التحليل السياسي المزعوم وجبل الجليد العائم
بقلم/فتحي عثمان
حال ما نشاهده اليوم حول ما يسمى بالتحليل السياسي يشبه حال شخص يتخبط في الظلماء متعثرا مرة، ومنكفئا على وجه مرة أخرى وهو في ذلك في مصيبة؛ وتتحول مصيبته إلى كارثة إذا كان يحاول تبصير الناس وإنارة دربهم.
هذا الضرب الذي يمارسه من يسمون أنفسهم صحفيين ومحللين وخبراء استراتيجيين يزيد في سواد الظلام وتضليل الناس.
الأحداث المحيطة بنا جسيمة أو كما يقال “خطوب مدلهمة” ويزيد من حلكة ظلامها التنجيم والرجم بالغيب المسمى بالتحليل السياسي.
المحلل السياسي الراحل المتخصص في افريقيا والأستاذ السابق في كينغز كوليج، لندن، باتريك شابال (1951-2014) له كتاب مفتاح ومنير في تحليل دولة ما بعد الاستعمار في افريقيا. يتناول شابال في كتابه أوضاع السلطة والقوة في افريقيا عبر تحليل عدة أزمات. في الفصل الحادي عشر من الكتاب وتحت عنوان: “أزمة العنف والبقاء” يقول بأن أزمة والعنف والبقاء مرتبطة بعدة عوامل تزيد من اشتعالها وحدتها وهي: الوضع الاقتصادي لإفريقيا إزاء السوق العالمي، أي التبعية الاقتصادية، ثانيا: الوضع البيئي المتدهور، والثالث متعلق بالدائرة الخبيثة للنزاعات، وأخيرا استعداد القادة لارتكاب صنوف العنف ضد شعوبهم بدون تردد أو مساءلة.
هذا الكتاب والذي يقع في 311 صفحة وواحد وعشرين صفحة من الهوامش والمراجع وثبت الأسماء صدر لأول مرة سنة 1994 ولا أعرف ترجمه له باللغة العربية.
في الجزء المتعلق بالبيئة المتردية وتأجيجها للحروب والنزاعات (وهنا يخطر ببالي الجهد المبدع للدكتور محمد سليمان محمد وكتابه السودان: حروب الموارد والهوية) يحاج شابال بأن جذور المجاعة والفقر تعود لأسباب بشرية خالصة أكثر من الكوارث الطبيعية (الجفاف والتصحر). ويضيف بأن مجاعة السبعينات الشهيرة في اثيوبيا سببها نظام اقطاعي يؤمن بان المجاعة قدر إلهي (ص 186) ويؤكد على أن النظام الامبراطوري في اثيوبيا قهر القوميات في حدود لا تخدم سوى قومية الأمهرة.
ولنتعرف على قدرة التحليل السياسي القائم على تراكم معرفي مركب من الجغرافية السياسية والتاريخ والاقتصاد والقانون والعلاقات الدولية على الإتيان باستنتاجات وفروض “استشرافية” تستطيع التنبؤ بالمستقبل، وهذا، حتما، ما تعجز عنه الهرطقات التي نسمعها ونشاهدها كل يوم. لبيان ذلك أقتطع لكم استشهاد شابال بفكرة للكاتب توني هوجز من كتابه الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان: الصحراء الغربية: جذور الصراع وأسبابه، وهذا الكتاب صدر قبل أربع سنوات من تفكك الدولة في اثيوبيا، وصدر عن دار لرامتان في باريس في 1987. ينقل شابال عن هوجز قوله: ” بما أن منظمة الوحدة الافريقية (حينها) لا تستطيع إعادة ترسيم الحدود (في القرن الافريقي) فإن ذلك سوف يؤجج نيران الصراع، وأن التفكك المحتمل “للإمبراطورية” الاثيوبية قد يؤدي إلى تغييرات في الحدود، وإلى تكوين “اتحاد فيدرالي” مكون من عدة قوميات مستقلة”.
الملاحظ في الاقتباس أعلاه ورود كلمات “المحتمل” و”قد يؤدي” وهي كلمات تنفي القطعية والوثوقية في التحليل رغم تقديم المسببات والبواعث الدالة، ذلك الاستخدام الحذر عند الكتاب يفيد بأن العلاقة بين السبب والنتيجة ليست حتمية؛ وهذا من آداب التحليل السياسي الذي يمتطيه السابلة دونما تبصر. ويبدو هوجز في فكرته ملما بالعلاقات الدولية والعوائق أمام المنظمات الدولية والتاريخ والجغرافية لذلك أثبت التاريخ صدق حدسه. إذ بعد سنوات قليلة انهار النظام في اثيوبيا وقامت القوى الجديدة بتبني دستور جديد يسمح بتقسيم إقليمي للبلاد يسمح للقوميات، على الأقل من الناحية القانونية، باستقلالية قد تصل إلى حد تقرير المصير وتحولت الإمبراطورية القاهرة للقوميات إلى دولة فيدرالية تماما كما تنبأ بذلك هوجز وخبراء آخرين؟
المحلل السياسي والخبير في الجغرافية السياسية مايكل كلير يدرس حروب الموارد وخاصة النفط. وفي كتابه الأكثر مبيعا، الدم والنفط: مساوئ وأخطار الاعتماد الأمريكي المتصاعد على النفط، يدرس مشكلة اعتماد أمريكا المتزايد على الوقود الاحفوري وتحدياته وتوسط الحروب في استراتيجيات الحصول على المزيد من النفط. وفي مجال التنافس الدولي يشير كلير إلى الصين ذات الاقتصاد السريع النمو والذي يحتاج إلى النفط ويبرز كمنافس شرس للولايات المتحدة في آسيا الوسطي والخليج وافريقيا. يستشهد كلير بعدة دراسات حول الصين ليصل إلى نتيجة إلى أن غرب الصين والتحديد إقليم سنكيانغ الذي تقطنه اقلية الويغور يمثل بانكشافه على دول وسط آسيا كعب أخيل في استراتيجيات الأمن الصيني. فهذا الاقليم شهد قيام دولة مستقلة للويغور (وهذه معلومة جديدة تماما بالنسبة لي، بالفعل دولتهم ، والتي عاشت لفترة قصيرة، عرفت باسم تركستان الشرقية وكانت مدعومة من الاتحاد السوفياتي، ولكن ماو تسي تونغ ضمها إلى الصين بحكم ذاتي ولا زالت الصين تفرض عليها سيطرة أمنية شاملة وتحدث فيها تغيير ديموغرافي عبر تسكين عرقية الهان في الاقليم) وأن هذه الأقلية تسبب مخاوف كبيرة للصين ويزيد من تلك المخاوف انتشار القواعد الامريكية في بعض جمهوريات آسيا الوسطي مما يقلل من فرص الصين من المنافسة حول نفط بحر قزوين. ولإثبات فرضياته يقدم كلير أرقام الاحتياج الصيني الحالي والمستقبلي من الوقود الاحفوري وخيارات السياسية الصينية بهذا الخصوص.
محللو هذه الأيام قد يجادلوا بأن هذه كتب وأن الكتب تختلف عن اللقاءات التلفزيونية في أنها يجب أن تقدم تسنيدا كافيا لفرضياتها، ولكن ذلك مردود عليه لأن هؤلاء المحللين والخبراء الاستراتيجيين المشار إليهم عندما يتحدثون فإنهم لا يقدمون فقط تحليلا سياسيا، بل فنا في التفسير والاستدلال والتنوير قد يفوق ما يقدمونه في فصول كاملة من الكتب التي كتبوها.
أيضا، بالنسبة إلى محللي هذه الأيام فإن الوصول إلى اعتاب المستقبل عصيي عليهم، بل ليس مطلوبا منهم، ولا ينبغي لهم، ولكن المطلوب من تحليلاتهم الفطيرة أن “تجيب” على الأقل على أسئلة تتولد من رحم كلامهم. المثالان التاليان يوضحان ذلك. الأول من السودان والثاني من ارتريا. الأول لصحفي سوداني علم يشتهر بتحليلاته الخارقة في القنوات الكبيرة حيث يشار إليه بالمحلل السياسي هذا المحلل قال ذات مرة أن أحد طرفي الحرب في السودان (وسماه) حقق “اختراقا عسكريا شاملا وكليا” مما سيجبر الطرف الثاني على قبول التفاوض “مذعنا”. والسؤال الذي لا يطرحه المذيع المحاور هو: مادام الطرف الأول حقق “اختراقا عسكريا شاملا وكليا”، أي غير تكتيكي، ولا مشكوك في أهميته فلماذا يقبل بالتفاوض من الأساس؟ مع العلم بأن توصيف الاختراق الشامل والكلي يعني الانتصار الحاسم، والمعروف أن المنتصرين لا يفاوضون بسهولة حتى لا يريقوا ماء ما كسبوه على الأرض على طاولة التفاوض. أما كلمة “سيجبر” فهي دلالة اليقين والوثوقية التامة، مع العلم أن هذا التحليل كان في الشهور الثلاث الأولى من الاشتباكات في العاصمة الخرطوم.
أم المثال الارتري فهو لصحفي ومحلل كذلك وهو مرتبط بالتصريح الأخير لوزارتي الخارجية الامريكية والبريطانية في ذكرى توقيع اتفاق السلام بين ارتريا واثيوبيا وفيهما أشاد البلدان بالاتفاق وبأنه يجب ان يضمن سيادة الطرفين الموقعين عليه وأعرب البيانان عن استعداد البلدين لدعم تنفيذه. ويقول الصحفي بأن الطرفين وصلا إلى نفس خلاصة الموقف الارتري قبل ما يزيد عن عشرين عاما، ولكن ما لا يكلف الصحفي المحلل عناء الجواب عليه هو سؤال: لماذا صدر هذان الموقفان الآن تحديدا وتزامنا رغم صدور أحدهما في واشنطن والآخر في لندن؟ بدل اجترار ما هو معروف، ولكن ما لا يستطيع هو الوصول اليه هو الدافع وراء اصدار البيانات.
إعادة تدوير ما نعرفه لا يضيف سوى مزيد من الهذر المتواصل وإضاعة الوقت وتسويد الرؤية. أذكر أن أحد استاذتنا في التحرير الإعلامي في سنوات الدراسة الجامعية حكى لنا قصة حيث قال، وكان مدير لتحرير صحيفة مرموقة عالية الصدقية، أنه كلف صحفي مبتدئ بالذهاب إلى المطار لكتابة تقرير عن زيارة وزير كبير إلى البلاد، وبعد ساعات جاء إلى مكتب الصحفي ليسأله عن الخبر والتقرير فرد الصحفي بأن الوزير لم يحضر، فصرخ عليه الدكتور: “هذا هو الخبر!” عليك أن تعرف لماذا لم يحضر وأن تعدد تقريرك بناء على ذلك. إعادة تكرار ما نعرفه هو بمثابة إعادة اختراع العجلة.
الصحفيون والمحللون الذين يتحدثون لساعات ولا يقولون ما يفيد يضرون اضرارا بالغة بسبب عدم معرفة التحليل السياسي وفنونه؛ والفن في هذا المجال كسائر المجالات يحصل بعد إجادة وامتلاك ناصية الحرفة بحيث تتحول في أعلى مراقيها إلى فن خاص يعكس سمات كل محلل الخاصة وقدرته على الربط، والاستنتاج، والتقدير، والإفصاح. بالعكس تعكس تحليلاتهم رغبات وتمنيات وانحياز لجهات على حساب أخرى في توار وخجل عن الإفصاح عن النوايا الحقيقية.
يكفينا من تصرفات الساسة أنها صارت كجبال الجليد العائمة التي لا يظهر منها سوى القمة، ومحللونا السياسيون يقودونا بتحليلاتهم المزعومة والهزيلة مباشرة نحو الاصطدام القوي بها