حوارٌ أدبي مع مبدعٍ من إرتريا !
بقلم: د. شعبان عبد الجيِّد
شاعرٌ وناقدٌ وأكاديميٌّ من مصر.
منذ بدأت صلتي بإبداعات الأديب الإرتري هاشم محمود قارئًا وناقدًا، وكان لي شرف تقديم اثنتين من رواياته، وأنا أتابع كلَّ ما ينشره من قصص وروايات، وحتى مقالات، وأتابع أيضًا ما يُجرَى معه من أحاديث ولقاءات، مكتوبة أو مصوَّرة، وكان يدهشني كثيرًا تنوع موضوعاته وغزارة إنتاجه، وسمحت لي صلتي به أن أسأله عن ذلك مباشرة، فقال لي كلامًا كثيرًا، وأسهب في ردِّه إسهابًا فهمت منه السر وراء ذلك؛ فالرجل عنده الكثير مما يمكن أن يقول، في مختلِف شئون وطنه وقضايا أمته، وهو مُشغَلٌ بما يحدث في بلاده وفي الوطن العربي كله، ويرى أن ما يحدث هنا وهناك سلسلة محكمة الحلقات، ومخطَّطٌ واضح في رؤوس مدبريه، وهو في سبيله إلى إصدار رواية تحاول جمع الخطوط المتفرقة، سياسيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، في إطارٍ فني متناسق يربط بينها ويبين المؤامرة التي وراءها.
ولمَّا سألته عن الغزارة في الإنتاج والنشر، وهي مثار تساؤل كثيرين، قال إنه ينظم وقته، ويحدد حوادث رواياته وشخوصَها، ويخصص لكل فصلٍ وقتًا محدًّدًا لينتهيَ منه فيه، ولا يهدأ له بالٌ حتى ينجز ما عزم عليه، فالأمر ببساطة يتصل بتنظيم الوقت وتوزيع العمل، وقبل ذلك وبعده الصبر والمثابرة والاستمرار، ولقد وصل به الحال إلى أن يفرض على نفسه عددًا محددًا من الصفحات لا بد من كتابته كل يوم، وكأنما قد نذر أن يجعل وقت فراغه كله لفنه وإبداعه، وأن يجعلهما في خدمة قضية بلاده وتوثيق تاريخها، وإن كان يجد أحيانًا صعوبة شديدةً في التوفيق بين الفن والتاريخ، أو بين الدراما والتوثيق، وهو ما يعالجه في كل رواية بصورة أفضلَ نسبيًّا من التي سبقتها.
وحين كنت أُعِدُّ دراسةً عن روايته (كولونيا الجديدة)، وقد تفضَّل بنشرها مقدمة للرواية، سألته عن أدب القرن الإفريقي المكتوب بالعربية، وعن الأدب الإرتري على وجه التحديد، وذكرت له أن معرفتنا بهذا الأدب ضعيفةٌ وباهتة، وأن ما يصلنا منه لا يكفي لتكوين تصور نقدي عن ملامحه وتطوره. فقال إنه يدرك هذا جيِّدًا ويأسف له، رغم أن أكثر أدباء إرتريا يعرفون الأدب المصري، ويقرؤون إبداعات كبار شعرائه وكتابه، لكن يبدو أن السياسة الإرترية والاستعمار الذي كان جاثمًا على صدر البلاد كانا وراء انقطاع الروابط الأدبية والثقافية بيننا وبينكم، وكانت محاربة كل ما هو عربي وإسلامي في إرتريا من أقوى العوامل التي حجبت الإبداع وضيقت على المبدعين.فاستحسنت إجابته كثيرًا، وبخاصةٍ أنني أعرف من أنباء المستعمرين وخفايا نياتهم ما يؤكد كلامه ويصدِّق عليه.
ولقد سألته عن القصة القصيرة فدلَّني على ما أبدعه القصاصون الإرتريون من أمثال: إدريس ابعري وحامد ضرار وخالد محمد طهوجمال همد ومحجوب حامد، وهو صديقٌ عزيزٌ تربطني به أخوة ومحبة، ومحمود شامي وياسين ازاز ومصطفي محمود، وآخرين غيرهم لم تسعفني الذاكرة بالتقاط أسمائهم.
أمَّا في الرواية فقد ذكر لي أسماء كثيرين من مبدعيها، وكان على رأسهم القطب الأكبر فيها غيرَ منازَع، وهو الأستاذ محمد سعيد ناود، صاحب (رحلة شتاء) وهي أول رواية إرترية تُكتب بالعربية، كما ذكر لي أسماء أحمد عمر شيخ وأبوبكر حامد كهال وعبدالقادر مسلمومنصور حامد وحجي جابر ومحمود شامي وإبراهيم الولا وحنانمحمد صالح وزهرة محمود وسارة طاهر وغيرهم ممن خلف الرائد الأول وبنى على ما أسسه، وأضاف إليه.
ثم قال لي في تواضعٍ أعرفه عنه: ويمكنك أن تضيف إليهم العبد لله، وقد نشرت من الروايات عددًا لا بأس به، منها: فجر أيلول، وقد كتبت لها مقدمةً نقدية، وعطر البارود وكولونيا الجديدة وشتاء أسمرا والطريق إلى أدال والكنيبة 17 ومسافرٌ زاده الكرة، وأخبرني بأنه يعمل في روايتين على التوازي، وأن إحداهما قد ترى النور خلال أسابيع!
وفي مجال الشعر ذكر لي هاشم محمود أن شعراء إرتريا سجلوا في دواوينهم وقصائدهم ملاحم وطنية خالدة، وتغنَّوا فيها بالوطن والإنسان في وقتٍ واحد، وقال إن عددهم يفوق الحصر، ربما لسهولة الشعر عن القصة والرواية، وربما لأن المجلات الأدبية ترحب بنشره وتوسع له، وكان ممن ذكرهم لي من الشعراء، على اختلاف مذاهبهم وتنوع إنتاجهم: أحمد سعد وعبدالرحمن سكاب ومحمد عثمان كجرايومحمد مدني ويبات علي فايد وشريفة العلوي ومحمد الحاج موسيومحمد عبدالقادر وتوفيق قسم الله وفاطمة موسي، وهي من أنشط من أعرفهم من الشواعر، وأكثرهم اهتمامًا بالثقافة الإرترية والتعريف بها والترويج لها.
ولم أشأ أن أطيل عليه أكثر مما فعلت، ولكنه أثار مواجعي وهو يكلمني عن أدباء إرتريا في المهجر، وما يعانونه بعيدًا عن بلادهم من مرارة الغربة وآلامها، وكيف أن هذه الغربة قد فُرضت عليهم فرضًا، ودفعوا ثمنها باهظًا، وإن كانت قد أثمرت أدبًا نضاليًّا له ملامحه الخاصة وموضوعاته المتميزة، وهو ما آمل أن أكشف عن تفصيلاته للقارئ الكريم بعد حين، وعسى ذلك أن يكون قريبًا.