أوراق مطويّة عن الثّورة الإريترية – الحلقة الأولى ـ حاوره عبدالقادر بكري حمدان.
19-May-2018
عدوليس ـ نقلا عن” ساماديت ”
بمناسبة أعياد التحرير الإستقلال المجيد و بالتعاون مع موقع ” سماديت” الإريتري يسعدنا في ” عدوليس ” إعادة نشر مذكرات المناضل السابق بالجبهة الشعبية لتحرير إريتريا القائد سليمان هندي والتي نشرها على حلقات في صحيفة وموقع ” صوت إريتريا ” والتي كان يحررها عبد القادر حمدان. القائد هندي عن تاريخة الشخصي وتاريخ الثورة الإريترية وأهم المحطات التي مرت بها الثورة، كما يتناول تاريخ وحلقات مهمة من التاريخ السري للجبهة الشعبية.يتردد في الاوساط الاريترية سؤالا لم يجد الإجابة الشافية حتى يومنا هذا السؤال هو، كيف تحمي الجبهة الشعبية تنظيمها من الاختراق؟.أو كيف استطاعت ان تخترق التنظيمات الأخرى؟! لهذا أرى من الضرورى في هذه المقدمة أن أجتهد في الاجابة على هذين السؤالين قبل الكشف عما تحويه أوراقي المطوية عن الثورة الارتيرية.
إن الذي يتابع الأحداث في ارتيريا، في السنوات الستة الأخيرة بعد الاستقلال يتبين له أن تنظيم الجبهة الشعبية كانت له مواقف عجيبة في عدد من القضايا في الثورة الإريترية، سألقي الضوء على بعضها كمدخل لمشواري الطويل مع الثورة الإريترية.
من الطبيعي ان تعني كوادر الجبهة الشعبية في اريتريا منذ تأسيسها بنوعيها العسكري والسياسي، بوجود عناصر مناوئة لسياستها في الداخل والخارج، وأن تعمل على تشويه مقاصدها،وحسب فهمي المتواضع لاستراتيجية هذا التنطيم وقيادته التاريخية أن الجبهة الشعبية استطاعت اقناع قواعدها، بعدم وجود مشاكل في الساحة الارتيرية، وأن ما وقع من خلافات ساسية وحروب أهلية بين فصائل الثورة وتنطيم الجبهة الشعبية في مرحلة الكفاح المسلح، لا يعدو أن يكون نزاعا عاديا بين المناضلين كالذي حدث في حركات التحرير في العالم الثالث، ثم يلبث أن يزول بمرور الوقت واندمال الجرح، بهذا استطاع هذا التنطيم رص صفوفه في وقت مبكر قبل الاستقلال، مما جعل اختراقه أمرا شبه مستحيل… وسهل على عناصره اختراق دفاعات الاّخرين وجعلهم يحصلون على المعلومات السرية عن الفصائل الأخرى… والتنطيمات المناوئة لهم متى ما شاؤا، و كان هذا التنطيم ينطلق من قناعة وخطة مدروسة تعترف بالدرجة الأولى بالواقع المعاش في الساحة الاريترية، ومفادها أنها تكون قادرة على اختراق دفاعات خصومها ساعة ما تنشب خلافات داخلية بينهم، في هذه الحالة فقط تستطيع تسريب عناصرها داخل معسكرات خصومها وتحصل على ماتريده من معلومات سرية حول تركيبة تلك التنظيمات وخططها المستقبلية.
أما بالنسبة للعناصر التى كانت تحمل فكرة تصحيح مسيرة تنظيم الجبهة الشعبية من الداخل كتمت سرها خوفا من تسرب المعلومات لتلك العناصر التى كنت تروج لفكرة تأسيس قوة ضاربة لجعلها نواة تنظيم طائفي للسطرة على الجبهة الشعبية أولا ثم على الثورة الارتيرية في النهاية، لهذا وقبل أن يتمكنوا هؤلا الافراد الذين كانوا يحملون فكرة مقاومة اختراق تنظيم الجبهة الشعبية من الداخل من قبل بعض القيادات.
بدأت تلك القيادات بتصفية كل من حمل فكرة مقاومة الطرح الطائفي بتلفيق التهم المصطنعة واسدال الستار الحديدي على تلك التصفيات، وأصبح بعد ذلك كل من ارتبط بعلاقات نضالية أو شخصية بهؤلاء الافراد الذين اغتالتهم عصابة الفكر الطائفي داخل تنطيم الجبهة الشعبية ،دونت أسمائهم في القائمة السوداء ووضعوا تحت الرقابة المشددة بعد أن سحبت منهم كل الصلاحيات الادارية والرتب العسكرية… لهذا ان الحديث في مثل هذه القضايا لم يكن بالأمر السهل من الداخل ولا من الخارج كما يتوقعه البعض من أبناء اريتريا… والخوض في مثل هذه القضايا المعقدة لا علاقة له بالشجاعة أو الجبن كما يعتقد البعض الاخر الذين ينتظرون مني ومن غيري المعلومات التاريخية حول تنظيم الجبهة الشعبية للتعرف على حقيقة هذا التنظيم الذي لا يعرف الكثيرون عنه ما كان يدور بداخله من صراعات لم يسمع عنها أحد نتيجة للقبضة الحديدة التى فرضتها تركيبة التنظيم البوليسي وأجهزة مخابراته الداخلية والخارجية.
بالرغم من الاعتبارات التي أوردتها انفا، والذي أرجو أن لاتفسر أو يفهمها القارئ الايتري، بأنني أسرد هذه القضايا لإعطاء الانطباع بأن تنظيم الجبهة الشعبية يقف فوق الاشياء، أو يستحيل التصدي لبرامجه الخطيرة، انما أفعل ذلك للتنبه فقط بأن مسألة تسرب المعلومات عن نشاط كل معارض اريتري في الداخل والخارج لا تزال تشكل مشكلة كبرى، ثم انني لست أكثر من شخص واحد يعارض هذا النظام، كان غرض تنظيم الجبهة الشعبية ان تجعل مني عبرة للآخرين على طريقة الشهيد ابراهيم عافى وعشرات المناضلين الذين قام التنظيم بتصفيتهم حتى لا يجرؤ الاخرين على الكلام، وكثيرا ما كنت أتساءل هل تعرضوا هؤلاء الذين كانوا يلحون على وعلى أمثا لي للقيام بكتابة ما نعرفه عن تنظيم الجبهة الشعبية، لما تعرضنا اليه من عمليات الاغتيالات ومطاردات من قبل أجهزة مخابرات هذا التنظيم، أو أصيب أحدهم برصاصات هذا التنظيم!؟.
أعتقد قليلون هم الذين مروا بهذه التجربة ممن يعيشون اليوم في المهجر من أبناء الجاليات إلاريترية .. ولكن كثيرون هم الذين يعرفون هذه الحقيقة ممن يعيشون داخل اريتريا اليوم، وجزءا من برنامج تنظيم الجبهة الشعبية الجديد.
الواقع ان الذين يتكلمون بصراحة عن تنظيم الجبهة الشعبية قليلون جدا، وأرى في صدور صحف اريترية يشرف عليها اريتريون تفسح المجال لكافة الاريتريين دون التمييز بينهم والتقليل من تجاربهم مهما كانت طويلة أو قصيرة، أو كانت في صف الجبهة الشعبية أو غيرها من بقية الفصائل الاريترية، هو عمل يستحق التشجيع والمؤازرة، هو ذا ما جعلني اشعر باطمئنان وأقنعني بتسليم أوراقي المطوية للنشر والتي تصور تجربتي في الثورة الاريترية، وأرجو أن يكون قراري هذا في محله، لأنه هو السبيل الوحيد والأمثل لإيصال هذه المعلومات إلى القارئ الارتيري في كل مكان.البطاقة الشخصية وبعض من ذكريات الماضي:
الأسم: سليمان أحمد هندي من مواليد 1950، مكان الميلاد “حطملو” الشمالية أحد ضواحي مدينة مصوع… التحقت بالمدرسة الابتدائية في “حطملو” عام 1957 وبعد إنهاء المرحلة الابتدائية انتقلت إلى مدرسة “طوالوت” في عام 1962، كانت الأمور في مدينتنا تسير سيرا طبيعيا، ولم يشغليني شيئا سوى الاستعداد للتعرف على المنهج الدراسي الجديد لمدرستي الجديدة في طوالوت.. والتعرف على زملاء جدد من ابناء مدينة مصوع وعداقى.. واماترى.. وامكلو.. وبعض الطلبة من أبناء مدينة حرايقو التي تبعد حوالى 20 كيلومترا من مصوع، وجميع الذين التحقوا بالمدرسة الاعدادية.ومرت السنوات الثلاثة الأولى وأنا متابع لدراستي وغير مهتم بغيرها.. حتى قامت ما اطلق عليه الكبار في مدينة مصوع بثورة البوليس، وكانت علاقة سكان ضاحية “حطملو” بالبوليس والدوائر الحكومية محدودة، إلا أن هذا الحديث فجر نقاشا كبيرا وأصبح الناس يجتمعون في البيوت للاستفسار عن الحادث، وكان عثمان أحمد هندي أحد أفراد أسرتي من أكثر الناس إهتماما بشؤون السياسة والاحداث المتعلقة بها، لعلاقته السابقه بهذا الجانب ولتجاربه القديمة مع الاثيوبيين في فترة الاحزاب ومرحلة تقرير المصير، حيث انتخب عثمان هندي في تلك الفترة عضوا بالبرلمان الاريتري ممثلا دائرة مصوع.
كان الناس يجتمعون في دار بيت هندي للاستفسار منه عن ما كان يتردد في مجالس سكان مدينة مصوع وضواحيها عن خروج حامد ادريس عواتي ومعه مجموعة من الشباب الارتيري في المرتفعات لمقاومة الاستعمار الاثيوبي، وعن علاقة ما قام به رجال البوليس بقيادة ابراهيم شمسي وعمر ناصر وقمحط ادريس عندما استولوا على مخزن الاسلحة في مدينة مصوع وخرجوا على رأس مجموعة من زملائهم من رجال البوليس الأحرار وانضموا إلى جماعة حامد إدريس عواتى، ولم يستطع الكبار في مدينتنا أن يخفوا علينا فرحتهم بهذا الحادث وعن قيام هؤلاء الأبطال بعلميات فدائية والكمائن التى كانت تحدث بعد خروجهم من مصوع.
هذا الحادث لفت انتباه من كان في سني في مدينة مصوع وضواحيها، وبالرغم من الصعوبة التي كنا نجدها في فهم واستيعاب ما تعنيه الكلمات التي كنا نسمعها في مجالس الكبار، كقضية تقرير المصير الذي كنت أسمعها باستمرار عندما كنت أقوم بخدمة ضيوفنا من زوار ابن عمي عثمان احمد هندي في دار بيت الهندي الكبير ب ـ “حطملو” ولكن الشئ الذي ترك في نفسي الأثر الاكبر أنا وبعض من زملاء الدراسة من أبناء منطقتي هو الموقف الشجاع الذي اتخذه ابناء منطقتنا وعلى رأسهم البطل محمد سعيد ابراهيم شمسى، وتعلق الشباب بهذا الاسم واعتبره الكثيرون ممن كانوا في سني أو أكبر مني بقليل مثلهم ، وكنا دائما نردد اسم محمد سعيد شمسى. وفي بداية عام 1965 انتشر خبر استشهاد محمد سعيد ابراهيم شمسى على اثر قيام سريته بشن هجوم على مركز “شعب” على بعد 86 كيلو متر من مدينة مصوع، واحتلالها للمركز وتكبيدها للقوات الاثيوبية عدد من القتلى والجرحى واستيلاء الثوار على أسلحة مختلفة و انتقاما لهذه العملية قام الجيش الاثيوبي بتعليق جثمان البطل الشهيد محمد سعيد ابراهيم شمسى بتاريخ 1963/1/13 في ميدان عام بمدينة (قندع) انتشار هذا الحبر جعل الحزن والألم على سكان مدينة مصوع وضواحيها، وبعد هذه العملية البطولية بدأت السلطات الاثيوبية بحملة اعتقالات واسعة شملت احد افراد أسرتي حسين احمد هندي ومن بينهم آنذاك الاسماء التالية عثمان اسماعيل سبى و جابر احمد حرك وابراهيم سيد حسن و سعيد صالح عكا و محمد على عثمان كيكيا، بتهمة التعاون مع هؤلاء الثوار الذين قاموا بتلك العمليات البطولية ضد قوات الاحتلال.
دخل عام 1966 وأصبح العداء بين سكان مدينة مصوع وضواحيها وسلطات الاحتلال الاثيوبي يأخذ منحى خطيرا بمواصلة رجال الشرطة لعمليات الاعتقالات العشوائية، بحيث اصبح لا يأمن احد من شرهم، مما جعل الناس يهتمون بأخبار الثورة وعمليات الفدائيين التى أصبح صداها يصل إلى كل بيت في منطقتنا، ومع بداية هذا العام انتقلت المعارك إلى قرى قريبة من مدينة مصوع بعد وصول قوات كبيرة من الثوار إلى منطقة البحر الأحمر و اكلى قوزاي، ومن هذه المعارك معركة (ماي عطال) بين الثوار وقوات الاحتلال الاثيوبي والتى وقعت في بداية عام 1966 وجعلت أهل مصوع يعتقدون بأن ظلم السلطات الاثيوبية وعمليات الاعتقالات العشوائية سوف لن تستمر طويلا بعد وصول الثوار الذين خرجوا للدفاع عن حقوق الشعب الاريتري وكان أهل مدينتنا وخصوصا اقرباء الأشخاص الذين شملتهم عمليات الاعتقال ومن بينهم اسرتي، كنا نشعر بارتياح بوجود من يثأر من العدو لأفراد اسرتنا الذين كانوا يواجهوا اشد أنواع التعذيب والاهانات في سجون قوات الاحتلال الاثيوبي.توالت العمليات الفدائية للثوار ومعها عمليات الاعتقالات ضد المواطنين العزل من قبل قوات الشرطة الاثيوبية مما دفع بعض شباب من مصوع وحرقيوا تكوين خلايا سرية للاتصال بالثوار وبحث طرق مساعدتهم والحاق الشباب بهم وهكذا انتهى عام 1966، و أصبح اهتمام من كان في سني بمدينة مصوع وضواحيها يقل بعد ان أشتداد الأ حداث الجديدة اهتمامنا وولدت فينا عمليات الاعتقالات حساسية وكراهية ضد القوات الاثيوبية، وبينما كانت حالة الرعب والخوف تعم منطقتنا وغيرها من المناطق الأخرى في ارتيريا.
دخل علينا عام 1967، والذي كان بالنسبة لي وبعض من زملائي في مدينة مصوع عام الحسم بعد أن توطدت علاقتنا بمن كان له الاتصال بالثوار وبعد أن تم تنظيمنا في خلايا لتشجيع الشباب الذين كانوا في سننا للالتحاق بالثورة، وهكذا أصبح الثوار يدخلون إلى مدينتنا ويتصولن بالشعب ويقومون بعملية التوعية السياسة وتوضيح خلفية الصراع مع حكومة هيلى سلاسي، ولإ ظهار الثوار ضعف السلطات قاموا في بداية 1967 باختطاف محمد عبدالله الملقب (بقوبوا) في وضح النهار بسيارته الخاصه من داخل مدينة مصوع وإخراجه إلى الجبال للتحقيق معه حول علاقته بجهاز المخابرات الاثيوبية لما تردد في مدينة مصوع عن علاقته بهذا الجهاز ووشايته ببعض من اعتقلتهم السلطات الاثيوبية، وبعد مرور شهر واحد على اثر هذه الحادثة اصبحنا نفكر بأكثر جدية، وطرحنا موضوع الالتحاق بالثوار بطريقة أكثر جدية.، واجتمعت مع واصدقائي الذين كنت اعرف علاقتهم بالثوار ومن بينهم الأخ عمر بوشعرين الذي كان من أنشط المجموعة عملا و أكثرنا حماسا للالتحاق بالثوار.. واتفقنا أن نقوم باستطلاع آراء الآخرين واكتشفنا بأن هناك من يستعد ايضا لاتخاذ نفس الموقف، أمثال الأخ عامر شنيتى وعبدالله اسحاق وعبد لله جداوى وعبدالله مركاب ومحمود عمريت وصالح عمار ومحمود سلطان وبعد انتظار استمر شهرين للرد على طلب التحاقنا بالثوار وصلت الاشارة بالقبول وتحدد مكان اللقاء.
التقينا في مطعم حسين محمد حيوتى في (عداقى) ضاحية مصوع.. باعتباره المنسق بيننا وبين الثوار.. وذلك في مساء 2 يوليو عام 1967. وبعد تناولنا الطعام واستلامنا الملابس الشعبية الريفية التى ت بعد عنا شبهة انتمائنا لمدينة مصوع، وبعد تناول اطراف الحديث والكلمات التشجيعية والثناء على موقفنا البطولى في اتخاذ قرار الالتحاق بالثوار من قبل حسين حيوتى الذي كانت تبدو عليه علامات القلق.. وليس الخوف لما عرفناه عنه من شجاعة وإقدام في مساعدة الثورة والثوا ر، إلا أن همه وخوفه الوحيد ان لا يدخل في مواجهة اسرنا في حالة وقوعنا في أيدي العدو لا سمح الله واكتشاف خطتنا قبل وصول من سينقلنا إلى مكان لم يعلمنا عنه حسين حيوتى بعد.ومع غروب الشمس وصل الأخ الجديد وهو شاب أنيق يعرفه كل سكان مصوع لأنه واحدا من العشرة الذين كانوا يملكون سيارات التاكسي في مدينة مصوع، الشئ الذي لم نتصوره من جديد أن تكون له علاقه بالثوار، لأن من المعروف عنه رجل مسالم ولا يحب دخول المغامرات، ولكن بعد ركوبنا للسيارة وانطلاقه بنا باتجه حراقيو دون يخبرنا أين سينتهى مشوارنا معه، تأكدنا من أنه صاحب باع طويل في الاتصال والتعاون مع الثور.. وصلنا مدينة حراقيوا.. وطلب منا من جديد الانتظار قليلا داخل السيارة، ودخل في أحد المنازل التى لا نعرف من يسكنها لعدم معرفتنا الكبيرة بمدينة حراقيوا، وبعد دقائق خرج من المنزل معه ثلاث من الشباب بدت عليهم علامات الجد والخشونة، ومن الملابس التى كانوا يرتدونها عرفنا أنهم ليسوا من القيمين على الاقل في منطقة “حرقيقو” وطلبوا منا الاستعداد للسفر دون أن نعرف اسمائهم، ولكن ابتسامة مرافقنا الجديد وكلمات التوديع أنستنا كل شئ، وبعد مسافة قصيرة سألنا أحدهم عن أسمائنا و بعدها قام السائل بالتعريف عن نفسه قائلا أنا اسمي رمضان أولياى والثاني عرف عن نفسه أيضا وأخبرنا أن اسمه محمد على طاهر والثالث كان محمد على قعدر، وبعد ذلك واصلنا الحديث وتبادلنا المعلومات حتى وصلنا الى جبل ” قدم” وكان في استقبالنا الشهيد محمد ادريس حبيب مسؤو ل هيئة التدريب ، وكما يبدوا كان له الخبر بوصول دفعة جديدة من المستجدين من داخل مصوع، وبعد الترحيب بنا أخبرنا بأنه المكلف بمهمة تدريبنا وطلب من التوجه على الفور الى معسكر التدريب، الذي كان يقع داخل جبل “قدم” ووجدنا بعض من نعرفهم من مدينتنا داخل هيئة التدريب وتبادلنا معهم التحية والأخبار، الا أنهم نقلوا الينا اخبار غير سارة عندما قالوا ان الوجبات غير منتظمة والمياة قليلة بالمنطقة، وكل ما يعتمدون عليه بعد الله سبحانه وتعالى هو ماتقدمه لهم أسرة أو أسرتين تقيم في جبل “قدم” وهي كذلك لاتملك الشئ الكثير، وبالرغم من أن تلك المعلومات لم تكن مفرحة ولكن على الأقل ساعدتنا في التعرف على الموقف الذي نحن فيه وحتى نعرف ما نحن مقدمون عليه وبالفعل شعرنا بأن الأمر لم يكن بتلك السهولة التى توقعناها.. فلم نتوقع بأن الثوار بالرغم من تضحياتهم وما سمعناه عن انتصاراتهم وقدرتهم على الاستيلاء على الأسلحة من معسكرات العدو يعيشون في هذه الحالة التى يرثى لها ولا يملكون ما يشبع الجندى المقاتل.. هذا الموقف جعلنا نزداد تعلقا احتراما بالثورة والثوار.. وعرفنا منذ الوهلة الاولى بأن قضية الطعام لا تشغل بالهم بقدر ما تشغلهم قضية ايجا د السلاح والذخيرة.. لهذا قررت عن نفسى أن أصمد إلى اخر لحظة.. وعاد البعض من دفعتنا من المدينة بعد أن تأكدوا بأنهم غير قادرين على مواجهة هذا النوع من الصعوبات، الجوع والعطش في هيئة التدريب.
كانت الفترة المقررة لتدريب المستجدين في تلك الفترة حوالي (60 ) يوما، وبعدها يصبح المستجد جندي، وفي هذه الفترة يكون الشخص قد تم تدريبه على استخدام أنواع البنادق التى كانت متوفرة في الثورة (أبو عشرة سنوبال الشيكي سمنوف الروسي وبرين الانجليزي)، أما بندقية (الكلا شنكوف) فكان تداولها محدودا على أفراد القيادة واصحاب الخبرة في القتال،لهذا لم يشمل التدريب على استخدام هذا النوع من السلاح المستجدين.
أنهيت فترة التدريب، وقررت اللجنة المختصة بتوزيع الأشخاص الذين أنهوا تدريبهم إلى الفصائل المقاتلة، ولكن لصغر سني تم الحاقي بفصيلة قرزماش علي شوم التى كانت تتواجد في منطقة اكلى قوزاى، ومهمتها تقتصر فقط على جمع التبرعات من سكان المنطقة، ولا تدخل المعارك إلا في حالة الدفاع عن النفس. وكان هذا القرار بالنسبة لي صدمة كبيرة.. وكادت معنوياتي أن تهبط لولا تدارك السيد على شوم للامر وقيامه بتشجيعي ورفع معنوياتي بالقول ” لا تتعجل ستنتظرك معارك كثيرة.”!!
ونظرا لكبر سنه، واعتقد أنه كان يتجاوز 60 عاما فانه كان ملما بتاريخ اريتريا وبعدما عرف بعلاقتي العائلية مع عثمان احمد هندي كان يروي لنا قصة الأحزاب وكيف أنه كان معجبا بشجاعة عثمان هندي وخاصة يوم وقف أمام برلمان اريتريا ليقول لهؤلاء الذين صوتوا لصالح الانضمام ” اتقوا الله في هذا الشعب والوطن”.
. وغيرها من الروايات عن موقف عثمان هندي التى لا أعرف سوى القليل منها وأنا في مصوع. أعتقدت بأن وجودي في هذه الفصيلة لن يعطيني الفرصة للتعرف على مدى قدراتي في مواجهة العدو بالسلاح، ولكن بعد وصول اخبار العمليات الارهابية التى قامت بها قوات “الكومندوس” في هذه الفترة، بقيامها بإحراق (62) قرية خلال إسبوع واحد اهمها قرى : ( مقرايت،و عد ابراهيم، اديبرا، عسير، عد جميل، عد حباب ) . وقتل ما لا يقل عن (600)مواطن اريتري في هذه الغارات الانتقامية وإحراق المزارع وإبادة المواشي حتى بلغ عددها ستين ألف رأس بين ابقار وجمال، وفر ثلاثون ألف ارتيري معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال إلى السودان بعد أن فقدوا كل ممتلكاتهم. بعد سماع قيادة الثوار لهذه الأخبار قامت بتجميع كافة الفصائل التى كانت ترابط في البحر الأحمر وأكلى قوزاى وسراي لتوحيد استراجيتها لمواجهة العدو ووضع برنامج لحماية الشعب وممتلكاته من قوات العدو، وفي هذا الاجتماع تم فصل المنطقتين الثاثة والرابعة عن بعضهما ليتسنى لقائد كل منطقة توزيع قواته حسب ما تحتمه الضرورة لمواجة قوات العدو.
فكان هذا الاجتماع بالنسبة لى فرصتي الأخيرة للإنتقال من فصيلة قرزماش على شوم والقبول بوظيفة (باشكاتب) أو التقدم بطلب لإلحاقي بفصيلة الفدائيين بالمنطقة الرابعة. وتوجهت مع الأخ عمر أبو شعرين وعبدالله اسحاق إلى قائد المنطقة الرابعة السيد محمد على عمرو.، وأخبرناه عن رغبتنا في الالتحاق بفصيلة الفدائيين،وقال أنه سيبحث في الأمر مع قادة فصائلنا ويحاول أقناعهم لقبول رغبتنا هذه. وبالفعل في اليوم التالي تم نقلي الى فصيلة الفدائيين التى كان يقودها الشهيد علي ادريس من فصيلة قرزماش على شوم إلى فصيلة الفدائيين.
بعد انتهاء الاجتماعات تم توجه القوات حسب الخطه الموضوعة للانتشار في المنطقتين. وتقديم الفصائل الفدئية لاستطلاع تحركات العدو ومن اجل تحديد هذا التحرك صدرت التعليمات على فصيلتنا بقيادة علي ادريس للتوجه إلى منطقتي “عايلت وقمهوت” لإطلاع الشعب على معلومات المجازر لقوات العدو وتحذيرهم من تحركات العدو، إلا إننا وصلنا إلى المنطقة ووجدنا أنفسنا محاصرين مع الشعب في قريتي “عايلت وقمهوت” التى تبعد 50 كيلو مترا شرقي اسمرا، حيث قامت قوات العدو بإحراق القريتين بعد أن قيدت 30 شابا بالحبال وحبستهم في منزل واحد وأضرمت عليهم النار، لإرعاب الشعب، ثم استمرت في علميات الحرق حتى مسحت خمس قرى أخرى من الوجود وهي : (قدقد، عسوس، شعب، وقيرو، وعشيات) وشردت في العراء نحو 600 أسرة وحصدت 6000 رأس من الأبقار والجمال وكانت قوات العدو تركز حقدها على الابل والجمال معتبرة انها وسائل نقل للثوار،في هذه العمليات أستشهد عمدة عايلت حسن شوم نوراى، ومحمود الحاج، وعثمان حاطط وعدد كبير من سكان قرية “عايلت” كما استشهد من قرية “قمهوت ” عمدتها صالح شوم عثمان ليمان، وسليم حسن آيم، وعدد كبير من سكان القرية، كما استشهد عدد كبير من سكان “قدقد و” فقرت” و”امبيرمي” و”وقيرو”.
وأمام هذا الزحف الكبير لقوات العدو الاثيوبي، كان دور فصيلتنا قاصرا في التصدى لجزء من هذه القوات ومحاولة تشتيتها حتى يتمكن سكان عايلت وقمهوت من مغادرة بيوتهم، فحاول الشهيد على ادريس استخدام كل الوسائل التكيكية لإيهام العدو بأن القوة التى تقف أمامه كبيرة، وكان كل من يطلق مستخدما أكثر من ساتر ولكن لقلة عددنا وخوفنا من أنتهاء الذخيرة التى كنا نملكها قرر الشهيد على ادريس جمعنا في مكان واحد وأمرنا بالتوجه صوب العدو بإطلاق النار الغزير عليه، وقال أنه يجب أن نفتح ثغرة لتمكين الشعب من الهروب وبقى يطلق النار حتى اخر رصاصة من بندقيته حتى لقى الله في نفس المكان دفاعا عن شعبه ووطنه. كان تفكير الشهيد على ادريس في تلك المعركة إنقاذ الشعب الاريتري والجنود الذين كانوا تحت امرته. فطل يصرخ علينا بصوته العملا ق تقدم، ولكن بعد اقترابنا من خط المواجهة مع العدو اختفى القائد على ادريس لنسمع طلقات من رشاشه تنطلق من جهة أخرى جعلت العدو يعتقد بأن قوة جديدة أتت إلى مكان المعركة لإسعافنا.، بهذا اتجهت أعيرة النيران المختلفة إلى مكان تواجد الشهيد على ادريس، مما خفف ذلك الضغط علينا وعلى أفراد الشعب الذين كانوا يزحفون من خلفنا، اثناء عبور الثغرة جرح أربعة من فصيلتنا وكنت أنا واحد منهم، لم أشعر بالطلقات التى استقرت في رجلي إلا بعد الخروج من دائرة الحصار وبعد أن قطعنا مسافة غير قصيرة وتفقدنا حالة الجنود والمدنيين الذين تمكنوا من الناجاة بأرواحهم.. شعرت بدوخة ولاحظت بأن الإصابة لم تكن كما توقعتها طفيفة، وحاولت أن لا أشعر الاخرين بذلك، حيث توجهت باتجاه جسر ضخم حاولت أن احتمي تحته حتى أتبين حقيقة الإصابة، وطلبت من زملائي أن لا يتوقفوا عن المسير خشية من مطاردة العدو لهم وللشعب وطلبت منهم أخذ البندقية بعد أن شعرت بأن حالتى سوف لن تمكنني من استخدامها خصوصا بعد أن لاحظت وجود تورم في رجلي وفقداني للتوازن. بقيت في مكاني وواصل الاخرين طريقهم. ولا أتذكر المدة التى قضيتها في نفس المكان بالساعات ولكن الشئ الذي أذكره بأنني أفقت من الغيبوبة، ووجدت نفسي تحت الكبرى، وشعرت بعطش شديد وفي نفس الوقت بعدم القدرة على الحركة، وكنت أعلم من الناحية النظرية ما يمكن عمله في مثل هذا الموقف، لكن ما لم أتوقع بأنني سأضطر يوما إلى تطبيق النظرية عمليا، وهو (شرب الأروين) ولم يكن أمامي خيار آخر سوى القيام بهذا العمل، وبعد ذلك حاولت أن أجلس وأتنشط لأي حركة، وبعد مرور يوما كاملا في نفس المكان ولا أعرف ما سبق ذلك اليوم من ساعات أو أيام سمعت أصواتا وعويلا للنساء والأطفال، ممن كانوا يحتمون في المزارع،عادوا ليتفقدوا ما تبقى من ممتلكاتهم أو للتعرف على ضحاياهم، وعرفت بأنني لم أكن بعيدا عن قريتي “عايلت” و”قمهوت” وبعد زمن قليل رأيت مجموعة من أفراد الشعب على مسافة بعد النظر يتجهون صوب الكبرى حاولت أن احتمى وأخفي نفسى.. ولكن بد ون جدوى، حتى اقتربت أصواتهم من مكان تواجدي، ولما تأكدت بأنهم من المواطنيين العاديين جمعت ما أملك من قوة لأقف على قدمي حتى أريهم مكان تواجدي، وبالفعل تمكنت من ذلك وأسرع إلي بعد ذلك أحدهم،وبدأ في وجهه علامات الحزن، وجرى ليسعفني بالماء، وفي نفس اليوم أ حضروا لي جملا ورافقني أحدهم إلى مكان قريب من قرية “شعب” ـ بكسر الشين ـ وهناك وجدت بعض الجنود من النطقة الرابعة، الذين كانوا يعتقدون أنني استشهدت في معركة “عايلت” مع الأخ على ادريس، وفي منطقة شعب التقيت بالأخ على السيد عبدالله والشهيد حسن حمد أمير، واتجهت بعد ذلك معهما للعلاج إلى السودان.
….يتبع الحلقة القادمة.