محمود جابر .. قصة الجاسوس الإسرائيلي. الحلقة الأخيرة
19-Jul-2016
عدوليس ـ ملبورن( خاص )
في هذه الحلقة وهي الأخيرة من هذه الذكريات التي جاد بها المناضل العم محمود جابر .. أحداث مرت عليها أكثر من ( 50 ) عام. تكالبت عليها السنوات، وتكاثف عليها الغبار. العم محمود جابر الذي ترجل عن النضال هاجر للملكة العربية السعودية لكي يعول أسرته ، إلا انه ظل مرتبطا بالثورة والثوار حتى تم تحرير كامل التراب الإريتري. ثم هاجر لأستراليا في نهايات التسعينات من القرن الماضي حيث يقيم في مدينة ملبورن.
عم محمود كعدد كبير من المناضلين الذين كانوا يدونون يومياتهم / يوميات الثورة. هذه اليوميات الكثير منها تعرضت للتلف أو الضياع نتيجة للأوضاع الغير مستقرة للمناضلين في السودان ، كمصادرة بعضها أثناء عمليات الدهم والتفتيش التي كانت تقوم بها السلطات السودانية لمنازل الإريترين وعدد من الأسباب. ما ورد في الحلقات الأربعة يعتمد إعتماد أساسي على ذاكرة الرجل الذي يقترب من العقد الثامن من العمر ـ متعه الله بالصحة والعافية ، لذلك كانت عدد كبير من الوقائع تتداخل أزمنة حدوثها ، كما غابت عدد من الأسماء .. أسماء المناضلين التي كانت فاعلة ومنفعلة مع تلك الأحداث وبطبيعة الحال أسماء الأماكن . لذا يجب التنويه عند قرأت هذه الحلقات.جلس إليه : جمال همــــــدبعد تشكيل الوحدة الثلاثية من المناطق ( الثالثة والرابعة والخامسة ) أبلغتني لجنة منطقة (شعب )ــ بكسر الشين ــ بان هنالك رجل عربي قادم من أسمرا ، ويريد لقاء قيادة الجبهة و هو الآن يقيم بينهم، فسارعت إلى المنطقة حيث وجدت رجل طويل القامة، رياضي الجسم عملاق، ابيض اللون يتحدث العربية بطلاقة، سلمت عليه ورحبت به وسألته من أين قدم وماهي وجهته … الخ من الأسئلة الإستهلالية.فكان رده انه واحد من ( 7) من أخوانكم المصريين يريدون الإنضام إليكم والنضال معكم حسب قوله !، واضاف ان أسمه ( حسن علي حسين) .تم أخضاعة لتفتيش إحترازى ، فوجدت عنده مدية صغير أو ما تعرف بــ ( مطوة ). منذ البداية تغلبت عليً طبيعة رجل الأمن المتوجس ، وبالحوار المستمر معه زادت شكوكي في هويته الغامضة، وهدفه الغير معلن ، ولكن كتمت ذلك حتى اصل للقرار الأخير.بطبيعة الحال دائما احتفظ بدفتر صغير .. وبدأت معه تحقيقا هو أشبه بالحوار، بعد ان مهدت له بالقول ان مصر صديقة ووقفت مع حق شعبنا .. الخ.بعد حوارات استمرت لأيام قاربت الإسبوع ، وكنت شديد الحذر منه وشددت على المقاتلين بضرورة تكثيف الحراسة عليه ،وتوصلت ان الرجل جاسوس وقطعا أسرائيلي ! وبعد ذلك تحركت به نحو مكان تواجد مقر القيادة الذي كان في إقليم اكلي قزاي، وهنالك رفعت تقريري للمناضل محمد علي عمارو وملخصة انه وبالنتيجة لتحقيقي وملاحظاتي ان الرجل جاسوس إسرائيلي وليس بمصري كما يدعي . وهنا إنتهت مهمتي.بعد ذلك عرفت ان الرجل عاش معهم أكثر من ثلاثة أو أربعة شهور دون رقابة بل وصادق بعضهم وفجأة تبخر الرجل من بين يديهم . وأستنفرت الوحداث العسكرية ولجان القرى في عمليات بحث مضنية. من ملاحظاتي ان الرجل كان يعرف كل أنواع الحشائش والشجر الموجود بالمنطقة، ويأكل بعض النباتات البرية .. ورجل نبيه متيغظ الحواس دائما، يبدو عليه الذكاء والقدرة على الإستحواز على مجالسيه. الرجل في فراره كان يحاول الوصول لمدينة مصوع ، لكنه تاه في المنطقة ، ولم أستطيع معرفة الأسباب التي دفعته للهروب، مع ان الأخبار التي كانت تصلني كانت تقول انه في وضع مريح مع القيادة أمثال عمارو فك الله اسره.وأثناء فراره وصل لخور فيه بئر حيث وجد هناك رجل مع أغنامه وبجانبه ولده ، تعرف عليه الرجل من خلال التعميم المرسل لكل سكان المنطقة بأوصافه .قدم له الراعي الماء وطلب منه الإنتظار ريثما يحلب له الحليب من أغنامه التي كانت ترعى حوله وأرسل ابنه إلى لجنة المنطقة ، لكي يبلغها بوجود الرجل المطلوب . عندما أنتبه الرجل لغياب الأبن سأله عن أبنه ثم هجم عليه وامسك به وكان يحاول تهديده لكي يبلغه إلى أين أرسل أبنه حتى وصلت مجموعة من أعضاء لجان المنطقة، وكانوا غير مسلحين إلا ببندقية واحدة من نوع ( أبوعشرة ) ، وبعدها وصلت وحدة عسكرية وألقت عليه القبض وقادته لمقر القيادة . فيما بعد عرفت انه قد تم تسليمه للحكومة السودانية وقد أكد لي المناضل صالح جمجام أنه كُلف بإيصاله للسودان.هذا ما كان من قصة الجاسوس الأسرائيلي ، وبعد ذلك ناضلت في صفوف جبهة التحرير الإريترية إلى حين التقاعد والتفرغ لأسرتي التي زاد عددها وسافرت بمعرفة الجبهة وعونها للملكة العربية السعودية للعمل وهنالك كنت مرتبطا بفرع العمال أقوم بكل إلتزاماتي السياسية والنقابية والمالية . نختتم هذه الحلقات بملاحظة مهمة تعين القاريء وكاتب التاريخ ، هذه الملاحظة يمكن ان تكون سمة عامة من سمات تاريخ مناضلي الثورة الإريترية وهي ان هؤلاء المناضلين تعرض تاريخهم النضالي للضياع والتشوية ، كما تعرضت حياتهم الشخصية للظلم المتكرر ، ضاعت دفاتر يومياتهم نتيجة للإنتقالات المفاجئة بين المنازل في المدن السودانية والأوضاع السياسية أو الكوارث الطبيعية كفيضانت نهر القاش الموسمي بدينة كسلا مثلا ، أو نتيجة لسوء التخزين في مخابيء لا تملك أقل درجة من درجات التأمين.بجانب ان الكثير منهم لم يدون ،وظل الأحداث في صدور الرجال فجار عليها الزمان.