القرن الافريقى : الى اين ؟؟ : عمر جابر عمر – ملبورن – استراليا .. الحلقة (2)
18-May-2006
المركز
السودان
البداية من السودان ليس لانه اكبر الاقطار مساحة وليس لانه كان سباقا فى التجربة الديموقراطية بل وايضا لانه يحتوى على فسيفساء تضم تعددا عرقيا وتنوعا ثقافيا ومعتقدات مختلفة تجعل منه مختبرا اجتماعيا وسياسيا تتفاعل فيه جميع المجموعات البشرية.
بعد نصف قرن من الاستقلال (1956- 2006 ) لنبحث ماذا كانت النتيجة وكيف كان تأثير الافات الثلاث عليه ؟ 1/ الديموقراطية – قلنا فى الحلقة السابقة بان القرن الافريقى يعانى من غياب مزمن للديموقراطية وان وجدت فهى نخبوية – فوقية و(معلبة) محددة شروطها ومواصفاتها ومعروفة نتائجها . السودان نموذج لذلك وتجربته مع الديموقراطية تنطبق عليها تلك المقولة. لنرى ماذا تحقق من تلك الديموقراطية خلال نصف قرن: •التجربة الديموقراطية الولى 1956- 1958 •الحكم العسكرى الاول (عبود) 1958 -1964 •التجربة الديموقراطية الثانية 1964-1969 •الحكم العسكرى الثانى (نميرى) 1969- 1984 •التجربة الديموقراطية الثالثة 1984- 1986 •الحكم العسكرى الثالث (البشير) 1986- 2006 ماذا نفهم من ذلك ؟ انه خلال نصف قرن كان نصيب الديموقراطية تسعة اعوام – واربعة عقود عاشها السودانييون تحت انظمة عسكرية !! وحتى فى تلك الفترات المتقطعة لم تنجح الاحزاب السودانية فى ارساء قواعد راسخة للممارسة الديموقراطية. لم يكن هناك اعتراف بالاخر ولا قناعة بضرورة التعايش وانشغل قادة تلك الاحزاب بصراعاتهم الداخلية وتعرض كل حزب لانشطارات اميبية اضعفت من قدرات تلك الاحزاب على التركيز على قضايا لمستقبل السودان الكبير ولم تفكر فى او تتواصل مع الاقاليم (خاصة الشرق والغرب ) الا فى فترة الانتخابات للحصول على الاصوات! هذا الفشل المركزى فى بناء الدولة ادى الى تهميش الاقاليم واصبحت الخرطوم هى (السودان ) كله – حتى وزراء ونواب الجنوب استقروا فى العاصمة لاقتسام غنائم ومستحقات هامشية. وكلما وصلت التجربة الديموقراطية الى طريق مسدود قفز العسكر الى الواجهة وكان الشعب يستقبلهم فى الايام الاولى باعتبارهم منقذين ومخلصين ولكنه سرعان ما يكتشف انهم لا يختلفون عن القيادات الحزبية- بل ان العسكر حرموا المواطن حق الكلام والتعبير عن الراى! التجربة الديموقراطية ادت الى مواقف وخلط للاوراق وتركت السودان مفتوحا امام كل الاحتمالات. عدم مصداقية القيادات الحزبية وعدم ايمانهم بالديموقراطية فكرا وممارسة ظهر جليا فى موقفين : •القرار الذى اصدره البرلمان السودانى عام 1968 بحل الحزب الشيوعى السودانى وهو الذى كان جزءامن نضالات الحركة الوطنية السودانية من اجل الاستقلال وكان له نوابه فى البرلمان. •كلما وصلت الاحزاب الى طريق مسدود وواجهت عجزا وفشلا فى تقديم برنامج يقنع الشعب لجات الى الجيش لتنسف العملية الديموقراطية من اساسها – او على اقل تقدير تخلق وضعا سياسيا ومناخا يشجع العسكر على التدخل : 1-انقلاب ابراهيم عبود- وقد كان (تسليما وتسلما ) من الاحزاب الكبيرة الى قيادة الجيش. 2-انقلاب نميرى – جاء فى ظل عجز تام وفشل مزمن لقيادات الاحزاب الكبيرة (حزب الامة والاتحادى الديموقراطى) 3-انقلاب عمر البشير – وهو انقلاب خططت له ونفذته الجبهة القومية الاسلامية بقيادة الترابى – يؤكد مرة اخرى بان العقلية الاقصائية التى قادت الى استصدار قرار حل الحزب الشيوعى هى نفسها التى ارادت اقصاء الجميع والانفراد بالحكم ولتذهب الديموقراطية الى الجحيم. المضحك المبكى ان نفس الشخص( الترابى ) عندما فقد السلطة يتحاور الان مع الحزب الشيوعى السودانى! ثانيا : الاستعلاء صفة تلازم الانسان الذى لا يرعى النعمة ولا يشكر الله على ما أسبق عليه من قوة (سلطة او مال ) او مواهب تجعله مرموقا ومتميزا بين اقرانه. وفى الاطار الاجتماعى فانها قد ترتبط بموروثات ثقافية وصراعات وتنافس بين المجموعات القومية والاثنية. وبهذا المعنى فانها صفة ترتبط بتطور المجتمعات وتبرز فى العلاقات اليومية والمعاملات الحياتية (الزواج والمصاهرة ) .. ولكن الاستعلاء بمضمونه السيا سى وكنهج يعبر عن مخزون فى الذاكرة الجمعية قد لا يجد له فى الواقع السودانى سندا قويا ودليلا ملموسا. المتهمون بالاحتكار (السلطة والثروة ) واقصاء الاخر وتهميشة والاستعلاء عليه هم اهل الشمال. وقبل ان نتفق او نختلف مع هذه الرؤية لنعد قليلا الى الوراء لنرى كيف ولماذا وصل اهل الشمال الى ذلك الموقع(موقع الاتهام). 1- قبل الاستقلال كانت الادارة الاستعمارية (بريطانيا) ترسم وتنفذ سياسة تهدف الى تأهيل كادر سودانى يشارك فى ادارة الدولة وعمال مهرة لتشغيل المنشأت والمصانع ونخبة متعلمة تتولى شؤن البلاد فى المستقبل. على تلك الخلفية ظهرت ونشأت طبقة من العمال (سكة حديد) والكتبة والممرضيين كانت هناك جامعة الخرطوم التى قدمت للسودان المئات من قادة الفكر والثقافة والسياسة. ثم كان (مشروع الجزيرة ) الذى ساهم فى خلق بنية اقتصادية واجتماعية.وبالمقابل فان الشريك الاخر فى ادارة السودان (مصر) كان له دوره فى انشاء المدارس فى كافة اقاليم السودان وارسال البعثات الدراسية الى مصر لتتوج فى النهاية بافتتاح جامعة القاهرة فرع الخرطوم. وعلى مستوى شعبى لم يتوقف المواطنون عن تنظيم حملات التنوير ونشر التعليم بمبادرات فردية احيانا وجهد جماعى احيانا اخرى – ( مدارس بابكر بدرى فى رفاعة وكلية الاحفاد… الخ 2- كانت الخرطوم هى مركز العمل وقبلة المهاجرين والنازحين – وكان الشماليون اسرع من غيرهم فى الوصول الى ذلك المركز والانخراط فى برامج التنمية والعمل الادارى. السبب هو ان الطريق الى الخرطوم كان سالكا عكس القيود والحدود التى وضعتها الادارة البريطانية فى الجنوب والتخلف الذى كان يلف كل مناحى الحياة فى الشرق والغرب ما جعل اهل تلك الاقاليم يعيشون فى عزلة وغياب تام عن تطورات الاحداث فى الخرطوم. 3 – ذلك الوضع مهد لان يلعب الشمال دورا قياديا فى الحركة الوطنية السودانية ضد الاحتلال الانجليزى, كان هناك مؤتمر الخريجين – وكانت هناك نقابات السكة حديد (عطبرة ) وكانت هناك الاحزاب السياسية والتى كانت قياداتها فى معظمها من اهل الشمال, ذلك الاحتكار لم يتجسد فى تشكيل الحكومات والادارات وقيادات الجيش والشرطة – بل حتى البرلمان فان من يمثل الاقاليم (الشرق والغرب ) كان من الشمال ( خاصة فى تجربة الديموقراطية الاولى) هل يمثل ذلك كله استعلاء واقصاءا وتهميشا ؟ لا اعتقد اننا نصيب كبد الحقيقة باقرارنا بذلك . الكل يتفق بان الغرب مهمش ويعيش حالة من فقدان مرتكزات الحياة الاساسية ناهيك عن المشاركة فى السلطة واقتسام الثروة والكل يؤكد بأن الشرق يعيش فى حالة من (النسيان ) ناهيك عن التهميش وأن المواطن فى الشرق لا يشعر بأنه يعيش فى دولة واحدة مع الاخريين. كل ذلك صحيح لا ينكره الا مكابر او صاحب مصلحة. ولكن ما ينساه البعض هو ان الاقليم الشمالى ذاته يعانى من التهميش !! لا تنمية ولا مشاريع اقتصادية واجتماعية. هاجر اهل الشمال من اقليمهم منذ زمن بعيد وانتشروا فى اقاليم السودان الاخرى ( الجنوب والغرب والشرق ) بل وحتى فى دول الجوار – يبحثون عن فرص عمل ومستقبل جديد ثم ان معظم المهاجريين ( المغتربيين ) فى العالم هم من اهل الشمال (البلاد العربية واوربا وامريكا ). هناك اقليم يحسب لاهل الشمال فى حين انه مفتوح للجميع – انه الاقليم الاوسط. الفرق ان اهل الشمال استقروا واستوطنوا فى ذلك الاقليم فى حين ان اهل الاقاليم الاخرى يأتون ويعملون كعمال موسميين ثم يعودون الى اقاليمهم – ربما بسبب روابط اجتماعية وثقافية لا يمكن الفكاك منها وربما بسبب احساس بالغربة بعيدا عن ديارهم وعشائرهم. فاذا كان الاقليم الشمالى لا يقل تهميشا عن الاقاليم الاخرى فان من نسى اقليمه وتركه وراءه ولم يعمل على تنميته لا يمكن ان يتهم بالاقليمية والاستعلاء. لكن تهمة اهل الشمال اكبر من ذلك – كانت فى يدهم – وما تزال – السلطة المركزية فى الخرطوم سواء كان ذلك بطريقة ديموقراطية او انقلابات عسكرية – والذى حدث هو تهميش السودان بكامله بكل اقاليمه – ادخاله فى دوامة من الصراعات والحروب التى جعلت وحدة السودان محل تساؤل. لو كانت تلك النخب القيادية بدأت حل الخلافات الداخلية ولو امتلكت النظرة الشاملة لمشاكل السودان بعد الاستقلال مباشرة لكان السودان اليوم فى وضع مختلف. ولو كانت قيادات الانقاذ قد بدأت ما تحاول تحقيقه الان منذ ان استولت على الحكم لاختلف الوضع – لكن الانقاذ اضاعت وقتا وجهدا دون مبرر اللهم الا اذا كان السبب هو (الشيخ) الذى كان وما يزال لغزا فى فكره وايمانه وظاهرة لا يمكن التنبؤ بما ستتحول اليه من وقت الى اخر. يحاول الشيخ الترابى ان يجمع بين صفتين ومهمتين : العالم الدينى المجدد والحاكم الدنيوى المعاصر. الاولى مهمة كبيرة ومسئولية عظيمة تتطلب تفرغا كاملا وعقلية تؤمن بالخطأ والصواب ولا تدعى العصمة تتطلب شخصية لا تعتمد على الكلام المرسل بل على الشواهد المسندة , شخصية تتمتع بنكران الذات وتغليب المصلحة العامة. اما الصفة الثانية : الحاكم المعاصر – فتلك تتطلب العدل والحكمة والايمان بالمساواة بين البشر وحقهم فى حريتهم والتمسك بالحقوق الانسانية الاساسية. كل ما جرى فى السودان منذ مجىء جبهة الانقاذ الى الحكم محسوب على هذا الشيخ – ساهم فى ذلك مباشرة او أمر به او غض الطرف عنه . عرف عن اهل السودان التسامح والسماحة – ولكن الشيخ جاء بعقلية تصفوية اقصائية برزت سماتها المبكرة فى اقصاء جناح السيد/ صادق عبد الله عبد الماجد من الحركة الاسلامية التى كان يتزعمها ثم فى قرار حل الحزب الشيوعى السودانى ثم فى التعاون والتحالف مع نميرى واعدام الشيخ ( محمود محمد طه) واخيرا خلال حكم الانقاذ- حيث ظهرت بيوت الاشباح وتصفية الخصوم وامتهان انسانيتهم. قد تكون للتنظيمات مسئوليتها ودورها ولكن هناك دائما دور الفرد فى اطار تلك التنظيمات والحركات – تلك الظاهرة تكررت فى بلدان القرن الافريقى كما سنرى – واذا كان (الترابى ) هو بلاء السودان ونموذجه فى الاستئثار والاقصاء فان فى كل بلد فى القرن الافريقى (ترابى ) محلى قام بنفس الدور. ثالثا: العدالة والمساواة – اهل الجنوب بلغوا غايتهم بتوقيع اتفاق (نيفاشا) بعد سنوات من الحرب الطاحنة. واهل الغرب فى طريقهم لبلوغ تلك الغاية , وفى ظل هذه (الصحوة) التى يعيشها نظام الانقاذ سواء كانت نتيجة ليقظة ضمير والاستفادة من دروس الماضى او بسبب ضغوط خارجية فان الشرق موعود بما سبقه اليه اهل الجنوب والغرب. وهناك بعض الخصوصية بالنسبة لموضوع الشرق : 1-العلاقة مع ارتريا – سواء كانت سلبا او ايجابا فان علاقة النظامين فى كل من اسمرا والخرطوم ستؤثر على سير عملية المفاوضات وتشكيل التنيجة النهائية. 2-مع صحة ومصداقية المطالب المشروعة لاهل الشرق الا ان من تصدى للمطالبة بها ومن تحرك باسم الشرق بحاجة الى اجماع داخلى من ابناء الشرق انفسهم, اذا اخذنا (منظمة الاسود الحرة )كمثال وهى تمثل الرشايدة والزبيدية ومن لحق بهم أو تفرع عنهم يمكن ان تطرح تساؤلات جدية: ماذا وجد الرشايدة فى ارتريا واية عدالة ومساواة منحت لهم ؟ وبالمقابل ما الذى افتقده الرشايدة وحرموا منه فى السودان ؟ انهم فى حالة ترحال دائم لم يختلطوا ولم يتفاعلوا مع محيطهم وبالتالى لا يمكنهم الادعاء بتمثيل الشرق , يمكنهم ان يعيشوا فيه مع الاخرين وتضمن لهم حقوق كل اقلية تعيش فى وسط غالبية تختلف عنها ثقافة وجذ ورا وطموحا, ثم ان ا قليم الشرق يضم اليوم مجموعات قومية نزحت او هاجرت او تم ترحيلها من مناطقها فى شمال السودان (المحس- حلفا) وهذه اصبحت بعد طول اقامة جزءا من النسيج الاجتماعى والبنية الاقتصادية للاقليم. 3-اما بقية مجموعات المعارضة المقيمة فى ارتريا فهى جزء من اهل الشرق الاصليين ويرتبطون معهم بروبط الدم والقربى والمعاناة,ولكنها بحاجة الى التواصل والاتصال بتلك القاعدة حتى لا تفقد الاتجاه وتدخل فى معارك انصرافية. المطالبة بالمساواة تتطلب ان تبدأ المعارضة بنفسها وتكسب رضا ( قومها ) والمطالبة بالديموقراطية تفرض عليها اخذ راى وموافقة من تقوم بتمثيلهم والا فان النتيجة ستكون صراعا داخليا يؤدى الى تداعيات اجتماعية وثقافية بعد ان تنزاح ( المظلة الشمالية ) التى يشكو منها الجميع الان وهذا ما حدث فى غرب السودان ! ثم ان التمسك والتمسح بجلابيب نظام دكتاتورى مثل النظام الارترى يلقى ظلالا على مصداقية المطالب والنوايا والرؤية المستقبلية. وحتى لا تحسب على المعارضة فى الشرق ممارسات النظام الارترى وتنسى اجندتها الرئيسية فان عليها ان تحتفظ دائما لنفسها بمسافة تفصلها عن النظام الارترى وتقترب اكثر مع جذورها ورموزها فى داخل السودان وتجعلهم مرجعيتها ووسيلتها لتعزيز وتأكيد المطالب المشروعة لاهل الشرق الحلقة القا دمة : اثيوبيا