المثقف والسلطة والخيانة!
فتحي عثمان
كثيرا ما نتعثر بمقولة لينين الشهيرة: “المثقفون أقدر الناس على ارتكاب الخيانة لأنهم الأقدر على تبريرها.” وتنطوي المقولة على مفارقة غريبة وهي أن قائلها يعتبر من أهم مثقفي القرن العشرين وأغزرهم انتاجا فكريا؛ ثانيا أن الإشارة في المقولة تعلي من قيمة القدرة الكامنة على التبرير وليس من فعل الخيانة في حد ذاته؛ باعتبار أن محط النظر هو التبرير وليس الفعل رغم شناعته. تستعمل المقولة الآن بشكل واسع لتجرم المثقف، وقد يدرج تحتها جريمتي الصمت والتواطؤ خاصة؛ بالسكوت على الظلم رغم معرفته ومعرفة وسائل مقاومته وهنا يعتبر الساكت عن الحق شيطانا أخرسا، وأكثر شرا من الخائن الذي يتفنن في تبرير خيانته. المرارة التي تشير إليها مقولة لينين تتجه أكثر نحو التبرير؛ أي العذر الأقبح من الذنب، والأكثر إثارة للغيظ والحنق بالطبع، باعتبار تحول الجرم إلى لؤم بالانتقال من ارتكابه إلى مرحلة تبريره أو استمرائه لاحقا. والافتراض الكامن وراء مقولة لينين والشعور الجمعي بالمرارة تجاه خيانة المثقف مرده أنه، أي المثقف، صاحب معرفة وهذه المعرفة تتشكل على هيئة سلطة وأن هذه السلطة يجب أن تنحاز في كل الأحوال إلى الجماهير. وهنا تبرز مسألة المعرفة كسلطة لدى المثقف وكيفية توظيفها مع أو ضد رغبات الجماهير العريضة.
في سياق التجربة الثورية الارترية تقدم الجبهة الشعبية في مرحلتها الماركسية الأولى نموذجا مثاليا للدراسة في هذا الشأن. فالمعروف أن التنظيم، أي الجبهة الشعبية، خاصة في تلك المرحلة لم يكن تنظيما ذا موارد مالية أو معنوية ضخمة عند المقارنة بمنظمة التحرير الفلسطينية مثلا. لذلك نجد أن المورد الوحيد لخلق تمايز داخل التنظيم كان هو “المعرفة” والمعرفة المقصودة هنا هي القدرة على “تحصيل المعلومة وامتلاكها وتوظيفها”. وخزانة المعلومة في التنظيم هي جهاز أمن الثورة وفروعه الاستخبارية، لأنه الجهاز الذي يعمل على تتبع وتقصي المعلومة ويتحكم في توزيعها ويكون قائد التنظيم هو المصب النهائي لكل المعلومات الحيوية الداخلية والخارجية حتى التي يمكن استخدامها ضد الرفاق الأقربين أنفسهم في وقت الحاجة. يتميز العاملون في تجميع المعلومات وتوزيعها بتفوق نسبي عند المقارنة بأعضاء التنظيم الآخرين. وحتى تتعزز قدرة مالك المعرفة أو المعلومة تم تقنين توزيع المعلومة حسب مبدأ “المعلومة قدر الحاجة” وهذا يعنى أن قائدا عسكريا كبيرا قد تحجب عنه معلومة سياسية وبنفس القدر يوجد عضو سياسي رفيع قد تحجب عنه معلومة عسكرية. وهذا ما يميز تنظيم الجبهة الشعبية عند المقارنة مثلا بجبهة التحرير الارترية والتي كان مجالها السياسي يسمح بتداول أكبر للمعلومة مما أدى إلى اعتبار كل عضو في القيادة نظيرا وندا للآخر بحكم التساوي في الملكية المعرفية؛ وأدي هذا إلى تحول الصراع بين الأنداد إلى صراع شرس. حيث تحول قادة جبهة التحرير في مرحلة ما إلى أقطاب متساوية. وضعية الأقطاب المتعددة هذه لم توجد داخل الجبهة الشعبية مما حسم الصراع لصاحب المعرفة ضد من لا يملكها؛ وأزال إمكانية الصراع على القيادة على قدم المساواة. وهذا الاستئثار بالمعرفة كسلطة أدي ويؤدي في العادة إلى نمط آخر من خيانة المثقف، وهي الخيانة القائمة على فهم الحق الحصري في امتلاك المعرفة ونشرها. يمكننا تمثيل هذه الخيانة بمجاز مشابه لكهف افلاطون. لو افترضنا أن جماعة واحدة تعيش في كهف مظلم ثم قام أحد أفراد المجموعة بإشعال نار وقام بحراستها ومنع الآخرين من الوصول إليها وأدعى ملكيتها الحصرية بحيث لا يعطي الآخرين منها إلا بشروطه. وقام شخص آخر بالثورة عليه وبجهد برومثيوسي علم الناس صناعة المشاعل وسمح لكل واحد منهم بقدح مشعله من النار؛ وبناء على مبادرته استطاع كل فرد “امتلاك” الضوء الخاص به لشق دياجير ظلمة الكهف.
يمثل حارس النار المثقف الخائن الذي يعتبر نفسه الوصي على الآخرين بامتلاكه المعرفة؛ وهو لا يريد التضحية بتفوقه النسبي على الآخرين بتوزيع الضوء بحيث يكون الجميع سواسية في امتلاكه. في هذه النمط من الخيانة يريد المثقف أن يعطي بقدر معلوم بحيث يظل هو القائد نحو النور بدون منازع. أيضا وبالعودة إلى تجربة الحكم في ارتريا نجد أنها تعتمد هذه الخيانة من كتمان ميزانية الدولة السنوية في الاقتصاد إلى إخفاء تفاصيل القرارات المصيرية مثل البنود السرية لاتفاق السلام الاثيوبي الارتري الأخير. الغموض الذي نراه ليس هو سوى أداة قديمة من أدوات التسلط؛ ففي ظل ندرة الموارد المتاحة في البلاد بسبب الكمون أو عدم القدرة على الاستثمار يظل احتكار المعرفة هو أبرز أدوات الاستحواذ على السلطة. وإذا نظرنا من جانب آخر إلى مساع التغيير القائمة على الغموض هي الأخرى؛ نجد أنها تعي تماما أنها إذا قامت بتمليك الجماهير المعلومة فإنها ستكون قد خسرت أحد أسلحتها في الصراع على السلطة، وهذا مرده النشأة داخل نفس العقلية التي تضع قيمة كبيرة للتفوق النسبي على الأقران في المعركة بحجب المورد الأساسي للصراع وهو المعرفة.