ثقافة وأدب

فواتير مبد ئية لذاكرة الآتي – قصة قصيرة

10-May-2005

المركز

(أعجب الأشياء أن تحصل في غيرأوقاتها وفي غير أماكنها) عبد الرحمن منيف.جمال عثمان همد. أحس بارتياح واستقرار في معدته …رفع رأسه وتتطلع إلى واجهة الفندق , فعكس الزجاج الملون ملامح وجهه التي لانت واستعادت تقاطيعها المألوفة , القي نظرة علي القئ .. سائل لزج يشبه الوحل وقد امتد مسافة نصف قدم تقريبا في الواجهة التي تعلوها إعلانات ليلة الميلاد .

تمعن خلف الزجاج . صالة واسعة متقنة الترتيب , ضمت مقاعد وثيرة وفي الزاوية اليسرى استراحت بضع كروش ترتدي سترات لامعة تدخن باسترخاء وكسل ,ولا تكترث لما يجري خلف الزجاج الملون .لاحظ عند المدخل عامل الفندق وقد وقف بشكل متقن يرتدي بذلة سوداء مسخته إلى ما يشبه الوطواط .كان الفتي الوسيم المحيا ينظر إليه باشمئزاز بين . خ..ا…ك.تفوا. بصق..مسح فمه بكم الجاكيت ,نظر حوله فانفضت حلة الفضوليين دون أن يتبادلوا كلمة واحدة فيما بينهم . شد ياقة بزته العسكرية العتيقة ,ودون هدي انخرط وسط الجموع التي تمارس نزهتها اليومية في حركة تشبه طقوسٍ(الصفاء والمروة) في شارع الحرية (كمبشتاتو) . الأمواج البشرية تتناقض كلما انحرفت جنوبا في انحدار الشارع الذي يلتحم بشارع الشهداء .عند نزلة كافتيريا منتزه المدينة توقف علي كتف المنحدر واخرج علبة التمباك فطارت بفعل حركة دخول وخروج اليد شهادة الخدمة – التسريح – وإذن صرف الإغاثة ..دفعهما الهواء الطري في المجري الذي يحازي الإسفلت لتستقرا في حوض التفتيش المائي في نهاية المجري . سار خطوات مترددة لالتقاطهما , آلا انه عدل عن الفكرة , شيعهما بحياء وتابع سيره . قهقهات هستيرية أحدثت تصدعا هائلا في داخله ..دوي انفجار كتيم في دومة رأسه .. اختل توازنه , وطغي عليه إحساس مميت بالخواء , مع انتهاء سور المتحف الوطني انحرف يمينا , صاعدا زقاقا شحيح الإضاءة كأنه نفق سري يتبع القصر أو استراحة الإمبراطور( هيلي سلاسي) التي حولت إلى متحف . تمتم ..(انه مظهر من مظاهر الاستقلال ..هه ) . كان الصمت يعوي تحت ضربات العكازين وصوت الحذاء البلاستيكي الكتيم , انحسار الهواء في الزاق ساعده علي سماع وجيب قلبه بوضوح , فأحس بأنه حزين وبائس – ظل فقط يسعي بين الناس يسوق بضاعة تجاوزها الزمان – انفرج الزقاق علي صفوف من الفلات الأنيقة , حديثة العهد , تحرسها كلاب سمينة ممتلئة النباح .باعد من خطواته ليتجاوزها . (كم كلفنا هذا الاستقلال أل …) اخرس ما تبقي من الجملة , فتتها في داخله خجلا وسار .أمامه شارع مستشفي الحياة , صفين من الأشجار يمتد علي طول الشارع مما زاد من شحوب الإضاءة فيه . كان وحيدا والمستشفي ساكن كمنطقة عسكرية , تطلع إلى معصمه , كانت عقارب الساعة تشير إلى ربع الساعة بعد منتصف الليل .أفضى به السكون اللذيذ إلى ساحة نصب تذكاري لم يكتمل فتبدد السكون وانتشر في الدوار الذي علقت عليه لافتة قماشية كتبت علي عجل وقد تدلي طرفها الأيمن ..[الشهداء مشاعل نور تضئ لنا الطريق ].-(أما نحن فظلال نسعي بين الأرجل , نسوق بضاعة كاسدة ) .***دفع الباب بعد أن حرره من القفل , توقف برهة …كان ضوء الممر أول الواجلين في صمت الغرفة , مشكلا زاوية منفرجة ..خطي بضع خطوات ليسقط ظله منكسرا حتى الجدار المقابل . أشعل لمبة السقف الوحيدة . عيون وعديدة كانت تتطلع إليه بعذوبة وإلفة ,ومواساة فادحة ..عيون متوسلة وملتاعة . مزيج من الحزن والانسحاق يملأ الجسد المشرع في وجه الريح ,بسط الصورة الحديثة الإطار ..أخرجها من خلف الزجاج .جال بعينين زائغتين علي الوجوه , رفع رأسه في مواجهة الحائط خشن السطح . انفتح ثقب كبير في هامة الرأس الأصلع …شده الثقب فجري علي امتداد العمر الذي شارف علي العقد الخامس . كانت ماضيات أيامه هلاما , مسخا ومتداخلا بصورة غاية في التعقيد والعبثية ..خلف هذا التشوش كانت أيد تلوح مبتعدة , وجوقة من الأغنيات القديمة تغني نشازا, تثقب طبلة الأذن ..ضاعف من وتيرة ركضه ,صرخ فخرج صوته مشروخا ما هكذا كنا نغني الأغاني !!, كيف استحالت أناشيدنا نشازا ؟ّ!! ردد الصدى اليباب قهقهات مجنونة لضحك هستيري وحشي , ليعم المدى نشازا النشيد الجماعي , كانت وجوههم مطموسة كلوحات خرافية عتيقة .ركض ..ركض وسط الدمار ..أثار أحذية الشدة البلاستيكية ,وظروف الذخيرة تزداد كلما أوغل ..ويكتسح الاخضرار يباب اصفر ,يتفجر سيلا اسود من البطن وينتشر صديدا في أنحاء الجسد المثخن . أحس بسخونة في فودية , تتفصد جبهته عرقا حارا , سمع لهاثه وقد غطي المدى وطغي علي ما عداه ..تيبس طعم الحليب في حلقه وفاضت رائحة الحليب الطازج في المكان ..تنفسها بشوق عظيم ..تدافع اللعاب الحليبي المذاق .. امتلأ فمه فابتلعه دفعة واحدة. عاد إلى الصورة ..كانت الوجوه تشع منها العافية والابتسامات الدسمة .[من ميزات الجماعة هي أنها تجعل المرء اكثر حبورا ومسرة , كما وأنها تجعله يتفجر غضبا وجنونا ].لم يفكر في السبب , لكن أعجبته الحكمة التي استخلص .[كان جبل الشيخ] المجلل بالبياض يحتل خلفية الصورة الجماعية التي يعود تاريخها الي منتصف الستينات . لاحظ انتفاخ الجيوب العليا للبزات العسكرية , فتذكر الكتيب الأحمر ( من أقوال ماو ) صديق المسافات الطويلة .طرق خفيف ومهذب علي الباب افسد عليه هذا الصفاء والود .يبدو انك …. وقبل أن يكمل زائره الجملة , باغته : منذ متي لم نصلي ؟؟ّ!الملاحظة السؤال ألجمت زائره ..اكفهر الرجل , تجمدت عضلات وجهه, بان وريد رقبته . تسمرت عيناه في الفراغ المحيط .مد اليه الصورة ..وواصل فرز أغراضه الخاصة عن ممتلكات التنظيم . محتويات الغرفة الباهتة زادت من وطأة ذهنه المحموم , والطلاء الرخيص الذي لم يتمكن من محو تذكارات جنود العدو الذين تعاقبو علي السكن في الغرفة , فكر ان يدون اسمه أيضا , آلا انه استخف بالفكرة.هبت نسمات رطبة لبت حاجة وجهه المشدود .رفع رأسه فالفي الباب الذي يواجه النافذة الوحيدة مفتوحا علي الممر الطويل الذي يفصل بين الغرف , قام وتربسه . ضم الصورة إلى الملف الكبير .عندما بسط البياض أمامه دهمته قشعريرة مباغتة , سرت في أنحاء الجسد كتيار كهربائي ..شل يده الممسكة بالقلم فسقط في بياض الورقة ..كان البياض بريئا وسمحا كوجه طفولي .قطع الغرفة جيئة وذهابا بخطوات وجلة ,تنفس بعمق ..حبس الهواء في رئتيه ,تنفس , محاولا تبديد اضطرابه …وبعد مداورات نظر إلى المسدس الذي ينام أمامه علي بياض الورق بلونه الحديدي ومقبضه باللون الأرجواني …زالت الألفة التي كانت تربط بينهم وتحول السلاح إلى قطعة حديد منفرة .جس مقبضه أحس به ناعم كأفعى , لزجا وقاسيا كشوكة وحل ..حرر يده , فكها منه سري في أعصابه ارتياح عميق . جس بياض الورق .إلى من يهمه الأمر :الاسم (………..) حامل الرقم العسكري (……….)الوحدة العسكرية (……….)مسدس ماركة براون رقم (………)عدد الطلقات خمس طلقات عيار (……….)بمحض إرادتي وكامل وعيي ..اكمل . وقع ..ثم دون التأريخ .طوي الورقة بحرص شديد .وضعها داخل مغلف كتب العنوان علي ظهره . ***وجد نفسه في مواجهة السور الهائل تحت تلة منطقة [حزحز] ….توقف في ساحة تقبل العزاء اندهش للسرعة القياسية التي قطع بها المسافة من المعسكر إلى هنا .كان الهواء العليل يذوبع بقايا حنين قديم وينثرها بعيدا في سماء المدينة الهامدة .بلع ريقه . رائحة بقايا الحليب الطازج , فاحت ثانية من المكان …بصق متأففا ..تبا لهذا الحليب !!!.تسللت يده إلى حيث يستقر المسدس .. طلق ناري احترق ظهره ليستقر في الأسفل عند عجيزته …انتفض بقوة واهتز كيانه .سحب يده بسرعة من جيبه , صوب في الأفق الملبد بالغيوم …تمني استعادة حنين قديم . هيهات ..يجب أن استمر …لا وقت للتراجع .(كنتم كالعقبان يا بني ..من علي هذه التلة كنت أرى الدماء وهي تغلي في عروقكم ..كنت اهزم هرمي واستمد عمرا آخر .. سيج بقايا مساراتكم ونكاتكم وامضي) أتاه الصوت من مكان قصي …عميقا ويقينيا .دفع باب مدافن (الشيخ الأمين ) فاحدث الباب صريرا صدئا وجافا ..واجهه الجوف آمنا.. لا نهائيا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى