أبرياء في “سفر إلى البربرية”
3-Jun-2015
عدوليس ـ نقلا عن العربي الجديد http://www.alaraby.co.uk
في الحفل السنوي لجوائز الصحافة الفرنكوفونية الذي تقيمه مؤسّسة “ألبير لوندر”، والتي تحمل اسم الكاتب والصحافي الفرنسي ألبير لوندر، مُنحت جائزة أفضل فيلم وثائقي فرانكوفوني لكل من ديلفين ديلوجيه، معدّة أفلام وثائقية حول فكرة الهجرة والمنفى، وسيسيل أليغرا، الباحثة المتخصّصة في شؤون المافيات والمهرّبين، عن فيلم “سفر إلى البربرية”.
عُرض الفيلم للمرة الأولى العام الفائت على قناة “بوبليك سينا” الحكومية الفرنسية، ويتحدّث عن معاناة اللاجئين الإريتريين الفارين من الحكم العسكري في بلادهم، ليتعرّضوا لاحقاً للخطف من قِبَل المهرّبين البدو على الحدود السودانية ويتم نقلهم إلى مخيّمات التعذيب في جزيرة سيناء المصرية.في بيت من ثلاث غرف في أحد أحياء استوكهولهم، حيث يتساقط الثلج منذ يوم، يخرج صوت روبيل، أحد الناجين من مخيّمات التعذيب في سيناء. الشاب الذي يبلغ من العمر 24 سنة، قضى سبعة أشهر في سجن في قلب الصحراء، تعرّض خلالها لشتّى أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي.يقول روبل “كان جسدي يحترق وكتل اللحم تنزف دماً. قيّدوا يديّ وربطوني بسلاسل معدنية وبدأوا بضربي بعصاً خشبية على ظهري. كان السكين يقترب من بطني وعنقي، وكان الجلاد يقول لي إنّه سيقتلني ويبيع أعضائي إذا لم أبلغ أهلي أنّ الخاطفين يطلبون فدية خمسين ألف دولار”.صوت روبيل هو نفسه صوت فيلمون ودانيال ومئات الإريتريين الفارّين من القمع والخدمة العسكرية المجحفة (غير محدودة المدة في إريتريا). هؤلاء لا يبحثون سوى عن الحياة الكريمة والعمل لإعالة عائلاتهم، لكنهم ما إن يقطعوا الحدود السودانية في مدينة كسلا حتى يتعرّضوا للخطف على يد المهرّبين المنتشرين في تلك المنطقة، وينقلوا بالمئات في شاحنات إلى الصحراء على الحدود مع غزة.بين ثلج استوكهولهم ونار الصحراء، تذهب بنا شهادات جرماي وفيلمون ودانيل وروبيل إلى تكثيف للمأساة التي يعانيها المهاجرون الأفارقة. يجمعهم الخوف من الحكم العسكري وكذلك الخوف من الموت تحت التعذيب في الصحراء، ولا يستطيعون نسيان الأب الذي يعاني من ارتفاع ضغط الدم أو الابن الذي وعدوه بتأمين مبلغ مالي لإطلاق سراحه. ما يطلبه منهم الصحافيون في استوكهولم هو آخر ما يشغلهم؛ الإدلاء بشهادة حول تلك المعاناة والخوف من فكرة الخوف ذاتها في بلادهم.في كل شهادة يتحدث فيها أحد الناجين عن المأساة التي عاشها، إمّا عن الأجساد المتدلية على حبال كالدواجن المذبوحة، أو عن الجثث المكوّمة في زنازين تحت رمل الصحراء، أو عن السكاكين التي تطأ الأعضاء ولا تذبح. دائماً، يبدو الألم تأطيراً لفوبيا الوجود وتصويراً لفكرة أسمى من الحياة، هي كيفية الهروب من هذه الحياة والانعتاق من حرارة الصحراء ولهيب التعذيب.تتقاطع شهادات الناجين اللاجئين إلى السويد بعد رحلة دامت أكثر من خمس سنوات، وتتوارد الصور من كل حدب وصوب. ولوهلة، يخال المتلقي أنّ هؤلاء الشباب يقومون برحلة حول العالم، إذ تصبح المدن المذكورة مجرّد محطّات عبور في مسير سيزيفي طويل وتصبح الأيام التي قضّاها هؤلاء في غرف التعذيب اليومي علامات للتشظي المعنوي الذي تظهر نتائجه مادياً على الجسد المتلوّن والمحروق.على أنّ السرد الممسرح للأحداث، التي يغلب عليها شكل الشهادات الحية، ينحو أكثر نحو تسليط الضوء على غياب الأصوات الحقوقية والمنظمات الدولية واستمرار الجريمة بغطاء حكومي مصري وسوداني وإسرائيلي، إذ يصبح الإريتريون مجرّد “عبيد” لا قيمة إنسانية لهم، وتغدو فكرة وجودهم قائمة حصراً على أن يكونوا تحت رحمة الجلاد، فقراء مقموعين في بلادهم ومخطوفين معذّبين في منافي الأرض.