غرماي عندوم.. أغنية إريترية خارج الوطن-الزنزانة. بقلم/ محمود أبوبكر
27-Mar-2018
عدوليس ـ نقلا عن العربي الجديد
المسافة بين الحلم والراهن لا تُعبّد إلا بالإبداع والجنون، ، والنحت في صخرة صماء، في وطن يدير ظهره للحالمين، “أتيت محمّلاً بالأشواق، مثقلاً بالحلم الجميل، واكتشفت أن الوطن ليس سوى مقبرة كبرى لأثقالي”، هكذا بعبارة واحدة يختزل الفنان الإريتري غرماي عندوم (1984) Ghirmay Andom سيرته مع الوطن، وتجاربه الحثيثة مِن أجل خلق وطن يتسع لأكثر من ويليق بالحالمين، أكبر من حلقة الـ “جوايلا” (إيقاع موسيقي لإحدى القوميات الإريترية) وأوهام الاختزال
والتنميط، وطنٌ أقرب ما يكون لحقيقته الأولى، التي تمتد من سهول “تسني” (مدينة غرب البلاد على حدود السودان) حتى أعالي الهضبة، مروراً بأمواج السواحل. يقول لـ”العربي الجديد”: “الأمر جرى بترتيب واضح.. كانوا يريدوننا صورة واحدة تشبه تصوراتهم..”، فيما الحالمون من أمثاله بالكاد يحتفظون بصورة الموزاييك المتعدد بدواخلهم. “آخر ما تصورته هو أن أُدفع إلى الهروب” من الوطن نحوه، هكذا تكتمل الصورة أن تُدفع إلى الهروب منك إليك، و”من لك غيرك تلوذ إليه”، أن تهرب من أجل أن تحتفظ بالحلم طازجاً، أن تحمي صورتك من بها، أن تعود إلى المربع الأول، تحمل الصخرة على كاهلك، مرات ومرات، كـ”سيزيف” زمان آخر، تدفعها نحو الأعلى حتى لو كنت واثقاً أنها قد تهشم رأسك، بكل أثقاله وأفكاره. أن تكون نشازاً في وصلات نشيدهم الركيك، وأن لا ترهن صوتك للجوق الرسمي، هكذا انتمى غرماي لذاته، ولمسيرة شعب يأبى أن يختزل في مونولوج الـOne man show system، كان يعلم جيداً أن هكذا خيار سيلفظه -في أحسن الأحوال-نحو المربع الأول، مربع المنافي التي خبرها طفلاً، قبل أن يعود للوطن مدثراً بالأماني العراض، مرة أخرى اختبر الصبر شبابه، ليتدثر العتمة ويقطع خط الحدود مع السودان راجلاً، نجى بجلده وأحلامه البكر، لتبدأ رحلة أخرى من المكابدة، مغنياً وملحناً وإعلامياً يغذي وكالات الأنباء العالمية بتفاصيل المأساة المنسية.
عمل مراسلاً مستقلاً لرويترز والجزيرة وغيرها من المؤسسات، من جهة، ومن جهة أخرى ناشطاً حقوقياً يحمل قضايا الكادحين في الوطن-الزنزانة، مستغلاً علاقاته مع الوسط الفني والسياسي السوداني.يقول: “ليس هناك التباس في الرؤية بين من يسمون معارضين أو مؤيدين، فكل من دُفع إلى الهرب من الوطن مثلي، هو بالضرورة معارض للنظام”، هكذا يُبسّط المعادلة، لكنه في الآن ذاته، يعلن رفضه أي حلول تأتي عبر العنف، أو العنف المضاد، “لن أؤيد أي عمل مسلح، أدعو للحوار حتى مع النظام، ففي نهاية الأمر الطاولة المستديرة هي الوسيلة الناجعة”، ليكسر بذلك فرضية “تجريم الحوار مع النظام”، التي تحولت بفعل الصمت العام، إلى تابّو سميك: “لا أتصور أن أتحاور مع من يقتسمون معي الرؤية بل مع من يختلفون معي، حتى لو اعتبرتهم مدانين في مأساة الوطن”.
غرماي قُبل مؤخراً من قبل مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، التي وطّنته في الولايات المتحدة الأميركية، بصفة لاجئاً سياسياً، حيث قرر أن يعود لمقاعد الدراسة، ليواصل تعليمه العالي في الإعلام، حتى يوصل صوته للعالم، ليس بالغناء الذي تبوّأ فيه مكانة مشرفة فحسب، بل كإعلامي يسعى إلى استحداث وسائل جديدة لعكس معاناة شعبه ووطنه في الإعلام العالمي.
لا يقتصر جهد غرماي على تنويع اهتماماته في الشأن العام، مغنياً و ناشطاً ومخرجاً وإعلامياً، فحسب، بل يفرد وقتاً أكثر من أجل تنويع أشكال التعاطي مع كل نمط فني يمارسه، حيث يبدو جهده واضحاً في التحليق بالأغنية الإريترية بعيداً عن الأشكال المعتادة والثابتة، يقول لـ”العربي الجديد”: “بعد أن حظيت بالجائزة الكبرى في مسابقة “أفريكان دريم برايز”، أسعى إلى استثمار هذا الأمر، في كسر العزلة عن الأغنية الإريترية، وأبذل قصارى جهدي، لعكس التعدّد الإيقاعي الذي تزخر به بلادنا، على نقيض ما تفعل المؤسسة الرسمية الساعية إلى اختزالنا في إيقاع واحد”. تتميز أيضا تجربة غرماي في الاشتغال على التعدّد اللغوي، حيث يغني بلغات ولهجات مختلفة، منها: العربية، والتغرينية، والكوناما، والإنكليزية.