مقالات

رحيل إدريس طاهر سالم.. موت دنيا :ياسين محمد عبد الله

8-Oct-2009

المركز

سألني الأخ أحمد داير بعد مرور اسبوع على وفاة إدريس طاهر سالم فيما إذا كنت سأكتب عن الراحل فقلت له بالطبع، لكن ليس الآن، احتاج وقتاً لفعل ذلك. والآن وقد مضى ما يزيد على ثلاثة أشهر على رحيل إدريس، أحد أكثر من عرفت صدقا ونبلاً وإنسانية ومرؤة، أدركت أن الوقت قد لا يحين أبداً لأكتب عنه كما يجب، فغيابه المأساوي سيظل جرحاً عميقاً في روحي لذا قررت أن أنشر ما أستطعت أن أكتب عنه بدلاً من تأجيل ذلك إلى وقت لن يأتي أبداً.

التقيت إدريس طاهر سالم لأول مرة في عام 1975 في مدينة القضارف وفي مناسبة زواج إحدى بنات الحاج محمد علي المشهور بحاج (ولع) والذي كان صديقاً لوالده ولوالدي رحمهم الله جميعاً. كان إدريس طاهر في إجازته السنوية حيث كان يدرس في بغداد وقد أتى إلى القضارف من كسلا لحضور المناسبة بعد أن أمضى أغلب أيام إجازته مع أسرته هناك. ومن أول لقاء ربطت بيننا أواصر أخوة وصداقة متينة توثقت عبر مشاركتنا في النضال الوطني من خلال النشاط الطلابي في أكثر سنوات الثورة الإريترية أملا وعنفواناً وجسارة. ثم التقينا بعد ذلك، بعدة أيام، في الخرطوم والتي كانت تعج بمئات الشباب ممن غادروا إريتريا بحثاً عن فرص لمواصلة تعليمهم في الخارج بعد أن صعدت قوات الاحتلال من قمعها في كل أنحاء الوطن، وبعشرات المناضلين الذين كانوا يتأهبون للسفر إلى سوريا أو العراق لتلقي تدريبات في مجالات مختلفة كانت تحتاجها الثورة. ثم لحقت بإدريس في العراق في نهاية يناير 1976 لمواصلة تعليمي وكان هو يدرس البيطرة في جامعة بغداد. لم نكن نفترق في تلك الأيام حيث كنا نسكن في منزل واحد في حي الأعظمية هو في الطابق الأرضي وكنت أنا ضيفاً على الأخ العزيز عمر جابر، متعه الله بالصحة والعافية، في غرفته في الطابق الثاني. كنا نتجول بين مكتبات ومقاهي بغداد ومطاعمها وحدائقها الجميلة التي تحمل عبق التاريخ ، نتناقش حول ما نقرأ من الكتب التي كانت تذخر بها مكتبات المدينة ونتجاذب أطراف الحديث حول أحلامنا، وكانت تلك سنوات الأحلام العظيمة، وعن أسرتينا، وكان كل منا يكن لأسرته مودة وشوق وحنين. لم أتقدم للدراسة في العراق لأسباب ليس هذا مجال لذكرها وسافرت إلى سوريا بعد أن أمضيت حوالي الأربعة أشهر في بغداد. واختار إدريس مواصلة دراسته في مجال آخر غير البيطرة التي كان يدرسها في العراق فجاء إلى دمشق حيث التقينا مرة أخرى وعشنا معاً وتوسعت دائرة الصداقة لتشمل آخرين من أبناء جيلنا حيث ربطت بيننا أواصر صداقة وأخوة قوية وفريدة فتشاركنا الأحلام والأفكار والمشاعر والممتلكات المادية.والد إدريس هو القائد طاهر سالم الذي تزعم مجموعة الإرتريين في الجيش السوداني والذين يعود إليهم فضل التخطيط العسكري لإنطلاقة الثورة الإريترية وقيادتها في سنواتها الأولى والأصعب. كان طاهر سالم محبوباً بين زملائه الذين كانوا يكنون له تقديراً عظيماً وقد لعب دوراً كبيراً في عملية الإعداد للثورة. أخذ إدريس عن والده تلك القدرة العجيبة على العطاء والصبر والتفاني في خدمة الناس.فرقت بيننا سبل الحياة في مطلع الثمانينات حيث سافر إدريس للعمل في السعودية بعد أن تفرغ لفترة للعمل في الاتحاد العام لطلية إريتريا وواصلت أنا دراستي والتحقت بعد إنهائها بالثورة. لم نلتق تقريباً في عقد الثمانينات سوى ثلاث مرات عند قدومه للسودان والتقينا ثلاث مرات أيضاً في التسعينات في السعودية عند زيارتي لها في الأعوام 1994، 1997 ،1998. كان العام 1998 هو آخر عام التقي فيه إدريس، إذ لم أسافر أنا إلى السعودية ولم يأت هو إلى السودان أبان تلك السنوات. لكن المأساة الأكبر في غربة إدريس إنما تكمن في عدم رؤيته بناته وزوجته خلال تلك السنوات ؛ حيث لم تكن الظروف تسمح بسفرهم إليه ولا بقدومه هو إلى السودان. ولأنني أعرف إدريس أستطيع أن أتخيل مكابدته بسبب هذا الحرمان، فكيف تحمل الجسد النحيل أشواق وحنين القلب الكبير؟ كان إدريس أبا مثاليا بدرجة تفوق حد التصور حيث ظل وهو المصاب بواحد من أخطر الأمراض يواصل عمله ويسافر حوالي مائتي كيلومتر من الطائف إلى جدة ليأخذ العلاج ثم يعود إليها ليواصل عمله حتى يوفر لأسرته حاجاتها ولبناته مصاريف الدراسة في الجامعة والعيش في الخرطوم. رحل إدريس في حلقه غصة وفي قلبه شوق وفي عقله قلق على بناته كما أخبرتني أخته رقية. وكان عندما أهاتفه من الخرطوم يؤكد لي أنه لا يريد أن تعرف بناته بمرضه، لم ير د أن يقلقن عليه حتى في أكثر أوقاته قسوة وألماً، لقد ضحى بمواساة يحتاجها حتى لا تتألم بناته.لن أنسى ذلك اليوم الحزين، يوم الجمعة 26/6/2009 في الساعة العاشرة والنصف صباحاً عندما اتصل بي الأخ عمر أحمد عبد الماجد من السعودية لينقل لي الخبر الحزين، نبأ وفاة إدريس. كان عمر هذا نفسه، بإنسانيته ونبله الفريد، هو الذي اتصل بي قبل ذلك بعام ليخبرني أن حال إدريس الصحية قد تحسنت، كان فرحاً للتحسن الذي أظهرته نتائج فحص ظهرت في ذلك اليوم، وكريماً باتصاله بي ليطمأنني على إدريس مع أنه هو نفسه يعاني مرضاً مزمناً أنهك جسده شفاه الله وألبسه ثوب العافية. كانت الصدمة كبيرة مع أنني كنت أتوقع الخبر، فعندما اتصل بي محمد مدني في اليوم الذي سبق الوفاة خفت أن يكون اتصاله بي من أجل إبلاغي النبأ الأليم وقد شعر مدني بذلك فكان أن بدأ حديثه معي بطمأنتي على صحة إدريس. لم استوعب هول الصدمة ومرت لحظات صمتُ فيها، ثم انهرت لقد ودع الدينا في تلك اللحظات أعز وأنبل وأحب من صادقت … يا لهول ما حدث!! اتصل بي بعد ثلاث ساعات من مكالمة عمر، الأخ مصطفى نافع الذي كان يعتقد أنني لم أسمع خبر الوفاة، هنا وجدت نفسي أمام الصورة الحزينة كلها فمصطفى ليس زوج رقية طاهر سالم وفقط بل هو أيضاً شريك في تلك العلاقة الإنسانية العميقة التي جمعت بين أبناء جيلي في دمشق، رأيت إدريس أمامي، رأيتهم لكهم حوله في لحظات الرحيل الحزينة ، رقية ، خديجة لجاج، مصطفى، الحسن جعفر وغيرهم من الأصدقاء وهنا أيضا انهرت فما كان من مصطفى الإ أن قال إنه يفضل الاتصال بي مرة أخرى. لم أستطع في ذلك اليوم الحزين مقابلة أي من بنات إدريس الثلاث الموجودات في الخرطوم ذهبنا، زوجتي وأنا، إليهن في منزل عمهن سالم طاهر سالم في حي الأزهري لكنني لم أكن في وضع يمكنني من مواساتهن، طلبتَ إلى زوجتي أن أحاول لكنني كنت عاجزاً عن فعل أي شيء فقلت لها سأقابلهن في كسلا بعد أن يلتقين أمهن، ليس الآن، هذا فوق طاقتي ولن يفيدهن أن ألتقيهن الآن وهكذا التقيت الفتيات في كسلا حيث سافرنا جمعيا إليها في اليوم التالي.الأ رحم الله إدريس طاهر سالم وأسكنه فسيح جناته وجعل البركة في بناته،أحلام، ريهام، هيام ومرام، وأنزل الصبر على زوجته ورفيقة دربه شادية، وعلى أخوانه وأخواته. العزاء لأسرة طاهر سالم، العزاء لتوأمه الروحي، شقيقته رقية.. ولشقيقته الأخرى التي لا تشاركه اسمه الثاني خديجة حامد لجاج والعزاء للذين صادقوا إدريس ووقفوا بجانبه في أوقاته الصعبة. العزاء للذين شاركوا إدريس الأحلام ذاتها في سنواتنا المجيدة، السنوات التي كان إدريس بنبله ونكرانه لذاته أحد أكثر المساهمين في تشكيل طابعها الإنساني الفريد.* وأنا أكتب عن إدريس طاهر سالم لا بد أن أترحم على أخ وصديق آخر رحل عن دنيانا في يوليو الماضي إثر علة لم تمهله طويلا، أحد أبناء جيلنا وزميلنا في الدراسة في سوريا،الإعلامي النابه والإنسان النزيه، طيب المعشر محمد إبراهيم دبساي. رحم الله دبساي الأخ والصديق العزيز وأدخله فسيح جناته وألهم أهله الصبر والسلوان، والعزاء لكل الأصدقاء في هذا الفقد العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى