22-Oct-2016
عدوليس ـ ملبورن
مساء يوم السبت 15 اكتوبر الماضي، شاهدت ابرار عثمان لأول مرة يغني على خشبة المسرح. لم ارقص على ايقاع اغانيه، وإن هزني الطرب، لأنني كنت ابحث في المعنى والدلالة وغناء الجسد.لاحظت كيف يحاول ابرار “القبض” على المعنى: ينثني بجسده إلى الإمام، يعتصر الكلمة، تمسك يده اليسرى بالميكرفون، وتسافر يده اليمنى تجاه موضع القلب. تنقبض الأصابع، وهنا هنا بينما تضغط الكف على القلب تزاحم الآهة الكلمة، يزيد انثناء الجسد، ينعقد الحاجب، وتطول الآهة
ثم : يستقيم الجسد وتطير الكلمة بيضاء كحمامة وينفرج الحاجب وتضئ المسرح الابتسامة.بين تلك الآهة المقبوضة والابتسامة المسافرة قضيت ليلتي متدثرا بأغنية ابرار في ليل زيورخ البارد.
في الصباح لملمت بقايا نفسي وحاولت التحرر من عطر الغناء الآسر وتسلحت بذخيرة لقاءات عتيقة وحميمة مع الراحل يماني باريا، وهيلي قبرو، والامين عبد اللطيف وادريس محمد على وعثمان عبد الرحيم وأحمد ود شيخ وخديجة آدماي.
ابتسامة ابرار والاريحية الطاغية احالت ذكرياتي إلى رماد. جردتني صوفية العاشق من تلك الذخيرة التي كنت اعدها عندما ” أرواغ” فنانا، واراوده عن أغانيه.مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليس على خشبة المسرح، بل أمامي على طاولة نتناول عليها فنجان قهوة صباحي، زاحمت الآهة الكلمة، ليس غناء بل سردا حميميا متوشحا بصوفية عاشق هي مزيج من حكمة الغرب التليدة وصوفية الشرق المغتسلة بماء العشق.
لم يقل أبرار كلمة واحدة في الفلسفة أو الحكمة، ولكن رأيت يديه وهما تبنيان، أثناء شرحه، عالما من الفلسفة الرواقية التي هي رأس حكمة اهل الغرب. وهي مذهب يقول بأن العالم كله عبارة عن قصيدة خالدة ، منسجمة ومتواشجة، كل نغمة فيها تجسد معنى وعلى الإنسان أن يسمو لفهمها، وتحديد دوره في الكون الكبير.
يقول ابرار، وكأنه ماركوس اوريليوس ذلك الامبراطور الحكيم: الوطن جسم واحد، إذ مرض له عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. انت يد يمنى في الوطن وأنا الاخرى، نحن اليدان: نصفق، نبني ونتعانق. لا يكون لوجودنا معنى دون الآخر.
نقلتني الصورة إلى اثينا القديمة ومعبد دلفي كأنني أكحل ناظري بنبوءة تغتسل في نهر الخلود.وانسابت الرحم في نهر الحديث. قال ابرار: الوطن رحم يا أخي: هل سمعت يوما أن رحما ضمت توأمين غريبين في احشاءها. انت وانا وهو كلنا اطفال في رحم أم واحدة.ثم غادرت بخيالي لأرى تلك الرحم المتعلقة بعرش الرحمان والتي سألته بعزته وجلاله أن يصل من يصله ويقطع من قطعها.
الوطن رحم أم نحن ابناءها: كيف نقطعها؟…………… كيف نتقاطع؟ كيف يهون علينا الجفاء؟وتوارت الآهة لتحل محلها في العين دمعة، لم يخفها زجاج النظارة الشفيف، دمعة أرادت أن تطفر وهي تحكي عن الرحم، كانت دمعة مرتجفة كعصفور قرير….. ثم جاءت تلك الابتسامة البيضاء لتكفكف الدمعة قبل الهطول.
فنجان قهوتي احسست به ثقيلا يكاد يهوي ليرتطم بالطاولة، شعرت بدفء تلك الرحم تنقذ نهاري الذي يحبو في بداية مشواره.
_ وأنت يا ابرار: كيف انت بعيدا عن رحمك؟لو سمعت اغنيتي لعرفت أني سمكة صغيرة بريئة تموت كل يوم بعيدا عن ماء الوطن.
ثم رشتني موجة من بحر الوطن ليستضيء المعنى عندي: بما أنك لا تعيش في ارتريا، هي التي تعيش فيك إذن.
وغرد قائلا: صدقني، لم أغن لسواها، هي شمسي….. خذها مني وبكل بساطة وتعاسة سوف يلفني ظلام ابدي…. انا لا أكون بدونها. هي امي: واولادها وبناتها أخوتي.
انا انسان بسيط، ولكني اعيش بقلبي وعقلي، ومدرستي الحياة: تعلمت في مشوار الحياة كيف اخبئ وطني في قلبي وعقلي.
ثم جاءت صوفية الشرق تسبح في افق الحديث كغيمة حبلى، يأخذ برسنها هذه المرة الامام النفري: المتقرب الى الله والمتوسل اليه بمحبة الخلق. لم يذكر ابرار الامام الصوفي النفري ولكنه استعار لسانه حينما قال: عندما اتحدث بلغتك، وعندما أغنى بها، فأنني يا عزيزي: ” اجبر بخاطرك”يا الهي.
_ نعم أجبر بخاطرك، لأني أعزك، ولأني أقدرك، ولأني فوق ذلك احبك. أريدك أن تبحر معي على ظهر أغنيتي، لا أريد أن اتركك يتيما……….. وحيدا على الشاطئ.
أشعر بالشفقة والخوف عليك عندما تظن ان أتحدث لغتك وأغني لك لأنني اخافك: لا احد يغني خوفا. لذلك اشفق عليك من جهلك. أنا اغني لك حتى لا تصبح كسيفا أو حسيرا.
لدي لغة أمي والحانها، وفيها مرابع طفولتي، ولكني أريدك جنبي في دائرة الدفء، أغني بلغتك لأضمك الي من غوائل الزمن.
وأحسست بقامتي تتقاصر عن ذلك المرتق السامق.
_ حدثني يا ابرار عن القسوة والقساة؟_ لا استطيع.
_ أنا….. أنا…………… أنا لا استطيع أن اكره، لا أعرف كيف أكره، حتى المحاولة لا انجح فيها.
_ الأم……. والرحم تعصمانني من الكراهية. عين أمي والوطن ليس فيهما القسوة._ لكنني اعرف القساة في كلماتهم، في حركاتهم في سكناتهم: لم أر قساة كالذين يسوطون الوطن اليوم. من أين جاءوا بكل هذه القسوة؟
في عام 1994، سألت احد هؤلاء القساة عن معنى الخدمة الوطنية، فرد على بكل تلك القسوة والصلف والجهل: لا عليك منهم ( يقصد شباب الخدمة)، هؤلاء (مخلفات) (ترف مرف) الدرق من النشالين وصعاليك الحواري نأخذهم إلى ساوا لنصنع منهم رجالا!
بعد اربع سنوات فقط كانت ارواح هؤلاء تعرج إلى السماوات العلى عندما استشهدوا يدافعون عن الوطن، مات هؤلاء ليبقي القاس الذي ينعتهم بمخلفات الدرق.
_ ثم رأيتهم مرة أخرى وهم يسجنون الوطن: كان الوقت باكرا والوعد اخضرا عندما سجنوا الوطن.أودعوا الوطن سجن كارشيللي الكبير. كان هذا في التسعينات عندما انصرف هؤلاء القساة لجمع كل الاصفاد والاغلال: احضروها من كل حدب وصوب ليقيدوا الوطن ويسجنوه.
_ الصمت والقسوة مخيفان.
_ عند السجان القسوة … وعند الجبان الخوف والصمت. إذا انا لم أبك عندما تسجن انت، فأنا اجهز اغلالي واصفادي لأهديها إلى جلادي. بصمتنا الذليل عن اخواتنا واخواننا المغيبين نهدي القساة الاصفاد والاغلال ليسجنوا الوطن ويقيدوه. الأسرى هم الضحايا اليوم ونحن الضحايا غدا._ حدثني: كيف تبرأ الرحم من الشقوق والعقوق؟
فقط لو رممناها بالحب. لنا في التواد والتراحم مراهم وأكسير شاف. نبني ونعيد البناء.عندما غنيت ” هدمونا” كوخنا، كنت أمجد البناء. عندما كنت صغيرا كنت اشاهد كيف يبنى الكوخ ” الهدمو”، إذ انه يقوم على جذوع ضخمة من الاشجار لا يقوى على قطعها إلا جماعة من الاقوياء، ثم احضار الاحجار والحفر وكل ذلك جهد جماعي يجسد روح الجماعة، لم يكن بناء عبارة عن عمل أعمى، لا بل كانت هناك الاغاني والاهازيج، كتلك التي تسمعها عند الحصاد مثلها تماما كانت تزين خاصرة البناء. بالبناء يشفى العالم وينفذ وصية الله.
وما عداه هو القسوة والخراب.ثم سافرت بخيالي لأتذكر واعيد كلمات أغنية شاما:
لوطنك ولسموه وعلوه
أمانة عليك كن كالموج الهادر
أمانة الوطن نسيانها لا يغتفر
وعندما حكى لي عن البناء في الطفولة تخيلت ذلك الطفل القمحي اللون الادعج العينين يردد اهازيج البناءين واغانيهم.
اليوم اكتسى شعر الطفل ابرار بلون الثلج، ليذكرني بالقمم السامقة للجبال، وعندما يتذكر ابرار مشوار حياته التي يتربص به فيه القساة ويتذكر طفولته الوادعة ومرابعها الزاهية حتما سيقول مع ابراهيم ناجي:
كل شيء صار مرا في فمي
بعد أن اصبحت بالدنيا عليما
آه…. من يأخذ عمري كله
ويعيد لي الطفل والجهل القديما
أخيرا:
أبرار تباركت الرحم التي أهدتك لنا
