مقالات

حتمية الاتفاق حول سدّ النهضة. بقلم/ ابوبكر كهال

15-Jan-2016

عدوليس ـ نقلا عن القدس العربي

بلغت المفاوضات الماراثونية حول سد النهضة مراحلها الحساسة والحاسمة. فهذه المفاوضات التي تخوضها كل من مصر وإثيوبيا والسودان، والتي انتهت جولتها الثانية عشرة في الخرطوم مع نهاية العام الذي غادرنا، أثمرت الكثير رغم ما مرت به من انسدادات.ومن هذا «الكثير»، ما جاء في اتفاقية المبادئ التي تمت المصادقة عليها في 23 مارس/آذار 2014، من قِبل قادة الدول الثلاث، والتي تضمنت فقرة تُلزم دولة المنبع (إثيوبيا) بعدم الإضرار بدولتي المصب (مصر والسودان).أما اجتماعات الجولة الأخيرة فهي الأهم لجهة ما تمخّض عنها من نتائج أنقذت المفاوضات ككل من الانهيار، وذلك بتوصل الدول الثلاث إلى نقطة اتفاق

محورية. وهي عدم البدء في تعبئة بحيرة السدّ قبل الاستماع للدراسات العلمية والآراء الفنية البحتة التي ستقدمها مكاتب وشركات استشارية متخصصة حول أمان السد وسعة بحيرته التي ستخزن 74 مليار متر مكعب من المياه، ونسبة ما ستفقده كلّ دولة من نصيبها المعتاد، وما إذا كانت قادرة على تحمّل ذلك.ويبدو أن التفاهم حول عدم البدء في تعبئة البحيرة قبل اكتمال التصورات الفنية والعلمية جاء كحل وسط بين رغبة إثيوبيا مواصلة عملية البناء لإنهاء الأعمال في الوقت المحدد لها ( 2018 )، والطلب المصري الداعي لوقف أعمال بناء السد والتفاهم أولاً. إن الالتزام بعدم الإضرار بدولتي المصب، وإرجاء تعبئة البحيرة يعنيان أن المفاوضات الحقيقية ستبدأ انطلاقاً من نتائج الجولة الأخيرة. ويمكننا تشكيل ملمح أوّلي لما ستكون عليه الاتفاقية النهائية التي لا يُعتقَد أنها ستكون قريبة، فالمفاوضات حولها ستطول بسبب تشعب التفسيرات والأهم التأكد (علمياً وفنياً) من الضمانات حول أمان السد وضمان عدم انهياره نتيجة للعوامل الطبيعية أو أخطاء التشييد والذي سيبلغ ارتفاعه 145 متراً، وهو ارتفاع غير مطمئن بحسب بعض الدراسات. في حين تمنحه دراسات أخرى نسبة أمان عالية.لقد جاء وضع حجر أساس السد مفاجئاً لمصر، وفي وقت مربك جداً لها، وهو عام 2011، عام الهزات السياسية عربياً. وكان نظام الحكم الذي خلف نظام مبارك تائهاً في كيفية التعامل مع المسألة، وكل ما بدر عنه هو إطلاق عواطف الناس ومشاعرهم المتخوفة. وقد مثل هذا بداية صعبة خلال الجولات الأولى للمفاوضات التى استقامت في النهاية ووصل الجميع إلى التفاهمات الأخيرة، وهي على ما يبدو إيجابية جداً.بالنسبة لإثيوبيا، يعدّ السد من الطموحات والأحلام القديمة التي أجلت الظروف إنجازها. وهو طموح مشروع تحتّمه حاجة البلد لاستثمار موارده نحو مشوار تطليق حقبات التخلف والمجاعات التي اشتهرت بها إثيوبيا، والانطلاق نحو آفاق التنمية، وهو حق أقرته كلّ من مصر والسودان لإثيوبيا على اعتبار أن السد ذو صبغة تنموية وفق اتفاقية المبادئ. وبناء على هذا الإقرار من دولتي المصب اللتين أكدتا موافقتهما على استمرار بناء السد تهاطلت على إثيوبيا التمويلات والقروض من الدول والصناديق المانحة.وبالفعل، فإذا ما تم تشغيل سد النهضة فإنه سيغير الحياة في إثيوبيا والمنطقة ككل، وستتحقق كل تلك الآمال العراض والطموحات والأحلام التي راودت الإنسان الأثيوبي، حيث ستكون إمدادات الطاقة الكهربائية متوفرة لكل بقعة من بقاع تلك الدولة وبتكلفة ضئيلة جداً، كما إن الطاقة الكهرومائية المتولدة من توربينات سد النهضة يمكنها إضاءة أجزاء واسعة من إفريقيا. ومن الإغراءات التي ما انفكت إثيوبيا تقدمها لكل من مصر والسودان، تزويدهما بالكهرباء بأسعار رمزية، وهي تكافح لطمأنتهما بعدم تسبب السد في إنقاص نصيبهما من المياه، والتأكيد أن الأضرار الجانبية إن وُجدت فستكون طفيفة جداً.لقد بلغت المفاوضات هذه المرحلة المتقدمة على الرغم من كل التعقيدات الناتجة عن حساسية المسألة، أما أحاديث الميديا في داخل مصر وخارجها التي تتعمد أحياناً إظهار المفاوض المصري كأنه يقاتل ( في الزمن الضائع ) لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن الخسارة حاصلة لا محالة، فيمكن إدراجها في باب المماحكة السياسية، لأن واقع الحال غير ذلك. فالمفاوضات تحقق تفاهمات مشجعة، وتبين نية كل من الدول الثلاث ورغبتها في الوصول إلى اتفاق يفجر طوفان الطمأنينة على قلوب شعوب تخاطفتها الهواجس والمخاوف وما سيصيب حيواتها من تبدل في حال تم المساس بنصيبها من الماء.هذه الحالة أوضح ما تكون في مصر، لما يمثله النيل من دور أساسي في حياة سكان وادي النيل، ولدوره كذلك في نشوء الحضارة المصرية التليدة.وما دمنا جئنا على سيرة الحضارة، فالأمل أن تأخذ الدراسات الفنية المتعلقة بالسد في حسبانها أن النداوة غير المرئية لمياه النيل التي تستمدها أهرامات الجيزة وكل تلك الصروح الحضارية الإنسانية الواقعة على امتداد النيل هي التي تحافظ عليها وتبقيها على قيد الوجود فوق الأرض. فأي نقص لمعدل الجريان الطبيعي لن يصيب حياة الإنسان والنبات في مصر فقط. بل إنه سيصيب كذلك الإرث الإنساني العظيم المملوك للبشرية جمعاء، وبالتالي سيندثر في زمن قريب وتخسر البشرية إحدى أعجوباتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى