مقالات

الكفاح السياسي ابان فترة تقرير المصير وما بعدها

هشــيم الـذاكـرة

بقلم/ عمر جعفر السوري

    في البدء أود تصحيح معلومة وردت في الحلقة السابقة حيث ذكرت أن زلة لسان تللا بايرو الأولى في البرلمان الارتري حيث اساء الادب وخرج عن المألوف وما توافق عليه العامة والخاصة من قواعد التعامل والاحترام حدثت عندما كان رئيساً منتخباً للحكومة. لكن الصحيح انها جرت عندما كان رئيساً للبرلمان اثناء مناقشة مواد الدستور، ثم بعد إقرار الدستور اختير لرئاسة الحكومة الأولى. لذا لزم التنويه.

في فترة تقرير المصير وأثناء عرض مصير المستعمرات الايطالية السابقة في أفريقيا على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ذهبت وفود إرترية الى نيويورك تدافع عن حق شعبها في الحرية والاستقلال، وكان السودان معبراً لتلك الوفود، كما كانت النخب السياسية السودانية معيناً لهم، لا سيما في الشرق وعلى وجه الخصوص في القضارف، تحتفي بهم وتستضيفهم في بيوتها. فكانت الوفود التي رأسها الزعيم التاريخي ابراهيم سلطان تلقى الحفاوة والترحيب ويشد عضدها سياسيون سودانيون، بعضهم كان يتطلع الى خوض ذات التجربة في اللجوء الى الامم المتحدة لنيل حرية السودان، ويسأل الإرتريين بعد عودتهم عن تفاصيل ما جرى معهم ولهم هناك وما وجدوا. وبعد تطبيق القرار الفدرالي الاممي رقم (390-أ-5) الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة وخرق الحكومة الاثيوبية المستمر لنصوصه. بُح صوت الإرتريين من كثرة الشكوى، فلم يجدوا من قناصل الدول العظمى في اسمرا أو من الامم المتحدة اذناً صاغية، فما بقي لهم من مناص الا أن تتحرك وفودهم مرة أخرى الى نيويورك. ذهب المحامي والزعيم الوطني، محمد عمر قاضي، الى الهيئة الدولية. لكنه جاء الى السودان في طريقه الى هناك، فوجد العون والمساندة، إذ ساعده البعض في اعداد مذكرة ضافية عن “قضية إرتريا الوطنية تحت ظل النظام الفدرالي الاثيوبي” ليقدمها لمندوبي الدول الاعضاء؛ طبعتها في كتاب مطبعة التقدم بالخرطوم في العام 1956 وجرى توزيعها على نطاق واسع لتستنهض الهمم دفاعاً عن حقوق مهدورة. من بين من شد ازره السياسي والوزير الراحل، محمد جبارة العوض، الذي درس في القضارف مع مؤسس جبهة التحرير الإرترية ورئيس البرلمان الإرتري الاسبق، ادريس محمد أدم. أصبح محمد جبارة العوض وزيرا للدفاع في حكومة ثورة 21 أكتوبر 1964، وقد كان من بين ثلاثة وزراء فقط على علم بشحنة الأسلحة السورية للثورة الارترية، وقد سمح بنزول الطائرة السورية التي كانت تحمل الأسلحة بالهبوط في مطار الخرطوم. 

لقد عرفت الشيخ ادريس معرفة وثيقة، وامتدت معرفتي به لنحو ثلاثة عقود ونيف، تحدثنا خلالها مطولاً عن تلك الحقبة، وخصوصاً حينما مكثنا سوياً داخل وخارج عريشتيه في “درور نقيب” ثم “امبراسيت” بجبال آر القريبة من مدينة طوكر لشهر كامل في نوفمبر/تشرين الثاني العام 1971 أثناء انعقاد المؤتمر الوطني الاول للجبهة.

      كان ادريس محمد ادم وابراهيم سلطان قد لجئا الى القاهرة التي سبقهما اليها القائد النقابي، ولدآب ولدماريام. هناك ولدت جبهة التحرير الإرترية التي صممت على اعتماد الكفاح المسلح وسيلة وحيدة لانتزاع الحقوق من بين فكي أسد يهوذا، الامبراطور هيلي سيلاسي، بعد أن بطش نظامه بالوطنيين ومنظماتهم ممن اعتمدوا وسائل النضال السلمي، وبين تلك المنظمات حركة تحرير إرتريا التي تكونت بعض فروعها في العام 1958 وسط الإرتريين العاملين في السودان والناشطين في النقابات والاحزاب السودانية. كان من بين القيادات المؤسسة لتنظيم “الحركة” الاديب الراحل محمد سعيد ناود الذي انضم الى الحزب الشيوعي السوداني وفرع اتحاد نقابات عمال السودان ببورتسودان. وبينهم ايضاً محمد موسى محمد (م م م) الذي ما انفك يصدر بيانات الحركة من الخرطوم، بعضها موقع بأحرف اسمه الاولى الثلاثة وأحياناً يكتفي بميمين. كان محمد موسى يعمل لدى أحد تجار الخرطوم المعروفين، الراحل حسن حيموره. وكان م م مثله مثل ناود قريباً من الحزب الشيوعي السوداني، ساعده في ذلك شقيق حسن، الصيدلاني الراحل السر حيموره، الذي درس الصيدلة في جمهورية المانيا الديموقراطية ببعثة دراسية من الحزب الشيوعي.

      شق الإرتريون طريقهم الى البلدان العربية واتصلوا بها دون وساطة من أحد، كما يدعي البعض زوراً وبهتانا. فقد استغل ادريس محمد ادم وجوده في القاهرة مدعوماً من عثمان صالح سبي بعد خروجه من اثيوبيا للاتصال بالسعوديين واليمنيين والسوريين والتونسيين والكويتيين والعراقيين. وجدا ترحاباً في سورية التي فتحت لهم أول مكتب رسمي في شارع الفردوس بقلب العاصمة دمشق وامدتهم بالسلاح والتدريب العسكري والبعثات الدراسية والمال، وذلك بعد تولي حزب البعث العربي الاشتراكي مقاليد السلطة في 8 مارس/آذار 1963. لكن الإرتريين كانوا على اتصال بالنظام السوري الذي سبق البعث قبل ذلك بسنة أو أكثر قليلاً؛ فالمذكرة القانونية التي ما فتئوا يقدمونها الى الامم المتحدة والمنظمات الاخرى والدول والافراد كتبها وزير خارجية سورية في العهد الديموقراطي الذي أتى بعد انفراط عقد الجمهورية العربية المتحدة. سطر الفقيه القانوني الراحل، الدكتور معروف الدواليبي تلك المذكرة التي تُرجمت الى لغات مختلفة، وطُبعت في كتاب ذي غلاف أرجواني، واذاعها راديو مقديشو، إبان حكم رئيس الوزراء، عبدالرشيد علي شارماركي، في حلقات ظل يعيد بثها بين حين وآخر. كان ذلك أول انتصار اعلامي للإرتريين، إذ ان البرنامج الذي قدمه ولدآب ولدماريام من إذاعة القاهرة توقف بعد فترة قصيرة نتيجة الضغوط الهائلة التي مارسها الامبراطور على الرئيس جمال عبد الناصر. اتخذ مسؤول العلاقات الخارجية للثورة، عثمان سبي، من دمشق مقراً ومستقراً، ومن مكتب الفردوس دائرة ينطلق منها. 

كان مسؤول شؤون الثورة في المجلس الأعلى لجبهة التحرير الارترية، ادريس قلايدوس، على علاقة بالبعثيين والاشتراكيين والناصريين السودانيين ومن بينهم المحامي بدر الدين مدثر واسحق شداد وعبد الله محمد عبد الرحمن (الانفزبول the invisible). وجد القادة الإرتريون في منزل مهندس الاتصالات خضر خليل، الذي يطل على محطة الغالي وفندق باريس، ملجأ يتيح لهم العمل بعيداً عن اعين الجواسيس، ومقاطعة المقاتلين القادمين للعلاج وأعضاء التشكيلات التنظيمية وغيرهم.

      كان خضر خليل، النوبي القح، من الاشتراكيين العرب الناشطين، ايمانه بالعروبة لا يتزحزح، وهو الذي يتحدث مع والدته، تلك المرأة القديسة المكافحة، برطانتهم وليس بالعربية. مثله مثل نوبي سوداني آخر، هو عبد الناصر عبدالحميد، الذي قاد القوات المحمولة لحركة فتح في السويداء بجبل العرب، وترقّى في صفوف الحركة الى أن انتخب عضواً في مجلسها الثوري. حينما بطش ياسر عرفات بالجناح اليساري في ذلك المجلس من فلسطينيين ومصريين وعراقيين وغيرهم، أبقى على عبدالناصر (السوداني) ولم يمسسه قط، لاحترامه وتقديره له. عرفت عبدالناصر للمرة الاولى حينما سرنا سوياً مسافة طويلة على الاقدام صحبة الصحافي الفرنسي اللامع جاك ابوشار وفريقه من القناة الفرنسية الثانية (لم تكن الفضائيات حتى حلماً يومئذٍ) في داخل الاراضي الإرترية المحررة. لم يكدر صفو تلك الرحلة الا الانشقاق الذي حدث في صفوف القيادة العامة لجيش التحرير الإرترية وعقد بعض أعضائها اجتماعاً عرف “بمؤتمر عوبل”. ثم استمرت هذه العلاقة في كل المحطات من السويداء الى دمشق وبيروت والقاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى