مقالات

نشوء دول جديدة في القرن الأفريقي- (أرض الصومال ) – (2) (أرض الصومال) * إيرما تاديّا

16-Aug-2017

عدوليس ـ نقلا عن الأفريقية

كانت للتجربة الاستعمارية آثارها الكثيرة على المناطق التي خضعت لها. والقرن الأفريقي، بشكلٍ خاص، هو أحدى المناطق التي اجتمعت فيها قوى متعددة في المرحلتين الاستعمارية وما بعد الاستعمارية على السواء واستخدمت البلدان المختلفة نفوذها فيه، وهي في الغالب ما دخلت في تنافس مباشر لاحتكار الموارد والسلطة. وتُشكل مناطق الصومال المأهولة مثالًا ساطعًا على ذلك نظرًا إلى التقلب الهائل في ردّات الفعل على السيطرة، وهو ما كان له بدوره ارتداداته الحادة على طور بناء المؤسسات بعد تحقيق الاستقلال في ستينات القرن العشرين، إذ أُخضعت الصومال لثلاثة نماذج من السيطرة: الفرنسية والإيطالية والبريطانية، فضلًا على الاحتلال الأثيوبي لهضة أوغادين. ويعكس الاحتلالات البريطاني والإيطالي للمنطاق الشرقيِّة والجنوبية والوسطي

بالتتالي وضعين متعاكسين هذه الأيام، فأرض الصومال المحميّة البريطانية السابقة، أعلنت نفسها جهورية لها مؤسساتها الخاصة وجهازها السياسي الخاص. وهي تدير أمورها على هذا النحو على الرغم من عدم اعتراف المجتمع الدولي بها. وفي المقابل اتخذت المناطق الوسطى والجنوبية سبيلها اليائس نحو السلام الذي لم يتكلل بالنجاح بعد، فهذه المناطق لا تزال تُحاصرها الحرب والمجاعة وعدم الاستقرار.
ثمة جدال حاد بين كثيرين من الأكاديميين والباحثين بشأن الأسباب الرئيسة التي تقف وراء هذه المآلات التاريخية المتمايزة، وهناك إعادة تقويم للعوامل الحاسمة التي وسمت ماضي سُكان الصومال وتاريخهم البعيد وما أقاموه من علاقات مع الفاعلين الاخرين الداخليين والخارجيين. هكذا جرى تقويم البُنى الاجتماعية الأصلية، والتفاعل مع العالم الخارجي، والخصوصيات الثقافية، والانظمة السياسية. ولطالما كانت هناك مسألة الحوار مع الفاعلين المُسيطرين والنحو الذي عدّلوا وفقًا له أساليب التنظيم الاجتماعية – الاقتصادية مثار اهتمام. وتُنَاقش ضروب عدم المساواة التي أعادت إنتاجها العلاققات الاقتصادية والتجارية غير العادلة في المرحلة ما بعد الاستعماريةن وذلك لافتراض أنها تعكس الأوضاع ذاتها التي كانت سائدة في المراحل الإمبراطورية والاستعمارية السابقة.
سوف أكرّس تأملاتي هذه لتحليل أوجه السيطرة الظليلة انطلاقًا من بعض الافتراضات الراسخة، مثل النفوذ السياسي الأوروبي، والعنف المُستخدم في فرضه، اللذين يؤخذان هنا علىأنهما من المسلمات، ويمكن أن نقول الشئ نفسه عن المصالح الخاصة التي رسختها المشاريع الأجنبية في استثمارها واستغلالها الحاليين لبلدان العالم الثالث الأفريقية، ومن ثمّ، فإن أدوار الشعب المُسيطر عليه غالبًا ما طغت على أدوار الفاتحين، وجعلتها أداتِّية وهشّة تمامًا.
من المنطقي أن نشير، عند النظر في هذه الحالة المُحددة، إلى أن زعماء القبائل والنُخب المحلية لم يكونوا بعيدين قط، من أنظمة القوة السلطة التي استوردت بواسطة البريطانيين والإيطاليين. ويتوقف الفرق على مستوى القُدرة التي أبداها المحلِّيون في تعاقدهم مع السطلة الاستعمارية. لذلك، علاوة على المكاسب المُتحققة من نماذحج السيطرة المستوردة، تبقة ثمة حاجة إلى إزاحة النقاب عن مساهمة المحليين في ترسيخ هذه السيطرة.
امّا جمهورية أرض الصومال فبلدٍ فقير تعوزه الموارد عدا مناطقه الجنوبية الصالحة للفلاحة،. وقد غدت الشبكات التجارية العماد الأساس للاقتصاد المحلي، في حين أن الأغلبية العظمى من سكان الشمال هم من البدو أو شبه البدو، ونادرًا ما تقيدهم أى ملكية عقارية، فيما تكتسب آبار الماء أهمية خاصة، وهو ما يُحتِّم تحديد آليات لتنظيم استخدامها بين القبائل عبر وسطاء مناسبين. أما المنطقة الجنوبية فهي على خلاف نظيرتها الشمالية. ويُشكّل الصراع على الثروة، أكانت زراعية أم رعوية أم مساعدات إنسانية، قاسمًا مشتركًا للإدارات الصومالية كلها منذ ستينات القرن الماضي، وصولًا إلى يومنا هذا، أي بعد الاستقلال بصورة خاصة. ومن الواضح أن الصراع حول الموارد قد أفضى إلى إقامة أحلافٍ هشة على نحوٍ متزايد، ما حدّ من الشرعية الحكومية، في حين أُستُخدِمتْ الأقنية المؤسسية في النزاع على السلطة بغية التفوق على الجماعات الأخرى.
كانت الأُطر السياسية التي استوردتها الإدارات الاستعمارية حيوية في صوغ نُظُم إدارة المؤسسات المحليِّة،. وكانت الأساس في اختيار طرائق الحكم في المرحلة ما بعد الاستعمارية تلك الآليات التي كان الموظفون الاستعماريون الاوروبيون يتسخدمونها بغرض ا ستغلال البيئة المحليّة ومواردها. وهذا ما وفرّ للنُخب الصومالية حيِّز مناورتها بدلًا من الإدرات الاستعمارية، كما عزز إرث هذه الأخيرة في اضطهاد جماهير الشعب البائسة.
هذا في حين أقام الإيطاليون علاقة أبوّية مع السعب المُسْتَعْمَر بمنحهم مكانة هجينة، هي خليط من الحكم غير المباشر والنظام الاستيطاني بحسب مراحل السيطرة. كانت محمية أرض الصومال على حافة الإمبراطورية البريطانية، وكان نفعها مقتصرًا على توفير الموارد الغذائية والمخزون الاحتياطي للقاعدة الأهمّ التي كانت موجودة في عدن. وإضافة هذه الحقيقة غلى نمط السيطرة البريطانية التقليدي والنظر في النجاعة القصوى التي كان يُستخدمَ بها الحدّ الأدنى من الموارد في الحكم غير المباشر، تبيّن أن أرض الصومال كانت مهمّشة نسبيًا.
بعد عام (1960)، حين غدا الشمال والجنوب جمهورية الصومال الموحّدة، انتقل جميع الممثلين السياسيين إلى العاصمة مقديشيو، وهو ما أضعف ارتباط المناطق النائية بالعاصمة، بل كاد يجعلها نسيًّا منسيٍّاز وغدت المؤسسات العامة مُرادفة للسلطة لأن كل من كان يُعيّن في منصبٍ بارز كان بمقدورة في العادة أن يحرز الامتيازات لنفسه ولحلقة المُقربين الخاصة به. وانفجرت صراعات مضنية في البرلمان بين القبائل الشمالية والجنوبيِّة بشأن حق التمثيل السياسي المُتناسب مع توزّع البلد الإثني. ولم يتردد السياسيون في فعل كلّ ما يزيد من نفوذهم باعتباره مدخلًا لمزيد من المنافع، في حين لم يُتَّخَذ أىّ إجراء لتحسين أوضاع الشعب المعيشية، الأمر الذي ظلّ على حاله بعد مجئ دكتاتورية سياد بري، وازداد سوءًا بعد عام (1991).
أدّت إطاحة سياد بري إلى قيام منطقتين، لك منهما انحيازها الخاص، إذ بدأت في المنطقة الشمالية التي تُركَت وحيدة وعُزِلت بسبب افتقارها إلى الشرعيِّة، مسيرةٌ طويلة من إحلال السلام وبناء الأمّة، من الادنى إلى الأعلى، واعطت الزعماء الكبار والزعماء التقليديين دور الوسطاء في حلّ الصراعات. أما المناطق الوسطى والجنوبية، فأطلقت عملية سلام من الأعلى والأدنى، حيث قامت الاستراتيجيا الأساس على أن يضطلع المجتمع الدولي بالدور الرئيس باعتباره عامل سلام بالوكالة، وهو ما ترك الصومال رهن ما تفرضه الديناميات الخارجية التي لا تناسب حالة طوارئ مثل هذه.
أُشير، أيضًا، إلى أن الأرث الاستعماري كان العامل المُحدِّدْ في صوغ السياسيات الداخليِّة، ليس بسبب تأثيره في البيئة المحليِّة فحسب، بل لارتباطه أيضًا باعتماد السكان المحليين طرائق في التنظيم الاجتماعي واستغلال الموارد، كرروا فيها الديناميات التي سبق أن خضعوا لها قبل تحولهم إلى جُناة بدورهمز لا يُمكن اعتبار هذا مجرّد قضية ثانوية مُلازمة للاستعمار، بل أنها تستحق مزيدًا من الانتباه والاهتمام البحثي.
______ * بروف إيرما تاديّا – أستاذة التاريخ والثقافة في جامعة بولونيا الإيطالية – المقال منقول من كتاب العرب و القرن الأفريقي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى