تدشين مجموعة شعرية للشاعرة يرقا ألم فسها. تقرير / حامد ضرار أحمد
30-Dec-2019
عدوليس ـ برمنغهام
تمَّ يوم أمس الأحد بمدينة برمنغهام تدشين المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة الإريترية يرقا ألم فسها. التي قدمت من ألمانيا إلى المدينة لتدشين تلك المجموعة التي حملت عنوان “ألْلَخُ” أي “أنا موجود(ة) أو أنا هنا” وهي مجموعة جاءت في 176 صفحة من القطع المتوسطة وحوت 130 قصيدة.
غطت القصائد فترة قاربت العشرين عاماً أي من 2000-2018 وجزء كبير منها يعكس تجربتها الشخصية في المعتقل العسكري في “ماي سروا ” الذي قضت فيه الشاعرة حوالي 6 أعوام من 2009 وحتى 2015 وبعد خروجها من المعتقل أضطرت إلى هجر بلادها والعيش في ألمانيا، وهي التي كانت تعمل معدة ومقدمة برامج تعليمية عبر إذاعة بانا في أسمرا.
عكست يرقا ألم عبر قصائدها معاناة المعتقل ليس فقط من تجربتها الشخصية، بل عمدت في كثير من القصائد إلى تلسيط الضوء على معاناة الكثير من المعتقلين والمعتقلات ومن مختلف الأعمار وبأسلوب غاية في الجمال والعمق وبلغة تتسم بالجذالة والقوة.
بصوتها الإذاعي الأخاذ وصفاء لغتها، استطاعت يرقا ألم أن تستحوذ على عقول وأفئدة الحضور بالتوصيفات والوصلات الجميلة المصحوبة بتعليقاتها وتوضيحاتها عن الحوادث التي جاءت إيحاءات القصائد على خلفيتها. امتلاكها لغة خالية من التشوهات التي يعاني منها الكثير من متحدثي التجرنيا الذين تأثروا بلغة المدينة… عكس ما بذلته من جهد مبدع في هذه الأمسية شخصية الشاعرة، وما تتمتع به من ثقافة ووعي اجتماعي وسياسي متقدم وبدا ذلك من خلال تصديها لتعليقات الحضور وتساؤلاتهم.
ولأن الحضور أدهشته الشاعرة بأدائها وأسلوبها الراقي ولقناعته من أن ما تقوم به يرقا ألم والمبدعون الآخرون من أشكالها من جهد يهدف إلى تعزيز العمل الإبداعي الإرتري المكتوب بالتجرنيا وكما ظهر لي –لي شخصياً- لإدراكهم القوي أن مسألة مواظبة الكاتب أي كاتب ليواصل عطاءه لابد من أن يجد – أي المبدع- دعماً يتجاوز مجرد الكلام والتصفيق، أخذ بعض الحضور بالتقدم إلى حيث كانت تقف الشاعرة وهي تحاضر الحفل، وشوهدوا وفي لوحة رائعة وهم يضعون في أطراف ملابسها وبين يديها مبالغ مالية حتى ولو كانت بسيطة، كانت كافية في أن يوصلوا رسالتهم الداعمة إليها عملياً وإلى كل مبدع أين ما وجد.
لم يتوقف وعي الحضور عند ذلك الحد، بل سارعوا وشكلوا صفين، الأول يستلم من الإدارة نسخته بعد أن يدفع مبلغ الخمسة عشرة جنيهاً إسترلينيا، الذي كانت قد أعلنت عنه الجهة التي كانت تدير الحفل، وكان هناك ثمة صف آخر يتوجه إلى حيث تجلس الكاتبة لتقوم هي الأخرى بالتوقيع على كل كتاب للذكرى والتاريخ وإلتقاط الصور.
ما أثار إعجابي، أنا الذي تعودت في مواقف أخرى شتى، أن أرى إحجام الحضور عن المساهمة في عملية الشراء لمختلف الأعذار، إذ كان بعضهم يحجم عن الشراء منتظراً استلام نسخة مجانية موقعة يهديها له الكاتب أو الكاتبة والبعض الآخر لإعتقاده أن ما يتم تدشينه لا يرقى في أن يدفع من جيبه بضعة ملاليم لكونه لا يماثل ما قرأه بلغات أخرى متطورة، لتكون النتيجة كارثية وهي تخلف المجتمع الذي ينتمي إليه وتراجع لغته عن مواكبة الركب ليعاني الجميع حالة من التصحر والفقر الثقافي الذي يقود بدوره حتماً إلى خلق إشكالات مجتمعية من نوع آخر أكثر خطورةً. أقول ما أثار إعجابي هو إرتفاع أصوات من داخل القاعة تطالب برفع سعر الكتاب إلى عشرين جنيهاً بدلاً عن الخمسة عشر جنيهاً المعلنة مقدماً، مع العلم أن حجم الكتاب والأوراق المطبوع عليها أقرب إلى أن تكون طبعة شعبية وكان بالإمكان أن يطالب الحضور الجهة المنظمة في أن يكون سعر النسخة خمسة جنيهات لا أكثر. مع ذلك وقف الجميع مصفقاً تعبيراً عن مواقفتهم واستحسانهم للفكرة. وبحرارة ظاهرة ورضى وقناعة تسابق الجميع إلى اقتناء المجموعة من داخل القاعة دون الإضطرار لطلبها من أمازون. هذه الحماسة الجماعية فضلاً عن الخشية التي تلبسنا أنا وبعض الجالسين بجواري من نفاد النسخ قبل أن نصل إلى حيث وضعت المجموعة، هذه الخشية دفعتنا إلى مناداة “تسفيت” وهو مقدم الحفل وأحد المنظمين والهمس إليه بأن يحجز لنا ثلاثة نسخ.
كما أسلفت، لم ينتظر الحضور كما تعودت أن أرى في تدشينات أخرى مماثلة، هدية من المحتفى به وإلا أحجموا عن الشراء، بل تزاحموا وتسابقوا في اقتناء المجموعة. ليس ذلك وحسب ما أثار الأعجاب، هو ما ستمعت إليه من تعليقات متحضرة تنم عن وضوح الرؤى وخلوها من الغبش. فالحرص على انتشار ثقافة ما أو لغة ما يعتد بها صاحبها تنعكس وتبدو للعيان في حضور حفل التدشين بكثافة والانكباب في الشراء، ليس لأهمية الكاتب أو العمل الإبداعي المحتفى به، بل من خلال الإيمان من أن التطور النوعي يتأتى عبر الغربلة التي يشهدها التراكم الكمي إذ يظهر مع الوقت من العدد الكثير والهائل نوعية متطورة ومجودة ومعتبرة ولو قليلة يشار إليها بالبنان.
اعتقد إذا اهتم القراء، أي قراء بما يصدر من أعمال، سواء كان بهذه اللغة أو تلك وفهم الجميع أن تطور الثقافات واللغات أشبه بشتل وغرس نبات، يحتاج لنموه وترعرعه مراعاة وسقاية خاصيتين، فسيتطلب الأمر إيلاء المهمة اهتماماً لائقاً بها إذ تطوير والثقافة المحلية في أي مجتمع كما اعتقد جازماً للمرة الثالثة والخامسة بل وللمرة المليون ودون أن الانحراف إلى جدل لا متناهي من أي نوع، تتطلب التفكير بآلية تحمل أفقاً شمولياً ينأى عن الانفعالات الوقتية والنظر من خارج الصناديق المعتادة. بالتالي أظن إن مثال أمسية اليوم، يصلح في أن يكون الأسلوب الأنجع ليتبع من قبل من أراد النهوض باللغة أو الثقافة التي يعتد بها ويحلم في تجذيرها، ولتجمعات الأفراد التي تعي آلية التطوير والتطور، كبر عددها أو صغر وكانت داخل الأوطان أو في المهاجر، لها بالقطع أدوار حاسمة في هذا المنحى. فهي المعول الأساس والأكثر أهمية في تطوير ما يراد تطويره من الجهات الرسمية لوحدها، لكون الأخيرة تعمل وفق أولويات أو إعتبارات سياسية خاصة بها ويكون من غير الحكمة تضييع الوقت وهدره في لومها أو إنتظارها حتى تقوم بإيلاء الإهتمام المنتظر، فمن يدري فقد تنهض متأخرة أو قد لاتنهض تلك الجهات الرسمية من غفوتها الأبدية وسباتها الدائم ولا يجدي مع ذلك نفعاً التباكي وتوجيه أصابع الاتهام هنا وهناك.