عشرون عاما على إخراس ضمير الأمة
فتحي عثمان
عشرون عاما تمر اليوم “الثامن عشر من سبتمبر” على اعتقال الصحفيين ومجموعة الخمسة عشر الإصلاحية في ارتريا.
طالبت مجموعة الخمسة عشر الإصلاحية وهي مجموعة مكونة من كبار القادة السياسيين والعسكريين للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا بتفعيل مواد الميثاق الوطني الذي تم إقراره في المؤتمر الثالث للتنظيم والذي عقد في مدينة نقفة في صيف عام 1994. وأهم تلك البنود صياغة الدستور وتفعيله، والشروع في صياغة قوانين الانتخابات بغرض تكوين حكومة منتخبة من وسط الشعب، وكفالة الحريات الأساسية خاصة حرية التنظيم وحرية الرأي والتعبير وأخيرا اعتماد نظام السوق الحر في اقتصاد التنمية الوطنية. وطالبت المجموعة عمليا بعقد اجتماعات مؤسسات الحزب التشريعية والتنفيذية والتي تم تعطيلها منذ عام 1997؛ وبما أن هذه المطالب أعلنت في ظل الحرب الحدودية مع اثيوبيا؛ فلقد طالبت المجموعة بمحاسبة الرئيس اسياس افورقي عن سوء إدارته للحرب، ورفضه لمبادرات السلام الإقليمية والدولية والتي كان بالإمكان في حال قبولها أن تحقن دماء الشباب الارتري وتؤمن الحماية للأراضي التي قام الجيش الاثيوبي باحتلالها وشملت مدن ارتريا كبرى مثل صنعفي وبارنتو وتسني. تزامنت هذه المطالب “غير القابلة للتأجيل” مع نشاط متزايد للصحافة المستقلة والخاصة في البلاد؛ حيث وفرت صحف هذه الفترة منابرا جماهيرية لأعضاء المجموعة لمخاطبة الشعب مباشرة وحققت الصحف الخاصة أعلى نسب مبيعات مقابل الجريدة الرسمية للدولة بنسخها الثلاث.
في الثامن عشر من سبتمبر من عام 2001 وبينما العالم تحت التأثير المخدر لصدمة هجمات الحادي من عشر من سبتمبر، قامت وحدات الأمن الارترية في وقت واحد باعتقال حوالي ثلاثين صحفيا وثلاثة عشر من مجموعة الخمس عشر والحقت بهم العشرات في مدى زمني وجيز. اليوم وبعد مضي عشرون عاما على اعتقال هذه الكوكبة التي تمثل ضمير الأمة الحي، لا تعرف أماكن اعتقالهم ولا أوضاعهم الإنسانية حيث لم يقدموا لأي محاكمة من أي نوع ولا يسمح لأي كان بزيارتهم أو الاطمئنان عليهم، ولا يعرف عما إذا كانوا أحياء أو أموات، والتهمة التي أشيعت عنهم هي الخيانة العظمي والتآمر مع الأعداء ضد الوطن والقائد. فما الذي كشفته الاعتقالات الجائرة هذه بعد عشرين عاما؟ أول ما يتبدى من مظاهر العقوبة في ارتريا “ذات السيادة”، أنها، أي العقوبة، ذات طابع “قروسطي”، أي أنها تحمل سمات عقوبات القرون الوسطى. ففي ذلك الوقت كان الملوك والأمراء يحبسون خصومهم في قلاع وسجون بدون محاكمات أو تهم ودون أن يسمح لذويهم بزيارتهم ويقضوا في تلك المحابس أعمارهم حتى تصعد أرواحهم إلى بارئها. وفي ارتريا هناك عدة أهداف متوخاة من هذه القسوة البالغة في العقاب وهي: كسر روح المعتقل، وإذلال ذويه ومحبيه بالوصمة الناتجة عن التهمة وإطالة مدى الاعتقال الزمني، وأخيرا اعتماد العقوبة كرادع شيطاني بتحويل المعتقلين إلى “عبرة وعظة” وتحقيق الهدف الأسمى عبر ذلك كله وهو إشاعة الخوف والترهيب وقتل روح المقاومة. واليوم نمر بظروف مماثلة للتي تم اعتقال الصحفيين ومجموعة الخمسة عشر فيها، وهذه الظروف هي توريط ارتريا في حرب أهلية في دولة مجاورة بقرار فردي ولبنود مخفية عن الشعب والجيش نفسه، وتنعدم بسبب سابقة اعتقال مجموعة الخمسة عشر فرص توجيه النقد ومحاسبة “القائد” على هذا السلوك التدميري. وبسبب القبضة الحديدية وتكميم الأفواه في الداخل يأخذ الوسط الارتري في الخارج زمام مبادرة كشف الممارسات ومساءلة الأسباب والدوافع وانتقاد الخطوات التي يتخذها الطاغية بكل جرأة ودون خشية من حساب أو عقاب. وبما أن الخارج لا يقع تحت طائلة المستبد فإنه يوظف جنده وحزبه لإلصاق تهم الخيانة والعمالة بمنتقدي سياساته. وإذا صحت تهمه لمعارضيه ومنتقديه اليوم؛ فإن ذلك يعني أيضا “صحة” تهمة لمجموعة الخمسة عشر؛ لأن المنطلقات واحدة وهي محاسبة القائد ومساءلته والاستجابة هي أيضا واحدة: استخدام الإساءة والتخوين كبديل عن البطش والتنكيل بسبب قصر ذات اليد. ومتواليات سلوك الطغاة لا يصعب التنبؤ بها نسبة لصدورها عن ذوات مريضة من ناحية ولتكرار النتائج، وهو ما نشاهده اليوم في الحالة الارترية. يبدو الشعر، وبقدرته المذهلة على التكثيف، أمهر اقتناصا لهذه الحقيقة إذ يخلدها المتنبئ بقوله: “إذا ساء المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعادي محبيه بقول عداته وأصبح في ليل من الشك مظلم”