هل نشأت مسابقات ملكات الجمال في إريتريا؟
بقلم /محمود ابوبكر
يعتقد أن “ولت عيدو” أقدم كرنفال لاختيار الجميلات في التاريخ قبل أن يقضي الاحتلال والحرب والنزوح على إشراقة الماضي
من الدارج في معظم دول العالم اليوم تنظيم مسابقات سنوية لاختيار ملكات الجمال في مهرجانات خاصة، ويعتقد على نطاق واسع أن هذا التقليد بدأ في بدايات القرن الماضي، وتحول لاحقاً إلى احتفال عالمي في منتصف القرن الماضي، إذ شهد عام 1951 أول احتفال من هذا النوع أقيم من قبل البريطاني أريك مورلي، الذي أسس وترأس في وقت لاحق مؤسسة “ملكة جمال العالم” قبل أن يرحل عام 2000.
ويزعم المهتمون بهذا الطقس الاحتفالي أن الظاهرة التي بدأت في بدايات القرن الماضي اكتسبت رواجاً كبيراً وتحولت إلى أحد المهرجانات الدولية ذات التأثير الكبير، كما ارتبطت بأعمال خيرية وبنشر ثقافة التسامح بين المجتمعات والشعوب.
فهل هذا الطقس أمر مستحدث منذ القرن الماضي، أم أن لهذه الظاهرة وجوداً في التاريخ القديم كجزء من التراث الإنساني؟ وما علاقة وجود “الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس” في أفريقيا وآسيا كقوة استعمارية في نقل بعض الموروثات الثقافية والتراثية الخاصة بالدول والشعوب الواقعة تحت احتلالها، واعتبارها تقليداً بريطانياً تحول لاحقاً إلى ظاهرة عالمية؟
أقدم كرنفال للجمال
يعتقد الإريتريون أنهم من أول الشعوب التي عرفت تنظيم احتفال سنوي لاختيار ملكة الجمال تحت مسمى “ولت عيدو”.
ويرى الباحث في التراث الشعبي عمر أبيب أن “منطقة أفعبت (شمال العاصمة الإريترية) تعرف بتنظيمها هذا الاحتفال السنوي كجزء من تراثها العتيق الذي يعتقد أنه بدأ منذ قرون مضت”.
ويضيف أبيب لـ”اندبندنت عربية” أن “هناك اختلافاً حول مغزى التسمية، فمفردة (ولت) تعني الفتاة أو الابنة، و(عيدو) قد تكون مشتقة من العيدين”، فيما يرى آخرون أنها مشتقة من العيدو وهو السجاد الفاخر، كناية عن العرش لتعني العبارة (ابنة العرش) باعتبار أنها متوجة كملكة للجمال”.
ولأن التضاريس الجغرافية لمنطقة أفعبت تجعلها متميزة لكونها تقع بين السهل والمنخفض فهي تتمتع بموسمين للحصاد، ولأن هذا الاحتفال يعقد في مواسم الحصاد، وهي مواسم أعياد بالنسبة إلى المزارعين، يعتقد بعض الباحثين أن العيدين كانا إشارة إلى موسمي الحصاد اللذين يعدان بمثابة “عيدين” بالتالي فالاسم يعني “ابنة العيدين”.
وبعيداً من مغزى الاسم واشتقاقه اللغوي والاصطلاحي، فالمؤكد أن هذا الطقس الاحتفالي هو جزء من الموروث التراثي الإريتري، وتحديداً لمنطقة أفعبت حيث يتأهب الناس مبكراً لهذا الكرنفال من خلال إعداد ما يستحقه من مظاهر الاحتفاء، وعلى رأسها الفتيات الحسناوات اللائي يرشحن أنفسهن لهذا اللقب النفيس، سواء على مستوى الأزياء الخاصة بالمناسبة، أو طرق إظهار مفاتنهن، في حين يستعد الأهالي لتقديم وجبات معينة تليق بالمناسبة، ويتبارى الشعراء والمغنون لإحياء الحفل الذي يشارك فيه الجميع بما يملكون من مظاهر الجمال.
من يظفر بقلب الملكة؟
يؤكد أبيب أنه “يجري اختيار الملكة من بين المرشحات من خلال لجنة خاصة تتشكل من أعيان المنطقة ممن يعتقد أنهم طاعنون في التقاط الجمال”، ويمضي قائلاً إن “اللجنة التي تعهد إليها المهمة تتكون من الجنسين، الرجال والنساء، إذ يختلف كل طرف عن الآخر في تقديره للجمال”.
يبدأ الاحتفال بإلقاء القصائد ووصلات الغناء الشعبي التي تصاحبها الإيقاعات الصاخبة والعزف على آلة “المسنقو” الوترية، كما يشمل الاختبار أداء وصلات راقصة للمرشحات إلى أن يتم الاتفاق على من تحمل منهن لقب ملكة الجمال “ولت عيدو”.
ويؤكد أبيب أن “من بين طقوس هذه المناسبة أداء أغان خاصة بها تتغنى بالملكة التي تأتي في مواسم الحصاد بالتالي توصف بـ(ولت عيدو لملم تا) وتعني بلغة التقرايت أنها (ملكة خضراء)، في إشارة إلى الموسم الذي تتوج فيه ملكة هذا العام”.
ويقول محمد آدال أحد المهتمين بتراث هذه المنطقة، إن “من بين فعاليات هذا الكرنفال التراثي أن يكشف الشباب العازبون عن قدراتهم في الرقص والغناء وقرض الشعر للفت نظر الملكة التي تصبح عملياً مرشحة للزواج”.
ويؤكد آدال أن “من تتوج باللقب يكون لها شأن مختلف حيث يصبح مهرها أعلى عند الزواج قياساً بمهر الفتيات الأخريات، كما يختلف دورها إلى حد ما”.
من جهته، يقول عمر أبيب إن “وصلة الرقص التي تؤديها الملكة بعد تتويجها تعد خاصة جداً، فهي ليست شبيهة بأنواع الرقص المعروفة، بل تبدو أكثر رزانة بما يتماشى مع وضعها كملكة”.
وفي رده على سؤال يتعلق بمدى شيوع هذا الطقس في مناطق أخرى بإريتريا، يؤكد أبيب “هذا الطقس تميزت به منطقة أفعبت من دون غيرها، وليس هناك أية دلائل على حدوثه في مناطق أخرى”.
ويقول إنه التقى عدداً من النسوة ممن كن يشاركن في إعداد هذه الفعاليات السنوية منذ ما يقارب سبعة عقود، وأكدن له أن هذا الطقس خاص بمدينة أفعبت والمناطق الأربع المحيطة بها”.
بقرة مقابل بيت شعر
ويؤكد أبيب بمرارة “للأسف هذه الطقوس لم تعد موجودة الآن لأسباب كثيرة، من بينها حالات الحروب والنزاعات التي عرفتها المنطقة وما تبعها من نزوح وعدم استقرار، لقد خفتت حتى اختفت تماماً مثل سائر الطقوس التراثية التي اندثر جزء كبير منها، وتحول جزء آخر إلى مجرد تاريخ يتم استحضاره في الاحتفالات الوطنية كماض”.
وهو وصف يوافق عليه آدال، مضيفاً “كثير من الموروثات الثقافية والتراثية الإريترية لم تعد موجودة بشكلها الطبيعي، فالقوى الاستعمارية المتعاقبة التي حكمت البلاد أسهمت بشكل كبير في تجريف ثقافي ممنهج، كما لم تقدم الدولة الوطنية بعد الاستقلال كثيراً من أجل حماية التراث غير المادي، بل حولته إلى طقس خاص يستحضر في الاحتفالات لأغراض سياسية”.
ويتابع آدال “عدد كبير من سكان هذه المناطق اضطروا إلى ترك قراهم ولجأ بعضهم إلى السودان، وحدث نوع من التغيير الديموغرافي للمنطقة، بالتالي لموروثاتها الثقافية والروحية والحضارية”.
يشدد أبيب على “أن ما تم تجريفه ليس طقس (ولت عيدو) فحسب، بل النظام الاجتماعي والثقافي ككل، بخاصة ما يعرف بـ(الربعت) وهو عبارة عن نظام اجتماعي شامل ومحكم”.
ويضيف “في السابق كان هناك سباق محموم بين الشعراء الذين يذيع صيتهم، فكان الشاعر عندما يسمع قصيدة جميلة لأحدهم يترك منطقته ويرحل إلى منطقة صاحب القصيدة حتى يطارحه في موطنه، وثمة بيت شعري دارج كان يقال حينها كنوع من التحدي بين الشعراء: (حلايأبلكا/ ما وأت أحرد أكا)، ويعني: هل تفضل أن أغلبك ببيت شعر أم أمنحك بقرة؟”.
ويؤكد آدال بدوره أنه على رغم بعث التراث الثقافي الإريتري وعلى رأسه طقس “ولت عيدو” كأقدم كرنفال لاختيار ملكة الجمال في العالم، فإن الأجيال الجديدة من الإريتريين أصبحوا يهتمون الآن أكثر بإحياء هذه الطقوس، ليس بوضعها القديم بل من خلال استحضارها وتوثيقها عبر الروايات والقصص القصيرة والأفلام الوثائقية، حتى يعرف العالم أننا أول شعب أهدى البشرية طقوس الاحتفاء بالجمال.