مقالات

في ذكرى الاستقلال :شعب أراد الحياة فاستجاب له القدر ..جمال الدين أبوعامر

5-Jun-2009

المركز

الحرية حق طبيعي , وقيمة مطلقة , ومطلب إنساني نبيل , تبذل الشعوب والأمم في سبيلها المهج والأرواح , ويندرأن تجد شعبا لايتوق إلى السيادة والحرية . يتسامى يوم الحرية وعيدها في مشاعرالشعوب ووجدانها إشراقا وخلودا ويرتقي إلى وسام شرف تكلل به الصدور , وراية عز تزين به الهامات , ولواء فخر تذكى به جذوة البذل والعطاء , وذاكرة تاريخ يستعاد به الأمجاد وتستلهم منه الدروس والعبر.

تلك المعاني والمضامين كانت حاضرة في وجدان وأذهان الشعب الإرتري وهو يتأهب لخوض حرب ضروس ضد مطامح ومطامع قوى الإستكبارالعالمي , والتي حالت بينه وبين نيل إستقلاله السياسي منذ منتصف القرن الماضي بإلحاقه ظلما ودون أي حق طبيعي أو تاريخي , أو قانوني بإثيوبيا , ضاربة عرض الحائط بعدالة قضيته التي كانت تقوم على كل أشكال الحق وبدرجاته المعبرعنه بالمسميات المعروفة شعب ومجتمع وكيان. فكان أن إنتفض بعزم وإرادة دفعا للظلم وردا للحقوق ورفضا للخنوع والخضوع , حيث سطروخلال عقود من الزمان أروع معاني التضحية والثبات والإنتماء كانت كفيلة بأن تحقق أحلامه ، و تحيل آماله إلى واقع مادي كائن رغم أنف دول الإستكبار . بالطبع لم يكن إنجاز الإستقلال حدثاً عاديا , أو أمرا سهلا , أو هدفا جاء على طبق من ذهب , فإرتريا لم تنل إستقلالها نتيجة تفاهمات وحورات كما حدث لبعض دول الإقليم من حولنا ، وإنما نتيجة كفاح مرير خاضته بكل بسالة وإباء وقدّمت خلاله شتى التضحيات المادية والأدبية, طالت مختلف فئات المجتمع وشرائحه رجالا ونساء ومرضى وأصحاء وشباب وأطفال وحتى الذين لم تلدهم أمهاتهم , في تلاحم بطولي , وصمود إسطوري برهنت على عمق العلاقة العضوية التي تربط بين شعب وأرض وتاريخ , فأهله ذلك أن يكون مثالا يحتذى به في الصبر والبذل والعطاء , ورمزا للكرامة والإباء , وعنوان للعزة والشموخ . للتاريخ فإن كل الشعب الارتري ودون إستثناء , وبمختلف توجهاته ومكوناته كان حاضرا في معركة إسترداد الكرامة والحقوق , وإستنادا على تراكم نضالي طويل, وإستثمارا لإمكانيات محدودة وطاقات كامنة وجبارة , وإستغلالا لظروف وملابسات إقليمية ودولية تمكن وبجدارة من إنتزاع النصر المبين , وتخليص البلاد من الإستعمار رغم إختلال توازن القوى بكافة أشكالها وصنوفها , ليقف التاريخ إجلالا لدولة صغيرة جغرافيا وبشريا وماديا , طوعت الظروف والمعطيات لتسجل نصرا حاسما على الإستعمار المسنود بقوى البغي والعدوان , مجسمة بذلك قول الشاعر الكبير أبي القاسم الشابي : إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر ولا بــدّ للظـلـــم أن ينجــلي ولا بـدّ للقيــد أن ينكسـر عشية الإستقلال المجيد كان الشعب الإرتري تحدوه ثمة آمال عراض , أن يرى تكاليف نضاله وعوائد كفاحه وثمار نصره , واقعا ملموسا مجسما , في سلام بديلا للحرب , وعدل بديلا للظلم ، وحرية بديلا للكبت ، وديمقراطية بديلا للشمولية ، ومشاركة بديلا للهيمنة , وأن يرتفع نظام الجبهة الشعبية رغم خيبات الأمل في تجربته الثورية الموغلة في الهيمنة والاستفراد إلى دلالات ومعاني الإستقلال, ليخطو خطوة في الإتجاه الصحيح , بإبتدار موقف شجاع , يفتح بها صفحة جديدة تتناسب مع الحدث الجديد , ويطوي بها صفحات الماضي , بمد اليد البضاء لكافة القوى السياسية والمجتمعية التي ساهمت وبقدر غير منكور في تحقيق الإستقلال الوطني , والتي كانت ومازالت جاهزة لمصافحة أي يد تمد إليها من أجل الوطن الجميل . إلا أن نظام الجبهة الشعبية , وفي سباحة ضد رغبات وأشواق الشعب الارتري , وفي ضربة موجعة لوحدته الوطنية , قرر الاستمرار في سياسات الاستفراد والاستحواز والاقصاء , و إحتكار القرارات والخيارات المصيرية والاستراتيجية للبلاد , في تغيب متعمد لتلك القوة الوطنية , وفي تجاهل لأدوارها , وتشكيك في تاريخها , وإستغناء عن طاقاتها وإمكاناتها , و يكون بذلك قد خسر الدعم السياسي المسنود على الإجماع الشعبي والذي كان يمثل ومازال أهم آليات تحقيق إستحقاقات مابعد الاستقلال, و يكون قد وصل ببلادنا باكرا إلى أفق مسدود , ومستقبل شديد الغموض والتعقيد .. وبلاشك فإن تحقيق السيادة والإستقلال برمزيته ودلالاته المتناهية في السمو , مثل إنجازا تاريخيا كبيرا ومكسبا وطنيا هاما , يستحق أن يكرس له الشعب الارتري , كل تاريخه وطاقاته من أجل اكتسابه , وبالتالي أصبح حقا غير قابل للتصرف , الإ أن الإستقلال يقيم ويزداد رفعة وشأنا بتحقيق معانيه ومضامينه التي ثار وناضل من أجلها الشعب وقدم في سبيلها الغالي والنفيس , فالإستقلال إذا لم يحمل معانيه الحقيقة ويترجم مضامينه , ويعبرعن آماله وتطلعاته يكون إستقلالا شكليا فاقدا للمعنى والمضمون . لذلك كان الشعب الإرتري بوعيه السياسي يعني بالإستقلال معنى أعمق بكثيرمن طرد الإستعمار من أراضيه مع أهميته ورمزيته , ويتجاوز إلى مفاهيم أوسع تبتدئ بإنهاء كافة مظاهر الإحتلال , وفي مقدمها تحريم وتجريم القهر والقمع والقسر تحت أي دوافع أومبرر , و بسط الحريات وسيادة القانون ، وإعلاء وإحترام الانسان الارتري وضمان حقوقه السياسية والثقافية ،وصون معتقداته الدينية وكرامته الإنسانية , وتنهي ببناء دولة نموذج في الوحدة والوطنية والتنمية , في إطار نظام تعددي محكوم بدستور وقوانين ، يقر الحريات ويحترم التنوع الإثني والثقافي والديني , و وتعبرمؤسساته التشريعية والتنفيذية عن إرادة الشعب وخيارته, تلك هي المضامين والدلالات التي قاتل وضحى من أجلها الشعب الإرتري , و جعلها مشروعا لحياته وعنوانا لسيادتة وكرامته , ومدار لحركاته وسكناته . وثمة منطق يقول أن ثمانية عشر عاما من الإستقلال هي فترة سماح كافية لتحقيق بعض مطلوبات مابعد الإستقلال , و تبدو كافية لتأسيس دولة حديثة , آمنة مزدهرة ومتعاونة مع جيرانها , غير أنها وبكل المقايس فترة زمنية معقولة تسمح في قطع أشواط مقدرة على طريق الإنجازات والنجاحات في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية , وتمكن من الإرتقاء بالبلاد إلى مكانة تليق بها بها وسط مثيلاتها من الدول الاقليمية والدولية , لكن يبقى التساؤل مالذي جرى على أرض الواقع ؟ وماذا تحقق من تلك المطلوبات ؟ . وبجرد موضوعي للمكاسب والمطامح والمنجزات التي تحققت خلال الفترة المذكورة سنواجه بصورة قاتمة مليئة بالرزايا والخبايا , وواقع مؤلم عكس ما كان يطمح إليه شعبنا , تحكي كل زواياه المظلمة عن واقع منبت عن أشواقه وتطلعاته , لاتلبي أدنى مطلوباته ، بل في كثير من أجزائه تشكل ضرراً بالغا بالثوابت الوطنية , وبمستقبل الكيان الإرتري . كان من المفترض أن يكون إجلاء المحتل وهزيمته نهاية مطاف لمعانات ومآسي الشعب الارتري ، وأن تكون محطة الإستقلال الزاهية , نهاية أخيرة لأوجاعه وأحزانه , وبداية إنطلاق نحو مسيرة إكمال الإستقلال بمعانيه الحقيقية , قوامه البذل والعطاء والانجاز , فالإنسان الارتري الذي صنع بمجاهداته وكفاحه الإستقلال من قبل , كان يتطلع بإرادة وعزم إلى سصنع مستقبل باهر بإنجاز مقاصد وأهداف الاستقلال, بتسخير كل طاقاته وقدراته في التنمية والبناء, إلا أن النظام القمعي وعبر إعتداءات وحشية منهجية ومبرمجة وبدوافع طائفية , قتل فيه تلك الآمال والأشواق , بل تجاوزه بوقاحة إلى إلحاق أضرار جسيمة به بإرتكاب مظالم وفظائع لا إنسانية غير مألوفة له حتى في عهد الإستعمار البغيض , وتفننت أجهزة النظام القمعية , والتي تذكر بغلاة عصابات الشفتة والكوماندوس في إرهاب المواطنين وإبتزاز خيراتهم والسطو على مصادر ثرواتهم وحياتهم , مما أحالت حياتهم إلى شفا حفرة من الخراب والدمار, فلم يكن أسوء المتشائمين يتوقع أن تكون الاوضاع كما قبلها في عهد الاستعمار , فالنظام الديكتاتوري إكتفى بطلاء سياسات الاستعماربطلاءات وطنية , وإستبدال العقلية الاستعمارية الماكرة , بعقلية وطنية أخبث قوامها إهانة كرامة الانسان الارتري والإعتداء على حقوقه , وتظل الأولويات كما في عهد الاستعمار نهب موارد الإنسان الإرتري وثرواته وإنهاكه بالأتوات التي تفوق قدراته وأمكانياته , وتسخير كل طاقاته وإمكاناته في خدمة وإسعاد صفوة النظام ورموزه في قتل صريح لكل مضامين الاستقلال , وابتلاع بين لمفاهيمه , فتبخر حلم الإستقلال وتحول إلى إستغلال في أبشع صوره وأشكاله , مما يدفع الأحرار من أبناء شعبنا إلى البحث الإضطراري عن ملاذ آمن في أتجاهات الدنيا الاربع , مخلفين وراءهم تساؤل كبير وبصوت مجهض ماذا بقي من معاني ومضامين الاستقلال؟ . ولن يلام إذا والحال كما تقدم من يتشكك في قدرة النظام اليكتاتوري وأهليته في الوفاء بمتطلبات الحفاظ على المكاسب التاريخية التي حققها الشعب الارتري , وعلى رأسها الاستقلال , والتي من أجلها دفع ثمنا باهظا من دمه ولحمه ولعقود متطاولة من الزمان . والمحفاظة على الاستقلال لا تقل قيمة عن الحصول عليه، والتجارب الانسانية في بناء الدول وزاوالها تؤكد بوضح أن إستقلال أي دولة يظل هشاً ومهدداً وعرضة للضياع والإهتزاز إذا لم يتم بنائه على أسس التراضي وبمشاركة ومباركة كافة مكوناته دون إستثناء أو إقصاء لأي أحد منها , وهو مالم يتوفر لإرتريا بسب عنجهية النظام , وتصرفاته الحمقاء , ومنهجه المبني على عقلية الإحتكار والهيمنة وجعل السلطة غاية وهدف ومنتهى , لا وسيلة لتحقيق مقاصد الاستقلال الحقيقية , والتي بالطبع لن تكن من أولوياتها , وبأي حال من الأحوال اللهفة والحماسة اللامحدودين في توزيع روشتتات الحلول لمشاكل وقضايا الجيران الأقارب والأباعد , حتى ليخيل إليك وأنت تستمع في الفضائيات المختلفة إلى رموز النظام ورئيسه في لقاءاتهم وحواراتهم المدفوعة الأجر , أن للنظام يد عليا في تسيير الأمور وتحريك الأحداث بكل أبعادها ومداخلها ومخارجها في الإقليم من حولنا بل في كل أقاصي الدنيا . وياليت النظام يدرك , أن ثمانية عشر عاما من الإستقلال قد رفعت الوعي لدى الانسان الارتري ( الواعي بطبعه ) إلى مستوى أعلى من الإستيعاب والنضج، مما يجعله قادرا على التمييز بين الغث والثمين , و تؤهله إلى إسدال ستار الختام على مرحلة كاملة من التزييف والدجل والخداع ( إستمرت ثمانية عشر عاما ) , وتمكنه من محاصرة العقليات الاقصائية والطائفية التي أدمنت الإحتكام إلى الخرافة والإرهاب والتفكير الأبوي تحت حجج أوهى من بيت عنكبوت ( أن الشعب لم يبلغ مرحلة الرشد بعد , والتي يميز فيها الطريقة الامثل لحكمه – لذلك فالديمقراطية لاتصلح ليس لبلادنا فحسب – بل لكل بلدان العالم الثالث ؟ ) .وفات على النظام بوعي أو بغير وعي أن يتذكر مقولة ، ابراهام لنكولن: «بالإمكان خداع كل الناس لفترة قصيرة، ويمكن خداع بعضهم كل الوقت، ولكن يتعذر خداع كل الناس لفترة طويلة». فقد انتهى عهد الأحابيل وطمس الحقائق ولم يعد أي إرتري يصدق مثل هذه الترهات ، خصوصاً في ظل التخلي التام من النظام عن مواجهة القضايا الاساسية لشعب الارتري وإستحقاقاته المشروعة , والإنصراف عن إهتماماته الحقيقية, إلى مشاريع طائفية التي ليس لها هدف سوى تمزيق النسيج الإجتماعي للكيان الإرتري , وتعميق الشرخ وزيادة الهوة وتوسيع الفجوة بين مكوناته الاساسية . وكم كان يتمنى الشعب الإرتري بأن تأتي مناسبة عيد الإستقلال هذا العام ، والنظام قد خذل كل التوقعات بإعلان عهد جديد وسياسات جديدة , تكون بداية لتسامي بالممارسة السياسية الفعلية ، إلى رمزية أعياد الإستقلال , وإلى جوهرمعانيها الحقيقية بدلا من تجريفها إلى إحتفاليات شكلية تنفق فيها المليارات , كانت أجدر أن توفر طعاما لشعب مازال يتهدد بالمجاعة , لكن يبدو أن النظام كعهده لا يريد أن يتعلم من الدروس، ولا أن يتعظ من عبر التاريخ وتجاربه القريبة و بعيدة , إستعصاما بخرافة أكل الدهر عليها وشرب : ( قيل لأحد الطغاة , أن تسعة أعشار الناس يبغضونك ؟ قال : وماذا يضير ذلك — إذا كان العاشر مسلحا ) . أخيرا : إذا كان العالم كله قد شهد بحق لشعبنا بأنه إستحق إستقلاله بجدارة , فإن هدف شعبنا النهائي والأخير هو إستكمال كل معاني ومضامين الإستقلال ليجني ثمار تضحياته وكفاحه , ويظل تحصيل هذا الهدف هو واجب المرحلة , والواجب هنا فرض عين يتحتم على كل أحرار إرتريا بمختلف توجهاتهم الفكرية وإنتمئاتهم السياسية القيام به وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين . وختاما : ولأن الإستقلال عهد ووفاء , فإن جميع الإرتريين الشرفاء مدعوون اليوم قبل الغد إلى تجديد العهد والوعد بمواصلة الكفاح والعطاء , ببذل جهد إستثنائي , وجعل الأولوية القصوى , والتي لاتسبقها أي أولوية أخرى لتحقيق مقاصد الإستقلال بأعمق دلالاتها ومضامينها , و في أبهى صورها وجمالها , وفي مقدمتها إيقاف الويلات والمظالم التي يوقعها النظام القمعي بالشعب الكريم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى