أيديولوجية أفورقي وأستراتيجية واشنطن. بقلم / أمال علي
21-Sep-2016
عدوليس ـ
يبدو أن الإدارة الأمريكية قد قرَّرت أخيراً إعطاء الأوضاع في إرتريا والحكومة الإريترية بعض الاهتمام، الأمرُ الذي قد تطربُ له قيادات أسمرا التي لا تفوِّت أيَّة فرصة لإلقاء اللوم على أمريكا وسياساتها التآمرية ضد نظام أفورقي ووقوفها عائقاً رئيسياً في وجه مشروعه التنموي والدبلوماسي، خاصةً عبر علاقتها، أي أمريكا، مع إثيوبيا الحليف الإستراتيجي لها في المنطقة حتى اللحظة.
وتأتي جلسة الاستماع حول إرتريا في الرابع عشر من الشهر الحالي تحت عنوان “إرتريا الخطر الإقليمي المهمل”، كمؤشرٍ لتحرِّك الموقف الأمريكي تجاهها؛ فالجلسة التي عقدتها إحدى اللجان الفرعية في الكونغرس الأمريكي والمختصَّة في الشأن الأفريقي في وزارة الخارجية الأمريكية، جاءت بعد سنواتٍ من الصمت أو التغاضي عمَّا يحدث في إرتريا، وتحديداً منذ عام ٢٠٠9، حيث فرضت الأمم المتحدة القرار ١٩٠٧ القاضي بحظر الأسلحة على نظام أسمرا، ومراقبة حركة التجارة من وإلى إرتريا، وذلك على خلفية اتهاماتٍ وُجِّهت إليه بدعمه لجماعة الشباب الصومالية، وإثارة البلبلة، وتهديد الأمن في المنطقة.
وقد يكون ملف تدفق اللاجئين الإرتريين بأعدادٍ هائلة خلال السنوات الأخيرة والانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان من قبل النظام في أسمرا، الى جانب سياسات أفورقي المثيرة للقلق على مستوى الإقليم، عبر تحالفاته مع اتجاهاتٍ مختلفة ومتناقضةِ المصالح – قد يكون كل ذلك دافعاً مهماً للولايات المتحدة لتعيد النظر في مجريات الأمور هناك، وخاصةً مع اقترابِ نهاية الفترة الرئاسية لأوباما، حيث تسعى الإدارة الأمريكية في أوقاتٍ كهذه إلى تصفية الملفات العالقة؛ إمَّا لتثبيت الموقف السابق حولها أو للتمهيد والدفع نحو تغييرٍ ما، مع حلول فترةٍ رئاسية بسياساتٍ وأجنداتٍ جديدة.
وبغض النظر عن مساراتِ الموقف الأمريكي القادم، شكَّلت هذه الجلسة حدثاً مهماً يُتوقَّع أن يكون لتداعياتهِ تأثيرٌ كبير على العلاقة الأمريكية مع إرتريا ودول الجوار من جهة، ومع الحراك المعارض بشكله المدني والسياسي من جهةٍ ثانية؛ فالجلسة التي حضرها أعضاء بارزون في الكونغرس الأمريكي وشارك فيها عددٌ من المختصِّين في الشأنِ الإرتري، تناولت طبيعة الأوضاع في إرتريا على حسب المعطيات التي ارتكزت عليها شهاداتُ المشاركين، وأهمُّها شهادة السيدة ليندا جرينفيلد مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، والتي تحدَّثت فيها بدقة عن سياسات النظام الداخلية، مثل موجات اللجوء الكبيرة والمستمرة من إرتريا، إلى انتهاكاتِ حقوق الإنسان والحريات، التي لخَّصتها في جملةٍ بالغةِ التوصيف حين قالت: “في بلدٍ لم يعرفِ الانتخابات، صوَّت الإرتريون بأقدامهم”.
كما تحدَّثت بعمق عن سوء العلاقات مع أسمرا، بسببِ سياساتها المتشدِّدة مع البعثات الدبلوماسية، ومنها الأمريكية. فلا يوجد سفيرٌ أمريكي هناك منذ ٢٠١0. ومن الملفت في ماورد أيضاً، أن تبريرات النظام لتردي الأوضاع وإرجاعها الى حالة اللاحرب واللاسلم مع إثيوبيا، والتضييق الدولي عليه، لم تلقَ الكثير من الاهتمام أو حتى التصديق؛ حيث كانت التلميحات واضحةً بتحميلِ حكومة أفورقي المسؤولية لرفضها السماح للجان الدولية المختصَّة بالدخول إلى إرتريا، والوقوف على حقائق الأمور؛ وبالتالي، محاولة الوصول إلى حلولٍ وتسوياتٍ على كلِّ المستويات، بما فيها تصفية ملف ترسيم الحدود المعلَّق بين البلدين منذ عام ٢٠٠٠.
وبلهجةٍ حازمة، شدَّدتِ السيدة ليندا جرينفيلد على أن بدءَ صفحةٍ جديدة من العلاقات الإرترية- الأمريكية يتطلَّب تغييراً كبيراً في ملف حقوق الإنسان والتزام الحكومة الإرترية بميثاق حقوق الإنسان المتَّفق عليه دولياً؛ وكذلك تطبيقِ الدستور الإرتري، وإجراءِ انتخابات، وتحديدِ المدَّة الزمنية للخدمة الوطنية، وتطويرِ نظامٍ عدليٍّ وقضائيٍّ مستقل وشفاف، وإطلاقِ سراح المعتقلين، ودعمِ لجنة تقصي الحقائق.
عموماً، لم تتجاهل شهادة السيدة جرينفيلد محاولاتِ النظام الامتثالَ والتعاملَ ببعض المرونة مع الملفات الخارجية، في إشارةٍ منها إلى إطلاق أفورقي سراح الأسرى الجيبوتيين الذين ظلُّوا معتقلين في سجون أفورقي لنحوِ ثمانِ سنوات؛ بالإضافة إلى محاولته التعاملَ مع الدعمِ الأوروبي بمرونةٍ تكشف عن حاجته الكبيرة للدعم، في ظلِّ التدهور الاقتصادي في البلاد، والنقص الحاد في الاحتياجاتِ الأساسية التي تعجز حكومته عن تغطيتها في وضعها الراهن.
في رأيِّي، يظلُّ أحدُ أهمِّ التساؤلات هو سؤالُ عضوةٍ من الكونجرس، ظلَّت تُلِحُّ وبإصرار على إجابةٍ واضحة ومحدَّدة عن ماهي الأيديولوجية التي ينتهجها نظام أفورقي والسياسات والأدوات التي يقوم على أساسها بتوزيع فئات المجتمع على مناطق الإنتاج، كالتعليم والصحة والجيش. والمفارقة هنا، أن أيَّ محاولةٍ جادَّة لفهم أيديولوجية نظام أسمرا، ستكونُ كحالِ من يضرب في الرمل، خاصةً إذا ما استُخدم في ذلك المعايير الدولية، والمدارس السياسية والفكرية والقانونية المعروفه. فحكامُ أسمرا لا يمتثلون لقوانين، ولا يتَّبعون أيَّ منهج، سوى منهج الديكتاتوريات التعسُّفية وحكم الفرد أو كما عرَّفها الدكتور خالد بشير بالنظام الشمولي (totlitarian regime)؛ وهو واحدٌ من المشاركين في الجلسة. والدكتور خالد بشير – الاستشاري المستقل والمتخصِّص في إدارة المخاطر والخبير في التمويل التنموي في القرن الأفريقي – عضو مؤسَّسة عواتي الإعلامية، لم يتردَّد في التشديد على أعضاء الكونجرس لإعادة تقييمهم لموقف الإدارة الأمريكية السابق من النظام، والذي كان موقفاً داعماً دون شروط أو مراقبة في السنوات الأولى لتشكُّل الدولة الإرترية ١٩٩١-١٩٩٨؛ والذي ما زالت آثاره الكارثية تتداعى إلى الآن، كما قال.
عموماً، المدخل الذي علَّق فيه الدكتور بشير على الوضع، كان أحدَ أهمِّ محاور هذه الجلسة، حيث كشف عن دور شركة التعدين الكندية “نفسن” (Nesun) في دعمِ النظام، لتطابق مصالحها معه، باستخدام طلاب الخدمة العسكرية-الإجبارية في عمليات التنجيم في منجم بيشا الشهير. وفي إحصائيةٍ تقريبية، يتقاضى العامل الواحد في المنجم أجراً يعادل الـ٣$ (ثلاث دولارات) شهرياً، من شركةٍ برصيدٍ يقارب الـ١,٣ (واحد فاصلة ثلاثة) بليون دولار من أرصدتها!
وعموماً، لم يكنِ الصوتُ الآخر غائباً؛ الصوت الحكومي أو المعادل الذي يحاول تبييضَ وجهِ حكومة أسمرا وضخَّ بعضِ الأوكسجين في شرايينها الملوَّثة من الاستثمارات الضخمة. فالمتابع لسير الجلسة، لن يفوته تلمُّسَ آثار العلاقات الخاصة والعامة والتحيُّز الواضح للأجندة الأفورقية في شهادة الآنسة برونواين بروتون، وهي نائبة مدير المركز الأفريقي -المجلس الأطلسي، والتي حاولت دغدغة مشاعر أمريكا العظمى، وتخويفها من خسارةِ أحدِ أهمِّ البلدان إستراتجيةً من حيث الموقع ( إرتريا طبعاً)، في مقابل التمدُّد الصيني-الأوروبي، الذي يمدُّ يدَ العون والرعاية لحكَّام أسمرا، في الوقت الذي تصرُّ أمريكا على تجاهله، وتحاول تأديبه بتفضيلِ أحفاد الأكسوميين عليه. وتدعو الآنسة بروتون أعضاء الكونجرس إلى التفكير ملياً وإعادة النظر، ربما “دون انفعال”، في ملفَّات الانتهاكات واللجوء، التي لا تقتصر على ارتريا وحدها، ولا تعني بالضرورة أن حكام أسمرا هم الأسوأ.
وفي نهايةِ الأمر، يبدو أن المسارَ لعلاقاتٍ جديدة بين الإدارة الأمريكية وإريتريا، يكمنُ في خلقِ حالة توازن للإدارة الأمريكية، التي لن تقف مكتوفة الايدي أمام التطورات التي تشهدها المنطقة، والتمدُّد الأوروبي فيها؛ وفي الوقت نفسه، تسعى إلى الحفاظ على مساحةٍ آمنة في موقفها من الانتهاكات الكبيرة التي يمارسها نظام أفورقي.
ويبقى السؤال المعلَّق حقيقةً، ليس هو: ماهي أيديولوجية نظام أسمرا وحسب، بل هل يمكن لأمريكا البدء في تفعيلِ علاقاتها معه كما هو، أم أنَّ تغييراً من نوعٍ ما مطروحٌ في أجندتها بما يرضي كلَّ الأطراف، ويؤمِّن على وجودها الإستراتيجي في منطقة البحر الأحمر، التي تتشابك فيها الأحداث واللاعبين الدوليين والإقليميين؟