ظلمات الصيف القديم ( قصة قصيرة) عبد الرحيم شنقب
7-Apr-2005
عبد الرحيم شنقب
هداء : إلي الذين رحلوا و هم يحلمون ببيت صغير في البلد الصغير..إلي الذين ما زالوا ببيت صغير في البلد الصغير ..عاد من الغابة عند المساء يجرجر نعلية , رأي في المدي الفاصل بين الغابة و القرية و لأول مرة – شجرة هجليج عتيدة , و حيدة , دون ظلال .. فاندهش .
رفع حواجبة الكثة , مسح ببصرة الأفق في أقصي الغرب ألسنة اللهب تتوهج شذرا , و المرجل الكبير ينفث بخارا أرجوانيا علي السطح , و قف يتأمل المغيب المذهب , ألسنة اللهب تخبو ببطء و ئيد , الأرجواني الفاقع أدركة ضباب المشيب , استحال شاحبا , يتواري خجلا , يستر عري دمه القاني , يتزمل في مخملل قرمزي فضفاض , و يتلاشي رويدا ..رويدا, كما بسمة الشفاة الكوشية الحسيرة – خلف غلالة بنفسجية لسحب شفافة تعتلي مسرح الأفق الغربي , تحتضر الشمس , تلفظ أنفاسها , يخمد رنين الالوان , يهمد زبد السحب , ينسكب البياض الفضي , يسفح ماءه اللجي مذرا و يتمدد علي درجات الفضاء الساكن , الصامت , المشدود في بلاهة , و يموت النهار .أحس بالرهق و ضيق الوهق , انكسر و اقفا , فانسكب , تنهد بحسرة , و انتزع نفسة من الزمن , و دع بنظرة عجلي من طرفة , الهجليجية العتيدة الوحيدة , و واصل سيرة الزاحف نحو القرية .عندما دلف داخلا المنزل هرعت لملاقتة طفلتة الصغيرة , تعلقت بعنقة , ارتمتع في حضنة الأعغبر المعفر بالتراب و الدخان و العرق , و استلقيا علي (العنقريب ) في فناء المنزل , كان متعبا حد الإعياء من نهار عمل شاق طويل في إشعال نيران الكمائن , و كانت تمطرة بالاسئلة الملحاحة الهاطلة كما الظلمة في تلك الليلة , و يجيب علي أسلتها الكثيرة مداعبا و يمسد و جهها البدري ذي المسحة الزنجية الرقيقة في حنان .قفز لسانها العصفوري بغتة يسؤال عن الغابة : ألوانها , أصواتها , رائحتها , ظلالها ؟ دهمه السؤال , فانذهل ..صمت مشدوها , تجلببته الظلمة بطنينها , ابتلعهته كما تبتلع ضوء النهار .دفن راسها الصغير في صدره وربت علي ظهرها و أشاح بوجهه بعيدا عنها نحو قبة السماء , السماء المتلإلية بآلأف الحدقات , الحدقة المحدقة في أسي محرق , و حنين إلي الجدر الحميمة , جدر الحياة الجميلة , و التي كانتها ذات يوم , الجدر التي انتزعت منها في إنفصال أبدي , انغرز في تيه كهوفه و أغوارها المسربلة بالظلمات , فانسرب , رأي نجما قد هوي , برق الشهب عن و جهه ومضي ابصر و جه أبيه فبكي , انتزعت الطفلة رأسها من حضنة , انتفضت تنظر إلية بعينين حائرتين زمنا , غطت جفنيها براحتيها الصغيرتين و بكت , و انتحبا متعانقين في نشيج طويل , نهض من غفوتة مذعورا , القمر عاد كالعرجون القديم , و الطفلة تغط في سبات عميق , فانتحب .(2)منذ صيف قديم , شق الوهج الأول ظلمات الفجر , تزاحم و اقفا .قطيع البقر الوحشي القاطن – منذ آمد بعيدة – وادي القرضة , خلف الجبل الوحيد الصغير . وقف متجها نحو الشرق في كتلة عجفاء يائسا , صامتا , شاحبا , و كئيبا و قد ضمرت بطونه , و بانت ضلوعه , ينظر بعيون حزينة , قبس الشروق و قد هده الهم , هم ألم الظمأ القاتل و عذاب الجوع القاتل .عند ابلاج الفلق تنفس الصباح دفقا من نسمات الجنوب الطرية , رفع القطيع مناخيرة يستقبل النسيم , فتح أنوفه اللزجة على سعتها و دار , دار في القبل الأربع يستنشق الهواء , و يشهق و يدور و يخور , يشتم النسيم الطري , و قد زاغت حدقاتة من محاجرها , كما دمعت و ارتعشت أهدابها الطويلة , يقف و يبول , يستنشق ماءه المسفوح و ينخر , يلعق منخرية و ملح الدموع , يدور حول نفسه فاتحا أنوفه , رافعا مناخيرة , يتناكب حينا و حينا يتقابل , تتلامس مؤخراته , تحتك الجلود الجافة , تتصادم القرون دون اشتباك , يخور و يدور حول بعضة في حركة و جد و انجذاب صوفية .في الغداة , و مضت عيون الثور الكبير بفرح غامر , و لي و جهه شطر الجنوب و تسمر زمنا يكابد قسوة الشهيق , ترنح , كاد يسقط , تشبث أظلافه بلأرض , اطبق جفنيه برهه و بال , رفع عقيرتة بخوار طويل متهدج أجش و تقدم في خطي عجلى ايذانا بالرحيل .لرحيل صوب رائحة الماء صوب الصعيد , نحو نهر تكزي البعيد , تدافع القطيع خلفة محدثا جلبة و غبار .الثور الكبير في مقدمة المسير يلتفت بين الفينة و الفينة باصرار و يخور , يرد من يحاول محاذاتة و يدمي بقرنية من يحاول تجاوزه او استعجال اقرانة , يغضب ان بدر ذلك و يثور اذا تكرر , فهو الدليل و الحامي , الآمر و الناهي في الأوقات العصيبة . الثور الكبير الذي خبر الزمان و خبرتة لدروب , دانت له قيادة احفادة اقرانه السوالف فانتشي .اقتفي اثر القطيع و عل هرم أشعث معقوف القرنين بخطي عرجاء ,غادر موطنة الحيوان , غادر مرتعه الانسان , تفرقت الفرقان تفرقت القطعان تفرقت ايدي سبا ..بددت السنون العجاف سكونها – في الوادي السعيد و الجبل الاخضر – شذر مذر , و اطبق صمت القبور في الخلاء الابدي , و شمس الهاجرة تقرع اجرس الخواء و تبر السراب وريح العدم .(3)في الاصائل الطويلة الحارة كان البقر الوحشي يروي ظمأه من نهر تكزي النحيل , و يقتقات العشب الملح الجاف المتناثر في حواف الأكمة , يرعي الوديان السلفية و سفوح الجبال الغربية , و يبحث عن عشب السعدة الطرية دون كلل يجهد في بحثة , يحلم بالعشب الطري , و لا يجد غير العشب الملح الجاف , و جد الماء شرب الماء القراح و لم يجد العشب الندي , بعد ان ارتوي و توسد ضفاف النهر النحيل الحنون , يطمع ان يهنا بالعشب الاخضر , يحلم بلاجترار يمني النفس بقتل دودة الجوع الناهشة في احشائه , العشب الجاف لا يقتل دودة المسبغة , لا يسكت سعار الجوع في الجوف .الثور الكبير الذي خبرتة الدروب , لابد ان يجد العشب الطري , الندي في تلك السهوب و الوديان , لابد من العشب الاخضر لابد منه .. لقد ادركه الجنون , جنون البحث عن العشب الاخضر ..فسرح .ذات ظهيرة قائظة و جد الثورة الكبير العشب الاخضر , و جد التباس في الوديان العميقة خلف الغربية عند نهاية السهوب في حواف الهضبة الجنوبية , و جد التباس و لم يجد السعدة , ل يهم فذاك عزاء .التباس في الوديان العميقة يحفظ ماؤه آمادا طويلة .راعي القطيع في الحقل الاخضر و قد التمعت مقلة بالفرح الغامر , يلتهم العشب , يقضم و يلوك , يبلع في نهم .الثور الكبير يرفع رأسه بين الفينة و الاخري جذلا و يخور ..يسوط بذيلة الهواء , يدفع بمنكبية مداعبا صغارا القطيع . يشاكس بقائمتة اليسري البقر العجوز في نشوة و فرح و يعود يرعي في العشب الاخضر .انتفض القطيع الاشهب فجاة , انتصبت قرونه كفروع اجمة الكتر الجاف , نظر بعيون و افجفة نحو الغرب , تحرك في ارتباك ورعب , انتزع اظلالفه من الارض و جفل في عدو ضابح , سابح نحو موطنة الجديد , نحو النهر صوب الضفة الاخري للنهر .في المدي الفاصل بين الجبال الغربية و النهر في الدغل القريب من النهر , هطل الظلام كما المطر , تاه الثور الكبير في الدروب بين شجر الكتر , تاه , توقف يرتجف , تفصد عرقا و دما أعماه الظلام و ادمتة فروع اشجار الدغل الشائك , حشد كل قواه في صدره ورفع عقيرته بخوار و واصل في خوار محموم رددت رجع صداه كل الأرجاء . تناهي الي سمعه خوار آلاف الثيران الموغله في التيه منذ آماد سحيقه , فصمت ثم استرق ..فانصعق .سمعته الذئاب .. سمعت ندائه و اقبلت من مرقدها بين الصخور .اتت من كل فج تعوي و قد سال من السنتها اللعاب . و انتشرت في الدغل و تكاكات حوله , طوقته باحكام و اخذت تتقافز من خلفة و امامه , و من تحته و فوقة و جرجرته خارج الدغل .سادت الهرجة في قلب الظلام ,ة في الخلاء المتواطيء , بصمته الخؤون , صدرت صرخة فجيعه فظيعه , تلقفت صداها الاشجار و كتمتها في ضلوعها الجافة اليابسة الجريحة ..فخر جدار .من علي مرتفع الضفه راي الموت صبي , سمع هسيس قلب الموت الفجيع في جوف الظلام , ابصر قاع الظلمات في احشاء اللجج المتكاثفه دون ضجيج و تواري خلف الضفه الاخري .قالت القابلة بحسرة و هي تجمع ادواتها لاستقبال الطلق في القرية الاخري .(الموت ياتي غفلة يا بني ) ..فشب باكرا و شاب .(4) فبيالمساء الخريفي العليل عاد من (العداقا) متابطا مخلاية الوبر المصبوغة باللون الاسود , و المحملة بالمستلزمات البسيطة ( سكر و ايشاء صغيرة ) و قد أمتلات اوداجة بالغبطة و اثلج صدرة الحبور يتمايل في مشيتة طربا . ينقر الارض بعكازة و صدريتة الواسعة يهفهفف النسيم اطرافها منتشيا يتسعيد حديث النهار , حديث الذكريات مع اصحابة القدامي ذكريات الصبا و الشباب و الايام الخوالي في القري و المرعي , ذكريات مغامراتهم في قري الصعيد , في بحر أزرق و الدندر , في قندر , وبقي مدر , في قدي الامحرا و الوالقايت .تذكروا يوم ان حكم لثور و حد و طاقة دمور , و قهقهوا حتي بانت لثاتهم المتآكلة .تذكروا مناوشتهم مع المزارعين الزنوج في بحر ازرق و الدندر , و معاركهم مع (الشفتا) في بقي مدر و أعالي تكزي و باسلام .تذكروا بطولاتهم في صرع الوحوش الكاسرة في المراعي ..تذكروا اغاني البقر (بقايت و دوحين ) شربوا الجعه البلدية المصنوعة من الذرة الخضراء ( كني جقا ) تذوق طعم القهوة بالقرنفل بعد عشرين حول , حانشا بالوعد الذي قطعه علي نفسة الا يشربها بعد و فاة زوجتة .تسامروا نهارا كاملا و تذكروا كثيرا شعراء زمانهم الفحول ورفاق المراعي و النجوع القديمة .أدركتة ثلة من شباب القرية – عائدة من العداقا داهمتة كما السيل الجارف و تجاوزتة , استفزة الموقف , انتفض كالملدوغ و قفز , ربط و سطة بصدريتة و شمر التمائم الجلدية أعلي مرفقية .واقتلع قدمية و انطلق في إثرهم مهرولا و قلادتة تتقافز في صدره العاري مع اتساق خطواتة العريضة و تقدم صفهم , لم لا ..وهو جواب سهوب الصعيد مرتاد آفاق الهضبة , صارع الوحوش , السباق بأبقارة في الموارد و المراعي البعيدة .تقدم مثيرا خلفة نقعا كما (رايموك ) بقرتة الرشيقة العيطاء و هي تتقدم القطعان في الموارد و الفضة تخلخل في عيطها .عند طرف الغابة خلف الوادي المنعرج في السهل المنخفض بانت رؤوس الأكواخ , حكم قلبه , حكم عقله فأنزوى ..انزوى جانبا من الطريق , افسح الدرب للشباب متصنعا البول , و جلس متكئا على جذع هجليجة و قد هده الرهق و نال منه الظمأ , جلس كئيبا يتحدث محاورا نفسه بصوت مفئود (لم العجلة ) ولم كل هذه الهرولة ؟ لم التصابي و التقافز في الدروب الي القرية ؟ خبا البرق في عينيه و خمد , سال خطين حارقين علي تجاعيد و جنتيه و بلل صدره , تقرفص , انزوى في قوقعتة و غاص ..غاص في باحات عميقة (زوجتي الحنون التي موتها موتي و انكسار عمري ورزقي …ماتت المسكينة كمداً و حسرة بعد انقطاع اخبار ابنها ..ابنها الوحيد الذي غادرنا قبل أربعه و اربعين عام ..نعم اربعه و اربعين حول و قد نما الي علمي أمس الأول , و لأول مرة خبر يقين و جوده في البلاد البعيدة , في دار غرب , في بلاد الفور , و قد تزوج في كهولتة و انجب طفلة و ..و..ليتة سماها حنين ) و واصل في هذيانه المحموم بقلب مكلوم .أعياه الوهن سرقه الوسن , فقفا ورد ورد بحيرة آسنة يعلوها الهوام رأي غابات مظلمة يجثم أمامها حيوان هلامي يجتر في كسل , رأي أشجار جريحة و نساء يضفرن السعف و قد حلقن حول قدر صفراء تفوح رائحة قديمة نافذة , و طفلة تحرك القدر بهرواة غليظة تنظر ناحيتة بحياد تفحص وجوه النسوة , رأى و جه أمه و وجه زوجه ثم و جه القابلة تتداخل في جسد واحد ..فصرخ .فتح جفنية علي سعتهما كانت الظلمة تهطل كنثيث السحر , أرخي ساعدية علي ركبتيه و ضغط علي الجذع و أطبق جفنيه مطارداً الحلم .رأي المنام ثانية ..رآى كرأد الضحي في الوهدة الفاصلة بين اليقظة و النوم , و قد ألقت الطفلة بالهراوة بعيدا عن القدر و همت لملاقاتة مبتسمة , احس بخدش في مرفقة اقشعر جسدة , التهب بدنه , تململ في جلستة و هز رأسه و تنفس بعمق , كان الهواء مشبعا بالعفن , تذكر عشاء ذلك اليوم البعيد علي ضفاف تكزي .تذكر الحسرة في عبارة القابلة , و تاه في دروب غبراء شائكة و في آماد زمنية سحيقة طواها النسيان و في دهاليز سفر الوهم ..انسرب , فاندهش ..سرح فانسكب , استرق فانصعق , خر فصرخ , انتحب فانتشي ..لامسته أنوف طرية , دغدغ زغب رطب رقبته وارنبه انفه , ابطه , و حلميته أناره هيجان مفاجئ ..فابتسم .إشارات :-القرضة :وادي جنوب جبل علي قدر يصب في نهر عطبرة .تكزي و باسلام : انهر تنحدر من المرتفعات الإثيوبية لتشكل ستيت في الأراضي الإريترية و السودانية .العداقا : تجمع الأسواق في الأريف .الشفتا : عصابات النهب امسلح .الكتر : أشجار شائكة تنتشر في مناطق السافنا الفقيرة .بقي مدر : مقاطعة اثيوبية في الحدود الشمالية الغعربية .البقايت و الدوحين : نوعان من الأبقار لها بسطه في الجسم و ارتفاع ورشاقة في القوام , توجد في القاش باركة و منخفضات عنسبا الغربية .كني جقا : ذرة خضراء تزرع في اعالي القاش , و تسمي عند التقري (بازيناي)و تعتبر عند الكوناما المحصول الرئيسي .