سلامٌ على الأمين عبد اللطيف .. في (يوم الشكر). بقلم/ محمود أبوبكر
9-Aug-2017
عدوليس ـ نقلا عن الأفريقية
المسافة نصف قرن .. ما بين الاحتراف، وتمليك الإرث لأجيالٍ ستأتي تِباعاً لتقف مشدوهةً ليس أمام جمال المُفردة، وانسيابية اللحن، وسحر الموسيقى فحسب، بل أيضاً أمام الانحياز للجمال، بمعناه المطلق، والوطن بكل حبات ترابه من أقصاه إلى أقصاه، للغات دون الوقوع في شرك المفاضلة، وللتراث دون الانتباه لمنغصات الحالات الطارئة والشاذة . هو “الأمين” على المعنى الذي يتجاوز الرؤى الضيقة، وانتماءات مادون الخارطة الممتدة من راس دميرا لرأس قيصار. ابن “قندع “و “أباشاول”، ابن اليابسة، السهل الممتد من الخاصرة إلى الهضبة، وابن البحر “أميناً” عليه، مُتشبثا به حتى الرمق الأخير، يلتقط خيط الفجر في عتمة الراهن، يُداوي جُرح الأرض المُتخمة بالآهات. “فاطمة زهرا” لحن الأمسيات
الحالمة، ” ولاد عجي حسبوكوم رأيكوما من قبيء ات قبيكوم سلام بولا أيّ أقبالتكوم” هي المسافة الممتدة من الذات الى الذات ” ولاد كرن وأسمرا رأيكوما من قبيء ديب ماي زرا .. سلام بولا أيّ فاطمة زهرا ” هكذا ظل يشدو، فالمسافة بين أسمرا وكرن لا يختصرها سوى “السلام ” ! “سلام كبلكي سلام فقدلي، بدليّ كلوا سورزيوا .. أي تحزلي، يقري بللي ” ! “سلام” هي المفردة المفتاح نحو عوالم الأمين ” سلام كفوا هليكوم حوّي ولاد أميي سفاللكوكوم “، والأم هنا (ولاد أمي) معادل الوحدة والرسوخ، فقد يتعدد الآباء وتبقى الأم عنوان الحقيقة ليس بمعناها الأحادي فحسب بل أيضاً بأمومتها الطاغيِّة، على كل الأبناء مهما اختلفت مشاربهم أو تعددت أبواتهم . هو “الأمين” يعرف كيف يطوع المفردة لخدمة مشروعه الجمالي، ينتقل برشاقة الكلمة لـيخيط المسافة بين الخريطة والحبيبة، حتى يكاد المستمع لا يفرق بينهما، حين يتماهى المعنى و يتوحد الهاجس . هل كانت “فاطمة زهرا وطناً .. أم كان الوطن رمزا للحبيبة ” كل ذلك لا يهم كثيرا أمام طغيان الجمال، فأنسيابية المعنى وتعدده، يمنح كل منّا متسعاً لترف التأويل وإعادة صياغته وفقا لمساحات الإدراك و رغبات التفسير الكامنة . تلك أسئلة راودتني مرارا وأنا أجول في عوالم هذا المبدع، أبحث عن إجابة شافية، لأسئلة بدت لي – في ذلك العمر المبكر – تحتمل الإجابة القاطعة، كما لو كانت معادلة رياضية، كنت ابحث عن شيفرة القطع، التي لا تبق مسافة للمجاز، فيما أن الفن – خاصة عند الامين عبداللطيف – محض مجاز مفتوح على كل تأويل جمالي يحيل الى معنى من المعاني .
أول الغيث الصدق مع الذات في ذات ربيع أسمراوي، التقت شلة الأصدقاء المسكونة بالرؤى في “الجينير كليب” لتطوي نهم الأسئلة حول أُغنيات و أشعار الأسطورة “إدريس ود أمير”، كانت الاقتراحات لإقامة “أمسية ود أمير ” أكبر من توقعاتنا الشابة، فما جلبه الباحث ” محمد نور أدال” من القصائد المنسوبة لـ ود أمير، كان يفوق كل ما جال في تصورنا، حينها قلت لـ “أدال” دعنا نلتق بعدد من الفنانين الضالعين في التراث، ولتكن وجهتنا الأولى نحو ” عمو الأمين عبداللطيف “، في اليوم الموالي صعدنا نحوه في الدور الأول بـ “أمباسادور هوتيل “، كانت ابتسامته تسبقه وهو يحتضن كل منّا بمهل من أرهقه الشوق، وهو الذي يلتقينا لأول مرة .. بادرتُ بالتعريف بنفسي، فضحك الامين وقال لي: ” إذاً أنت ابن رفيق الدرب” ثم سرد لنا حكايته عندما كان أستاذا بمدرسة الجالية العربية، وكيف أن إدارة المدرسة خيّرته بين سلك التعليم أو الغناء، لأنها تعتقد إنهما خطان متوازيان! ثم أضاف ” بعد أن فشلت في إقناعهم أن لا تناقض بينهما، اخترت أن أبقى وفِيًّا لفني .. حينها التقاني والدك، وكان مُدرِّسًا حينها، فقال لي: لا تبتئس أنت أكثر إبداعاً في غناءك .. وحده الحزن سيجعلك تخسر الاثنين معاً، أمضِ في طريقك وسوف يبقى هذا الموقف مدعاة فخرك يوما ما !” هكذا استرسل الأمين في استعادة البدايات، بين صراعات الموهبة والوظيفة، وبين مغامرات النضال والسلامة الذاتية، وكيف دوما انحاز لنداء القلب .. كنّا جلوساً وكأن على رؤوسنا الطير، نقترض من معين السرد، سردا يتماهى فيه الخاص بالعام .! فجأة استعاد الأمين ابتسامته العريضة، وراح يسأل عن أسباب اللقاء معتذرا على الاسترسال في الماضي، كدت حينها أن أطلب منه المزيد، لكن تدخُل “آدال ” أنهى الأمل : – أستاذ الامين نريدك ان تشارك معنا في اُمسية ود أمير، بدايةً بتنقيح ومراجعة القصائد ومرورا بإعداد ورقة حول تراث ود أمير ثم الغناء في المناسبة . ابتسم الأمين قبل أن يقول بطريقته المُحببة : أنتم في العنوان الغلط !! هالنا القول وحاولنا عبثاً إقناعه، لكنه أصرّ : أنا لست باحثاً أنا فنان، وربما أقل فنان دراية بتاريخ وتراث ود أمير، قد أشارككم بالغناء، لكن ليس أكثر – ولكنك يا أستاذ .. يقاطعنا مُجددًا: أنا مُجرد عابر في تراث ود أمير، العنوان الصح لتراث ود أمير لدى فنانين آخرين، ربما هم أصغر سِنًا، لكني متأكد أنهم أكثر إلماما مني، ثم اقترح لنا مجموعة أسماء أذكر منهم الفنان سعيد عبدالله (الشاب حينها!) ثم يضيف “هؤلاء تشربوا التراث أما أنا بالكاد تعلمت التقرايت في حي أباشاول الأسمراوي !! هذا الموقف الذي ظل راسِخًا في ذاكرتي، عن تقدير الذات، بشكل موضوعي، أو ما اعتقدت حينها بأنه تواضع جم، ظل يصيغ صورة “الكبير الأمين “، في ذهني كلما أطل من شاشة أو باغتني لحن أغنياته هنا أو هناك.
الأمين .. “يوم حمديكا”، ثمة مثل شعبي بلغة التقرايت، يُتَشائَمْ كثيرًا من ” يوم الشكر / يوم حمديكا” أي اليوم الذي يَشْكُركَ فيه الجميع ويعترفون بخصالك، لأنه يعادل ساعة الرثاء .. يوم الرحيل عن هذه الفانية ! ولأني لا أجيد فن الرثاء حيث يتساوى فيه الخصم والحبيب في إصباغ هالات القداسة على الراحل، سأكتفي بسرد هذه المواقف الموضوعية التي جمعتني بهذا الأسطورة، الذي أغنى حياتنا غناءً وجمالا ومعنى . على أمل أن أعود في مقال منفصل للوقوف على تجاربه الغنائية والنضالية