ثقافة وأدب

هنـــــاكـــ فـــي البـــعيــــد.. إدريـــس محمد علي أغنــــيـــة للـــحــب والــــحـــريــة. تدوين /محمد فرح وهبي

14-Mar-2017

عدوليس ـ صحيفة

يردد الناس أغنياته كنشيد لوطن في المخيلة، لبلاد خفية لا يُبصرها إلا القريبون، من يعرفون الأزقة ومن تُقرئهم السلام حيطان المنازل المائلة والمستقيمة علي حد سواء، من يعرفون أوطانهم كأنفسهم ، من يقاتلون في سبيلها، إنها البلاد، البلاد التي رضي الله عنها، كيف أذن يُغضبها الدكتاتور ولماذا؟!. 1 ذاكرة.. في حي (أب خمسة) بمدينة كسلا تداخلت أعراق شتا وتمازجت، لم تكن حلة (أب خمسة)، محض حارة صغيرة يقطنها نفر قليل من الجهتين ، إنما هي وطن كامل تذوب في أنحائه الجهات والناس وأشياءهم، حكاياتهم الطازجة عن ماض لن يعود وحلمهم الدائب بغد أفضل، وأن تكون إبناً للحظة يعني أن تمتلئ بها، أن تكون إبناً لكل أهل الحي فهذا يعني أنك في (أب خمسة).. غناء الحقيبة الأمدرماني من أقصي نقطة في مركز السودان وبقعته البعيدة، تسمعها هنا باضافة الحنين والتخيُّل، كأنها خيط رفيع يربطهم بآخرين في المكان البعيد، المكان الذي لا يعرف كثيرهم عنه شئيا سوي ما رسمته الأغنيات، أغنيات

(التمتم) وإيقاع (الكبرو) و(اللالي لي ولا لي) و(هوي هوي مرحبا بعلا سييف مرعوي) و(كاسلا كاسلا أنا قلبي سافرا) و(منو الفاتح كتاب الغيب منو الورانا عمرنا كم؟.). يرددها الناس كنشيدٍ لوطن في المخيلة، لبلاد خفية لا يُبصرها إلا القريبون، من يعرفون الأزقة ومن تُقرئهم السلام حيطان المنازل المائلة والمستقيمة علي حد سواء، من يعرفون أوطانهم كأنفسهم ، من يقاتلون في سبيلها، إنها البلاد، البلاد التي رضي الله عنها، كيف أذن يُغضبها الدكتاتور ولماذا؟!. 2 مكانين وزمن واحد..
في ستينات القرن الماضي موزعاً ما بين مدينتي كسلا والقضارف عاش فصول حياته الأولي بيده ريشة للعود وبأخري قبضة متحفزة للإنقضاض علي من سرق الوطن، هو سليل أسرة ثورية ويُتم مبكر لم يقده إلا لنفسه في تمامها. إنهم السماويون الأرضيون بملامحهم المتوثبة وقصصهم المتناصة حد الإنطباع واحدها في الأخر قصة إثر قصة. قبلك يا إدريس توزّع الخليل أفندي فرح فنان المدنية والثورة الأول في السودان، توزّع بين لغتين ومكانين وأزمنة عديدة هي الأخري لم تقده إلا لنفسه، هونفسه في تمامها ويأتي في حالٍ مماثلٍ من تم تنُصَيبه ذات عام بعيد فناناً لأفريقا كلها إمتداداً لقصة اليُتم نفسها التي عاشها الخليل، عاشها هو الآخر حد التشظي فأنتجت إنساناً وفناناً ثورياً بقامة محمد وردي.
3 طفولة ..
*(قرية قاجيوا بمنطقة الساحل خلّدت حضورها الجغرافي في إريتريا، حين شهدت منتصف الخمسينيات الميلادية مولد إدريس محمد علي، والذي سرعان ما سيمرُّ بمنعطف هام حين يفقد والداه ولمّا يبلغ العاشرة من عمره. فينشأ في كنف حامد، أخاه الأكبر وأحد مقاتلي الرعيل الأول للثورة الإريترية. ومنه إنتقل إلى رعاية أخيه الآخر عبدالرحمن الذي كان له أعظم الأثر في تكوين إدريس الوجداني، قبل أن ينضم هو الآخر إلى قائمة طويلة من شهداء البحث عن الوطن المغيّب). إدريس محمد علي إرث حضاري لشعبين إذ لا يعني توزعه بين الجهتين إريتريا والسودان، إلا دالة واضحة علي عدالة صوته الموزّع هو الآخر بينهما كنهر. في ستينات القرن الماضي تأثر المغني بمغنين سودانيين ثوريين ربما مثلّهم الفنان الكبير والرمز حسن خليفة العطبرواي، والتي تقول الروايات أن إدريسا إحتك به وتعلّم علي يديه بعض فنون العزف علي آلة العود.. وربما لم يأتي هذا التماس مع العطبرواي إلا في سياق المقاربات الثورية فكلاهما غني لشعبه ولأرضه وللحرية: أنا سوداني أنا وغدا نعود ولا لن أحيد.. والكثير الكثير. وبالمقابل بمثلما فُطمنا علي صوت العطبرواي، فقد كنا حضوراً طازجا لحدث تشاركنا فيه جميعا بالحُلم والصلوات، لم تكن حرية إرتريا غير أُمنية مُهرت بدماء الشهداء وصوت المغني يحلّق عاليا: إرتريا يا جارة البحر يا منارة الجنوب لأجل عينيك الحزينتين يأتي زحفنا من أقدس الدروب.
4 لإدريس محمد علي ..
العديد من الأغنيات مابين لغة التقري واللغة العربية وهو تميّزبجانب موهبته الفذة في الغناء، في كتابة الشعر والتلحين والعزف علي آلة العود. تعامل مع العديد من الشعراء منهم علي سبيل المثال: محمد عثمان كجراي، أحمد سعد، التيجاني حسين دفع الله وجمال الدين شبيكة ، سليمان كليم والشاعر و الرمز عبد الرحمن شنقب. يقول عنه الفنان موسي أحمد عبد القادر وهو رفيق نضاله وأحد أعضاء فرقته: إدريس جبل من جبال إرتريا وهو قيمة تاريخية كبيرة وهو المُحرض الأساسي لنا لنيل إستقلالنا.
5 شعبنا تستحق ( لقندالي)..
طاف المغني مع أعضاء فرقته الموسيقية معظم بلدان الشرق الأوسط يُعرّف الناس بهم وبعدالة قضيتهم وكانت فرقة مكونة من: عثمان عبد الرحيم (مغني) وأبلاي وهو فنان شعبي، عبد الله أندول، متواجد بالقضارف وهو رفيق إدريس محمد علي، وعازفي الجيتار تخلي وكتوآ ونقاش، زائدا كمنجات وساكسفون وأورغن بالإضافة إلي (قرماي سلمون) وهو فنان تكرنجا. غنوا جميعهم للوطن بكل لغاته غنوا عرّفوا العالم كيف تُناضل الأغنية كيف يصير النشيد علامة. غني عثمان عبد الرحيم : يا شعبنا المغوار يا زحفنا الجبار الويل للغدار من غضبة الثوار وغني إدريس: أمشي علي قدمي حافيا دون حزاء وأطوي علي بطني جائعا دون غذاء أتحمل المشاق من أجل إرتريا. وهي من كلمات سليمان كليم وهو مقيم في إرتريا وغني الفنان إبراهيم قوريت: شعبنا تستحق (لقندالي). بمعني تستحق أن تمضي ورأسك مرفوعا.
6 في طريق طويل..
مضي المغني بهامته العالية ينشد الحرية والكرامة لشعبه واهباً عمره لهم، ظل المُغنّي في موقفه وموقعه ثابتاً صامداً كضُوء مصباح يُنير ليل البلاد الطويل فضيق به زرعاً وزُج به هناك في ما وراء خط الأفق، هناك حيث لا تسأل ضحية جلادها ولا يسألون. هناك حيث تمضي فقط كالآف من مضوا قبلك، أن تشتم رائحة الدم منبعثاً من الأجساد وأن تشاهد آثار التعذيب والألم علي الوجوه ولا يصل الصوت. لماذا تبدو أفريقيا كقارة للرعب دائماً؟ ومع ذلك هل تحقق للجنرال ما أراد؟. إن أغنية ثورية واحدة لهي أطول من ظل الجلاد وماملك. أشرقت شمس العام 2005 علي خبر صادم وحيد: إختفاء الفنان إدريس محمد علي، في ظروف ليست غامضة تماما، مع ذلك لا أحد يستطيع أن يسأل أو يقترب!.
7 إدريس محمد علي الأسطورة لا تموت..
إفريقيا هذه الحكايا التي لا تنتهي، مثقلة هي بالألم وبالأمل وبتنهدات شيوخها وشباباها علي حد سوا. تتعدد إندهاشاتك بقدر تجولاتك وتوزعك بين الأماكن. في إرتريا لا تندهش إلا علي النقيض مما يحدث في كل العالم، غياب مفردة مثل الكذب من قواميسهم، وانه لأمر غاية في الإرباك والإدهاش. إذ أنه بدل أن يوصيك أحدهم الوصايا الثلاث ، مالك نفسك ، صحتك. وأنت تهم بدخول ذلك البلد يردد: أخشي عليك منك فيهم..ستأسرك محبتهم سيأسرك صدقهم وستجد نفسك كأبهي ما تكون، إنساناً عزيزاً وستجد الحياة في مكان لا يتصور إنساناً أن به أدني حركة حياة. الأرتريون قوم لا يكذبون يا سيدي!. حين تأملك حالة هذا المغني تنفتح علي حقيقة وحدة الوجود والمصير الإنساني فالظلم طعمه واحد وشكله واحد، فقط هو يوزّع نفسه علي أكثر من إتجاه، وبالمقابل تتصدي له في كل هذي الجهات جموع بشرية يمثلّها أفراد يتشابهون في كل شيء ، إخوة الضمير والمصير، أولئك الآتون من نبع سماوي واحد، لم تفطمهم أرضيتهم ولم تمنعهم عن التحليق عالياً، ربما لذلك هم قريبون حد النفس والهواء وغريبون كما الملائكة.
** أمسي جئت غريبا وأمسي مضيت غريبا وها أنتذا حيثما أنت تأتي غريبا وتمضي غريبا تُحدق فيك وجوه الدخان وتدنو قليلاً وتنأي قليلاً وتهوي البروق عليك وتجمُد في فجوات القناع يداك وتسأل طاحونة الريح عنك كأنك لم تك قط يوما هناك.
حواشي: *من مقال للروائي الإريتري حجي جابر
**مجتزأ من قصيدة(وسد الان رأسك) لمحمد مفتاح الفيتوري.
*ويكيبيديا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى