هشــيم الذاكــرة …ترقي ينسج أحابيل شباكه ويتصيّد العملاء
بقلم/ عمر جعفر السوري
بعد أن انكشف أمر ترقي وباتت مؤامراته والوسائل التي يتبعها للتغلغل في المجتمع الخرطومي والسيطرة على الرأي العام من خلال وسائل الاعلام ورجال الصحافة، لا سيما بعد فضيحة كتاب أحمد طيفور سيء الصيت الى جانب جريمة التخلص من رموز المعارضة الاثيوبية بالقتل والاغتيال دون خشية أو وجل، لم يرتدع الكولونيل بل عمل بكل الأساليب والوسائل لإسكات الأصوات المناوئة له ولنظام الامبراطور هيلي سيلاسي. لم يكتف ببيوت الدعارة والاقبية السرية المظلمة، بل ذهب أبعد من ذلك الى استغلال المناسبات الاجتماعية لتجنيد العملاء وكسب ود الصحافيين.
ففي عقيقة (سماية) مولود للصحافي عصمت معني كان هو حاضراً بقوة، بل كان صاحب المناسبة التي صرف عليها ببذخ ما بعده بذخ وأوعز لعصمت أن يدعو أكبر عدد ممكن من زملائه والشخصيات السودانية، وقام هو بدعوة بعض أعضاء السلك الدبلوماسي للمشاركة في الاحتفالبالمناسبة السعيدة. كان عصمت معني صحافياً هامشيا مغموراً، عمل في وكالة انباء أفريقيا الجديدة التي أمتلكها ورأس تحريرها الصحافي السوداني الكبير عمر كرار وهو شقيق السياسي السوداني، زعيم الحزب الاشتراكي الإسلامي، بابكر كرار. لم يطل المقام بعصمت في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة، بل التحق بعدها بقسم المعارض في وزارة الاعلام. لكن خلال فترة عمله القصيرة صحافياً تعرف على المجتمع الصحافي ومن بين هؤلاء زميله الذي عمل معه في الوكالة،كمال الجزولي.
سندع كمال يصف لنا ما جرى في تلك الليلة الليلاء:
اقتباس: ” الواقعة الوحيدة التي كنا، صِدِّيق محيسي وشخصي، ضمن شهودها المباشرين، بالمصادفة البحتة، حدثت يوم دعانا زميل صحفيٌّ متواضع القدرات المهنيَّة، ذات خميس من أوائل عام 1968م، لتناول طعام العشاء بمنزله بأم درمان، بمناسبة (سماية) مولوده الجَّديد. وفي طريقنا لتلبية الدَّعوة لم نكن نمنِّي النَّفس بأكثر من سهرة غاية في التَّواضع، لعلمنا بحقيقة إمكانيَّات مضيفنا الماليَّة! غير أننا، ما أن اقتربنا من (بيت السِّماية)، حتى لاحظنا زحاماً لم نكن نتوقَّعه، وأرتالاً من السَّيَّارات الفارهة حاملة لوحات المرور الدِّبلوماسيَّة! ثمَّ إن المفاجأة الأكبر كانت بانتظارنا داخل بيت أخينا، حيث أحالت الزِّينات المبهظة والثُّريَّات الضِّخام ليله نهاراً، وحيث تحلقت أعداد مهولة من المدعوِّين، أكثرهم صحفيُّون، حول طاولاتٍ نُضِّدت بأناقة، وفُرشت بالأغطية الفخمة، ورُصَّت عليها صِحاف الضِّيافة، وآنيتها، بسخاء باذخ! جلسنا، على استحياء، إلى أقرب طاولة، وما لبث مضيفنا أن لمحنا فخفَّ يستقبلنا ببشاشة وترحاب، ويأمر لنا بالمزيد من الضِّيافة، ونحن بين الدَّهشة والحيرة نكاد لا نصدِّق أعيننا! وإن هي إلا لحظات حتَّى بدأت ترتفع أصوات آلات موسيقيَّة يضبطها عازفوها تمهيداً لبدء الغناء. التفتنا، لاإراديَّاً، إلى حيث منصَّة العزف في واجهة الفيراندا المطلة على الحوش، فأبصرنا ثلة من الفتيان الإثيوبيين بأقمصتهم وآلاتهم القوميَّة المميَّزة!
لكن، قبل أن نعِي الحاصل بالضَّبط، فرقع صوت امرأة كبيرة السِّن من داخل الفيراندا: ـ الرَّسول يا بنات امِّي جيبوا المرارة لي .. تِرِّيكَن?! وقفَّ شعر الرؤوس، وسرت الرَّعدة بين الطاولات. التفتنا، لاإرادياً أيضاً، إلى حيث فرقع الصَّوت، فإذا بـ (سفير جهنَّم) ذاته الذي لفظت العجوز اسمه صراحة، بلحمه وشحمه، وقد أحاط به أهل البيت، رجالاً ونساءً، في مودَّة، كأنه وليُّهم الحميم، يضاحك الكبار، ويداعب الأطفال، وأمامه طاولة خاصَّة مُدَّت، وصحاف منتقاة رُصَّت، وبدا جلياً تماماً أنه هو، لا غيره، ضيف الشَّرف السَّخِي في تلك الليلة!
ما حدث، بعد ذلك، كان عبارة عن (كوميديا سوداء)، إذ ألفينا نفسينا، صِدِّيق وشخصِي، نتدافع، في صمت، مع آخرين كثر، دون سابق اتِّفاق، عند باب الخروج! وفي الشَّارع استغرقتنا موجة من الضَّحك الهستيريِّ عندما رأينا أن بعض الزُّملاء ما كادوا (يتخارجون) حتى أطلقوا سيقانهم للرِّيح!
لم نكفَّ عن الضَّحك إلا صباح اليوم التالي، حين فوجئنا بقنبلة تدوي من منشيت الصَّفحة الأولى لجريدة (الضِّياء) “صحيفة الحزب الشيوعي التي صدرت بدلاً عن جريدة الميدان لفترة”:الملحق العسكري الإثيوبي يقيم حفل علاقات عامَّة للصَّحفيين لتجنيد عملاء جُدُد.. أو نحو ذلك! طالعنا الخبر، وفيما يشبه اللوم همس لي صِدِّيق، الذي ساءته كثيراً تلك الصِّياغة، بأنها تمسُّ صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم لبُّوا دعوة عشاء عاديَّة دون أن يعلموا أنها ربَّما كانت مصيدة! تركت صدِّيق يدلف وحده إلى (السُّودان الجَّديد)، حيث نعمل سويَّاً، وتوجَّهت إلى (الضِّياء)، حيث نقلت إلى المرحوم حسن الطاهر زروق لوم صدِّيق وتفاصيل ما جرى. وكان مِمَّا قال (أبو علي) في ذلك، بلهجته المصريَّة المحبَّبة: أيوه يا بني .. كلام صِدِّيق صح، وأكيد راح نطيِّب الخواطر، بس كمان أخوانا دول لازم يتفهَّموا إنِّ مَكانش ممكن نهـدر القيمة التحـذيريَّة في الصِّياغة!
وحول صحن الفول السَّاخن بزيت السِّمسم الذي دعاني إليه راح يضحك ويستزيدني من حكاية الرُّعب الذي أصاب الكثير من الضِّيوف الصَّحفيين حين فوجئوا بعلاقة تِرِّيكَن بالحفل. وفي اليوم التالي نشرت (الضِّياء) تنويهاً مهذَّباً في ذات المعنى الذي ذهب إليه (أبو علي)، فطابت خواطر كثر.
انتبهت إلى أن نهر الذِّكريات جرفني بعيداً عن ذلك (الرِّمَّة) المكوَّم إلى جواري على الأريكة الخرصانيّة في باحة مستشفى السِّجن، والذي كان يوماً (سفير جهنَّم) ناشر الرُّعب المخابراتي في ليالي الخرطوم! عدت أتفحَّص هيئته الرَّثة، وأتمعَّن في عينيه الكلبيَّتين تتصيَّدان أعقاب السِّجاير الشَّحيحة حولنا، وأسأله عن سبب كلِّ تلك (البهدلة)، وعن سِرِّ وجوده، أصلاً، في ذلك المكان. فعلمت أنه هرب من أديس بعد إطاحة (الدرق) بالإمبراطور، وأنه قضى فترة في بريطانيا، ثمَّ قرَّر المجيء لطلب اللجوء في السُّودان الذي (يحبُّه كثيراً!) كما قال، لكن جماعة النِّميري غدروا به، فاعتقلوه وزجُّوا به في غيهب السِّجن! نهضتُّ، وقد تبدَّد، لسبب ما، شغفي بقصَّته! لكنَّني، وبعد أن خطوت بضع خطوات باتِّجاه العنبر، تذكَّرت، فجأة، أن معي ثلاث سيجاراتٍ، فرميت له بواحدة قفز يلتقطها في الهواء، ككلب صيد مدرَّب، ثمَّ.. مضيت مبتعداً!” انتهى الاقتباس.
هنا يقفز الى الذاكرة بيت أبي البقاء الرندي في رثاء الاندلس:
يا غافلاً وله في الدهر موعظة إن كنت في سِنةٍ فالدهر يقظان