مقالات

من وحي قصص تهريب واختطاف البشر في شرق السودان :أسمريت .. فتاة في المزاد السري (5) – أمير بابكر عبدالله

26-Feb-2013

المركز

(14)جرت الأمور كما هو مخطط لها، فغادرت أسمريت باعتبارها متجهة إلى أسمرا عبر مدينة تسني بعد أن نجحت في الحصول على تصريح المرور. وهو التصريح الذي يصعب الحصول عليه في ظل الأوضاع الراهنة ولا يمكن بدونه تجاوز نقاط التفتيش المنتشرة على طول الطريق. وحالفها التوفيق، حسب خطة المعلم، في وجود عربة عسكرية مغادرة معسكر ساوا إلى تسني في تلك اللحظة وعليها أن تستغل أي عربة من هناك إلى محطتها النهائية وهي أسمرا كما هو مكتوب في التصريح.

استغربت أسمريت عدم سؤال المعلم لها عن مقابل مالي حتى لحظة مغادرته المعسكر، وهو لا تنقصه الحجة ليغادر، قبل يوم من ذلك، ليلتقيها هناك في فندق معين حسب الخطة. لكنها لا تدري أنه استلم الآن ما يعادل ستمائة دولار أمريكي بالعملة المحلية “النقفة” هي ثمن ثلاثة رؤوس باعها للشبكة، وهو مبلغ يعادل في قيمته مرتبه لعام كامل وللآخرين في مجموعته الصغيرة نصيب فيه.هي المرحلة الثالثة من مراحل المزاد السري التي فرضتها التحولات الجيوسياسية في المنطقة وتأثرت بها. فبعد أن سدت المنافذ أمام طريق التهريب إلى ليبيا المؤدي إلى إيطاليا أو السواحل الأوربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. التدفق الأفريقي إلى الحدود الإسرائيلية كان متواصلاً بصورة متقطعة في الفترات الأولى، لكنه تزايد بشكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة رغم مخاطره التي تصل حد القتل برصاصة جندي مصري في محاولة لمنع ظاهرة التسلل.(15)تقول الوثائق التي تنشرها المفوضية العليا للاجئين إن طلبات اللجوء إلى اسرائيل، التي صارت قبلة للهاربين من بلدانهم منذ العام 2006، بلغت 1348 طلب، وبحلول عام 2008 ارتفع هذا الرقم إلى 7700، وفي نهاية 2010 كان هناك حوالي ألف شخص يعبرون سيناء المصرية إلى إسرائيل أكثرهم من السودانيين والارتريين.كانت رغبة الأرتريين تتزايد في السفر إلى إسرائيل عبر هذا الطريق، فغير الظروف الطاردة التي يعيشونها في بلدهم والمعاناة التي يعانونها في سبيل عيش كريم يتطلعون إليه وغياب كل مظاهر حقوق الإنسان، التي تدفعهم للهرب بجلدهم مهما كان الثمن، كانت المعلومات تفيد بسهولة الحصول على عمل في إسرائيل وطبيعة الحياة الناعمة هناك إلى جانب إحتمالات السفر إلى أوربا من هناك وتوفر الفرص لتحقيق ذلك. ثم إن السفر إلى اسرائيل كان هو البديل الأقل تكلفة مالية بالنسبة للراغبين رغم مخاطره الكبيرة مقارنة بالسفر إلى ليبيا في ذلك الوقت.الارتفاع السريع في معدلات الهجرة إلى إسرائيل، وتحت ضغوط كثيرة مارستها جماعات إسرائيلية مؤثرة على مراكز اتخاذ القرار لإيقاف هجرة الأفارقة إلى دولتهم وطرد حتى الذين اكتسبوا حق اللجوء في أوقات سابقة بتوفيق أوضاعهم وترحيلهم إلى بلدانهم، وهو ما قد حدث لمواطني العديد من البلدان أبرزهم مواطنو جنوب السودان. هذه الضغوط أسفرت عن تغييرات أكثر تشدداً في القانون الاسرائيلي بشأن طالبي اللجوء واللاجئين.حدث التغيير الأكثر أهمية في 10 يناير 2012 بتعدي قانون منع التسلل وتمت إجازته بواسطة الكينسيت، وصار التعريف الجديد لا يميز بين اللجئين والمهاجرين غير الشرعيين تحت داعوى حماية الأمن الاسرائيلي وعدم الإضرار به. ووفقاً لهذا التعديل يمكن للسلطات الإسرائيلية احتجاز المتسللين لمدة ثلاث سنوات قبل ترحيلهم باستثناء القصر. لم تكتف اسرائيل بالتعديلات القانونية القاصدة لمنع الهجرة إليها أو على الأقل تقليلها، فقامت ببناء سياج على طول حدودها في سيناء مع مصر وهو المنفذ الذي يتسلل منه المهاجرون وطالبو اللجوء، وكذلك بناء معسكر احتجاز ضخم يسع نحو عشر آلاف شخص قرب الحدود إلى حين إعادة ترحيلهم إلى خارج البلاد.(16)وجدت أسمريت نفسها محشورة مع آخرين داخل صندوق عربة بوكس مع حلول الظلام، ورغم انزعاجها والخوف من المخاطرة التي تخوضها إلا أنها عبأت صدرها بهواء الليل المنعش معلنة في دواخلها قليل من الارتياح وكأن صخرة ضخمة انزاحت من على صدرها. قالت في نفسها “ليحدث ما يحدث”، واتخذت وضعاً أكثر راحة رغم ضيق المكان، وإحساس بخفة جسدها وروحها يسيطر عليها وكأنها بهذه الخطوة ومنذ تلك اللحظة نالت حريتها.شريطان متداخلان يزحمان خيال أسمريت، التي بدت مسترخية في ظل كل التوتر الذي يسيطر على اللحظة الراهنة. صورة الجنرال قبرو ميكائيل ومعسكر ساوا وحياة العبودية التي عاشتها لشهور هناك، تجعل وجهها يتجهم وصدرها يغلي بالغضب، ثم ترتسم على ملامح وجهها ابتسامة لا يراها أحد وهي تستعرض بعض المواقف الطريفة في حياتها الدراسية حتى في السنة الأخيرة. “المعلم” يقف في صدر صور الشريط، وهو ممسك بيدها ويدعو لها بالتوفيق وهو يقول لها وسط دهشتها:-أنا لا أريد مقابل منك، فقط ما عملته هو لمساعدتك، وإذا نجحت في حياتك تذكريني.لكنه حذرها:-منذ هذه اللحظة انت لا تعرفينني مهما حصل.وشريط آخر ينطلق نحو المستقبل، يحمل بين لقطاته حياة هانئة لها تحلم فيه بمواصلة وإكمال دراستها الجامعية والعيش في أوربا. كان داخلها يجاوب على نغمة التفاؤل داخلها بأن “نعم ستلحقين بمحاري في يوم ما وتعيشين كأميرة في تلك البلاد البعيدة”، وصوت آخر يطرق أذنها “لقد فارقت ذلك المستنقع إلى الأبد”.فجأة قفزت صورة امها إلى صدر المشهد وهي تقول لها طلن تجدي الراحة في مكان آخر طالما لم تجديها هنا”.ردت عليها ودمعة رفرفت على مقلتيها دون ان تكمل دورتها ” لكن هنا لا سبيل للراحة ولا للحياة حتى، الموت أرحم. لذلك سأجرب حظي في مكان آخر، لن يكون الوضع أسوا مما هو عليه”.كل ذلك والعربة تشق طريقها في صعوبة بين أشجار المسكيت ومجاري المياه الموسمية عبر طرقات لا يعرفها سوى المهربون. تملمت أسمريت وشعرت بأن شيئاً مهماً حدث، دون أن تدرك أنها وفي تلك اللحظة قد عبرت حدود بلادها إلى داخل السودان.نقلا عن صحيفة الخرطوم -25فبراير 2013م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى