير الإرتري، بعد الوحدة الثلاثية، والتي أفضت في النهاية إلى توحيد الجيش وانتخاب “القيادة العامة لجيش التحرير الإريترية” مكونة من ثمانية وثلاثين عضوًا، وتكوين لجنة تحضيرية للمؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير الإريترية.
وما أريد قوله في نهاية هذه المقابلة، أن معركة حلحل، كانت معركة وطنية كبيرة، أبلى فيها المقاتل الإرتري بلاءً حسنًا في مواجهة جيش معتدي يتفوق عليه عددًا وعدة. وأن وجود بعض الأخطاء في إدارة المعركة وتوقيتها، لا يقلل من شأن هذه المعركة التي تعتبر إحدى الملامح البطولية لجيش التحرير الإريتري.
هل من كلمة أخيرة تود توجيهها إلى القارئ الكريم؟
مرة أخرى أشكرك الأخ نجاش عثمان، على هذه المقابلة، راجيًا من الله أن أكون قد ساهمت، ولو بشكل متواضع، في نقل أحداث عشتها في المسيرة النضالية لجبهة التحرير الإريترية، لعل ذلك يساعد الباحثين والمحللين مستقبلًا على تجميع شهادات المناضلين الإرتريين وتوثيق التاريخ النضالي للشعب الإريتري. وأنني على أتم الاستعداد لتقبل أي تصويب لما ورد في شهادتي، لأن ما سردته كان يعتمد على ما اختزنته الذاكرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رجاء التكرم بإرسال ملاحظاتكم وآرائكم حول ما تضمنته هذه المقابلة على الإيميل التالي:
negashosman@hotmail.com