مقالات

حديث الذكريات والمذكرات ( الحلقة الثالثة ) : بقلم / محمد سعيد ناود

26-Feb-2007

المركز

والمرحلة الثانية التي كتب لي أن أعيشها كانت مرحلة الحرب الباردة . فبعد فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية انتهى احتكار أمريكا للسلاح النووي ، فقد تمكن الاتحاد السوفييتي من الحصول على أسرار القنبلة الذرية وبالتالي تمكن من صناعتها ، وان المعسكر الغربي بزعامة بريطانيا العظمى آنذاك والولايات المتحدة الأمريكية كان يتربص بالاتحاد السوفييتي . بل وبالنظام الاشتراكي بهدف القضاء عليه .

وفي بداية خمسينيات القرن الماضي وعندما امتلك السوفيت السلاح الذري فقد جن جنون الغرب ، وقامت أمريكا بإعدام عالم الذرة الأمريكي ” اوبنهايمر ” وزوجته ” ايثيل ” بواسطة الكرسي الكهربائي تحت تهمة التجسس لحساب السوفييت وتسريب أسرار الذرة لهم . وفي الحرب الباردة فقد انشطر العالم إلى جزأين أو معسكرين ، ويقود المعسكر الأول الولايات المتحدة الأمريكية عندما قامت بتكوين حلف شمال الأطلسي ” الناتو ” في ابريل 1949م بزعامة أمريكا وعضوية كل الدول الغربية . وفي بداية وخلال الحرب الباردة فقد نشرت أمريكا وحلفاؤها الأحلاف العسكرية مثل حلف بغداد الذي كان يشمل عددا من الدول مثل تركيا ، العراق ، وباكستان .. والقواعد العسكرية المنتشرة في شتى الدول والتي تحيط بدول المعسكر الاشتراكي عموما وبالاتحاد السوفييتي على وجه الخصوص ، وهي على اهمية الاستعداد لتوجيه جيوشها وأسلحتها الفتاكة للقضاء عليه . وكانت إرتريا في قلب الحرب الباردة ودفعت فيها ثمنا باهظا ، ربما لم يدفعه آخرون ليس بفعلها ولكن بفعل الآخرين وحسب اعترافهم . فالولايات المتحدة الأمريكية وبالتواطؤ مع بريطانيا التي كانت تحكم إرتريا باسم الحلفاء بعد هزيمة القوات الإيطالية ، وأيضا بالتواطؤ مع الإمبراطورية الإثيوبية وعلى رأسها الإمبراطور هيلي سيلاسي ، وعندما اكتشفت الموقع الاستراتيجي لإرتريا وكذلك المواصفات المطلوبة في الأراضي الإرترية لإقامة قواعدها العسكرية ، فإنها وقفت عقبة كأداء أمام استقلال إرتريا وربطتها بالإمبراطورية الإثيوبية حسب القرار الذي استصدرته بحقها من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 ديسمبر 1952م . وأكد ذلك لاحقا وزير خارجية أمريكا الأسبق ” جون فوستر دالاس ” عندما صرح بأن إرتريا من حقها أن تنال حقوقها ، إلا أن المصالح الاستراتيجية لأمريكا في حوض البحر الأحمر اقتضت ربطها بحليفتنا إثيوبيا ، وعليه وبمجرد صدور قرار النظام الفيدرالي بين إثيوبيا وإرتريا فقد استأجرت أمريكا من الإمبراطورية الإثيوبية قاعدة ( قانيو إستيشن ) معسكر دندن حاليا للاتصالات في العاصمة الإرترية اسمرا وبإيجار سنوي بملايين الدولارات كانت تدفعها سنويا للخزينة الإثيوبية . وكانت هناك أيضا قاعدة بحرية في مصوع ، ومعسكر ( راديو مارينايو ) في اسمرا الواقع خلف السفارة الأمريكية ، معسكر ألقينا حاليا وكان ذلك هو الثمن الفادح الذي دفعته إرتريا . وان معسكري ( قانيو ) و ( راديو مارينايو ) وعندما تحولت إثيوبيا إلى نظام حليف للمعسكر الاشتراكي وعلى رأسها المقدم منقستو هيلي ماريام فقد أصبحتا قاعدتين للجيش الإثيوبي ، وأيضا وخلال الحرب الباردة وعندما تحولت إثيوبيا إلى نظام حليف للمعسكر الاشتراكي ، فان إرتريا الثورة دفعت ثمنا لذلك حيث أن المعسكر الاشتراكي بكاملة وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي وحلفائه من الدول والأحزاب الشيوعية تحول إلى داعم سياسي واقتصادي وعسكري بكل أسلحة الدمار بالإضافة للخبراء العسكريين والجيوش الجرارة للجيش الإثيوبي الذي كان يخوض حروبا طاحنة برا وبحرا وجوا ضد الثورة الإرترية . وعندما تمكنت الثورة الإرترية من هزيمة المستعمرين الغزاة وانتزعت حريتها واستقلالها عبر الاستفتاء الحضاري الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة ، منظمة الوحدة الإفريقية ، جامعة الدول العربية ، شخصيات عالمية مرموقة وأجهزة إعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون من شتى أنحاء العالم ، حيث كانت نتيجة الاستفتاء ” بنعم ” للاستقلال بنسبة غير مسبوقة في العالم وهي 99,8 % ، عندئذٍ قامت الحكومة الإرترية بخطوة وطنية بإلغاء تسمية ” قانيو إستيشن ” واستبدالها بـ ” معسكر دندن ” إشارة للجبل الضخم الشهير الذي يطل على مدينة “نقفة ” عاصمة إقليم الساحل وهي المدينة الأولى التي حررتها الثورة ولم تتمكن إثيوبيا من إعادة احتلالها رغم محاولاتها العديدة ، ورمز صمود الثورة الإرترية ، كما ألغت تسمية ” راديو مارينايو ” واستبدلتها بتسمية ” معسكر القينا ” ، و” ألقينا ” هي المنطقة المعروفة في إقليم الساحل الشمالي وكانت من مراكز الثورة الإرترية أثناء حرب التحرير . وكلا المعسكرين ( دندن ) و ( القين ) يسكنهما اليوم الآلاف من المناضلين الإرتريين بأسرهم ، أولئك المناضلين الذين ساهموا في تحرير الوطن من خلال اشتراكهم في الثورة ، ويعملون اليوم في أجهزة الدولة الإرترية المستقلة والكاملة السيادة ، وكاتب هذه السطور وصاحب المذكرات هو أحد أولئك الذين يسكنون في معسكر ” القينا ” الواقع خلف السفارة الأمريكية بأسمرا . وأمام هذا التطور ، أي قيام حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) فقد تأسس ( حلف وارسو ) في مايو 1950م بزعامة الاتحاد السوفييتي وعضوية كل الدول الاشتراكية . وبوجود المعسكرين المذكورين فقد ظلا يحافظان ويتنافسان على التوازن بينهما ( أي الرعب النووي ) المتبادل وأصبح التنافس بين المعسكرين في صناعة الأسلحة الفتاكة والصواريخ عابرة القارات وممارسة التجسس على بعضها البعض للحصول على الأسرار العلمية والسياسية والاقتصادية ومختلف المخترعات في كل المجالات . وفي هذا الجانب فقد برزت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والتي عرفت اختصارا c.i.a وأمامها أل k.g .b السوفيتية ، حيث كان الصراع على أشده بين هاتين الوكالتين ، وكانت كل منهما عبارة عن إمبراطورية سرية بجيوشها وعملائها وعلمائها . وأثناء الحرب الباردة فان حملات الدعاية المسمومة والإعلام الملغوم والحملات الفكرية بين المعسكرين كانت على أشدها ، فالمعسكر الغربي ظل يعزف على وتر انعدام ( حقوق الإنسان .. والديمقراطية .. والحريات العامة) والإلحاد في محاربة المعسكر الاشتراكي . ويقدم نفسه إمام شعوب العالم بأنه يتمتع بالرفاهية والرخاء الاقتصادي .. وموسيقى ورقصات ( الروك أندرول ) وبنا طلين ( الجينز ) ولفائف التبغ الفاخر ( مارلبورو والروثمان والبحاري ) والحياة الغربية .. وحرية الفكر والاعتقاد . وهذه المغريات كانت تجذب قطاعات واسعة لا يستهان بها من شعوب الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وبالذات وسط الشباب كما ظهر لاحقا . وبالمقابل فان دول وأحزاب المعسكر الاشتراكي والأحزاب الشيوعية خارج دول المعسكر الاشتراكي كانت توجه خطابها ودعايتها الإعلامية والفكرية نحو شعوب المستعمرات والى حركات التحرر الوطني التي شملت العالم والى الحركات الشبابية والنقابية والنسائية ، ولذا فان شعوب المستعمرات وحركات التحرر الوطني والكثير من حكومات العالم الثالث ظلت تحتمي وتستظل بالمعسكر الاشتراكي في صراعها ضد القوى الاستعمارية التي كانت تهيمن آنذاك على إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية . وكان التنافس والتسابق بين المعسكرين على أشده وذلك في كل الحقول . واذكر في نهاية الخمسينات يوم تمكن الاتحاد السوفييتي من إطلاق رائد الفضاء الروسي الطيار ( قاقرين ) في الفضاء الخارجي . ففي ذلك اليوم عمت النشوة كل القوى التقدمية في العالم ، وكنت ممن احتفلوا بذلك ضمن آخرين بطريقتنا الخاصة في السودان . وقد كان ذلك حدثا غير مسبوق في العالم ، وكان ذلك يمثل انتصارا في نظر الكثيرين على القوى الإمبريالية ، وبعده وبفترة وجيزة تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من إرسال رائد فضائها إلى سطح القمر ” نيل ارمسترونغ ” ، الأمر الذي لم يكن الاتحاد السوفييتي قد تمكن من الوصول إليه . واستمر التنافس العسكري والغواصات المنتشرة في أعماق المحيطات والبحار وهي تحمل شتى أنواع الأسلحة وامتلاك الصواريخ عابرة القارات ، ومختلف أنواع أسلحة الدمار الشامل من الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية والقنابل النيترونية القاتلة للحياة ، أصبح كل ذلك هاجس المعسكرين .. وفي عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ( رونا لد ريجان ) فقد بدأت أمريكا تهدد بحرب النجوم ، مما جعل الأمر فوق طاقة الاتحاد السوفييتي أمام الإمكانيات الاقتصادية الهائلة للولايات المتحدة الأمريكية والتي كان ولا يزال بمقدورها الاستمرار في هذا النوع من الحروب ، مضافا إليها إمكانيات حلفاؤها من دول الغرب الغنية بالمقارنة مع الإمكانيات المتواضعة لدول المعسكر الاشتراكي والتي كانت تعتمد كثيرا على الاتحاد السوفييتي . هذه مجرد لمحة من فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي والتي شاهدنها ، بل عشتها في دائرتي الصغيرة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى