مقالات

تجاوز الخطاب الثوري إلى المدني (1 من 3). بقلم / محمد قناد

21-Dec-2015

عدوليس ـ ملبورن

كل الثورات افرزت أدبها حسب بيئتها ومرحلتها وزمنها، ويعتبر المنتوج الثوري دائماً رصيف اساسي ومنصة انطلاق نحو افاق واسعة من الابداع، لان الثورات التي لا تبرز اي ابداع في مناحي الحياة المختلفة والمتعددة، لا ترقى الي مستوى تعريفها كحالة ثورية يجب الاهتمام بها وقرأتها علي ضوء المنعطفات التاريخية، فصفحات التاريخ ذاتها لا تحفل بالحياة العادية، او تشهد علي تدوينها ومتابعتها، بل لا تجد بينها شخصيات عادية مرت علي الحياة دون ضجيج ، بقدر ما تحاول هذه الصفحات تدوين الاحداث التي عملت علي تغير مجرى الواقع الذي كان، الي صحاري وبيداء انسانية تخضر بالاحداث، ويبرز هنا استشكال في اهمية تدوين التاريخ او في كيفية تدوينه ومن الذي يملك كفاءة التدوين من بين الاطراف التي كانت جزء من الحدث .

ولما كان هذا السؤال معروضاً للابحاث والحفريات ويستمر في عرض نفسه كلما جئنا لقراءة حقبة معينة، اصبح العقل الانساني في كل مواقفه التحليلية ازاء ذلك يركن الي مظاهر الحدث المدون دون الغوص الي حيث تربة البذرة التي صنعت شجرة التاريخ، وكان الناقد السيمنائي الباريسي واضحاً في حسم هذا السؤال والانتهاء منه بطريقة قمعية وديكتاتورية رحل بها كل هذه التجارب الي رفوف النسيان العقلي تحت شعار ، ان التاريخ يكتبه المنتصر ، وهو الشعار الذي ادخل العقل الانساني في نفق الطبقيات قديماً وحديثاً، وقد حد من مساحة الحركة العقلية داخل الحدث التاريخي زمانياً ومكانياً وثقافياً، و اضحت الاركلوجيات العقلية عند بعض الشعوب من ترف القول والرياضات الغير نافعة للعقل لانها تغرد خارج واقع الحياة الحالي، فاصبحت شاهدة علي نفسها بالتخلف .فالثورات دائماً تحدث في اسوأ مراحل الشعوب وهي الحد والخط الفاصل بين انتهاء انحدارهم وبداية صعودهم بعد اكتمال الشروط الموضوعية والذاتية، وتبدأ كحركة داخلية فردية قبل ان تكون خارجية نحو حاكم او مستعمر، وعملية اعتراف كاملة ، تبنى علي تشخيص شجاع وانصياع اشجع نحو العلاج، حيئذ تصبح الثورة هي البوابة لدخول الحياة والمحاولة والتجربة التي لا تقبل غير الانتصار، لان الاشياء فقدت قيمتها حتى فكرة الوجود في الحياة، ويصفها شيشرون في تفسيره لاسباب الثورات، بانها حالة يعجز فيها الحاكم تحمل المحكوم، ويضيق فيها المحكوم من وجود الحاكم، حينها لأبد ان يتخلص الطرفان من بعضهم، ما يعني انها استخدام اخر الاشياء بعد نفاد كل الاشياء ، بمعنى انها اخر طلقة للحاكم امام اخر صرخة للمحكوم.فالثورة مرحلة دقيقة وحادة كحد السيف تقطع كل ما يقف امامها لذا يجنح الكثيرين لتعريفها بانها حالة ايدلوجية، وعمى لا يرى غير الهدف ولاترضى الوقوف قبل الوصول للهدف، لذا اي محاولة للوقوف أمامها تعني النهاية لكل العوائق والمتاريس، لذلك الثورة لا تقبل اي عملية نقد اثناء احداثها، لان النقد عندها يحمل اسم اخر، وتترتب عليه عقوبة لا مناص منها، فكل الثورات تحمل أدب الخيانة داخلها كتعريف لعملية النقد او الخروج عنها، لأي سبب كان موضوعي او شخصي ، لان منطقها هو ، علينا الوصول الي هناك ومن بعد ذلك يمكننا التحدث في كل شيء يمنع الحديث عنه الان ، لذا الاستمرار معها او المشي مع موجها اسلم، حتى لا تموت فكرة النقد قبل توفر شروط صحية لتقبلها وظهورها و وصولها الي اكبر قدر ممكن من المساحات الثقافية، إلا اذا انحرفت هذه الثورة عن مسارها حينها يصبح الوقوف أمامها وارجاعها للطريق الصحيح نحو الهدف المقصود.لذلك يعتبر الخطاب الثوري نافع وضار، ينفع حين الثورة، ويضر اذا استمر بعدها ، بل يصبح عائق أمام اي بناء معرفي، باعتبار النقد هو اول طريق النهوض والشك سبيل التجارب، والمعرفة لا تزدهر، فحين يدخل الخطاب الثوري الي الحياة المدنية تتعسكر الحياة وينتهي الامان والاستقرار، وتتلاشئ سبل بناء اي حضارة ومدنية، فتستمر حالة الانحدار التي كانت سبباً للثورة، والاسوأ من ذلك ان الخطاب الثوري لا يعترف بالتعدد كأساس لعملية الاستقرار، ولا يؤمن بالإختلاف باعتباره روح الابداع في بناء التفاعل التناسقي لعملية الصعود الانساني والحضاري، ويتطور هذا الأمر حتى يصبح ثقافة مجتمعية في كل مناحي الحياة خاصة السياسية والادبية وكذلك يحدث خلل في الجانب الاقتصادي والمعرفي ، ففي السياسي تجد جبهة معارضة لاستمرار الخطاب الثور القديم لكنها قائمة علي هذا الخطاب الذي تعارضة ، فتجدهم اكثر تخويناً لبعضهم من الحاكم الذي يبث الروح في استمرار اللغة القديمة، وهو ما يحدث اليوم في واقعنا السياسي، خطاب يحمل داء الفناء ويقفل اي محاولة للنهوض او الخروج من المازق و الوضع برمته، وهو الخطاب الأجوف و الفارغ من كل المضامين (خونة ، مرتزقة ، عنصرين ، طائفين ، ينسجون مؤامرة ، يحفرون لنا ، يتفقون ضدنا ) وهكذا يصبح خطاب الثورة صنم تدعمة حالة اللاوعي فيستمر واقفاً ، حاكما ، ومعلماً ، وشاهداً علي جريمتنا التي نرتكبها ضد حاضرنا ومستقبلنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى