الحبشة و
4-Oct-2017
عدوليس ـ نقلا عن الخليج اون لاين
يؤرخ باحثون وأكاديميون للعلاقة بين إرتيريا وشبه جزيرة العرب بنحو ما يربو عن ثلاثة آلاف سنة وأكثر، وهي علاقة متشعّبة ومعقّدة على كافة مستوياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.ولعلها أقدم مما أشرنا إليه، فقد كانت أفريقيا وشبه جزيرة العرب رقعة واحدة، حتى انفلق الأخدود الأفريقي العظيم، وأسفر عن البحر الأحمر، فصار فاصلاً طبيعياً قلّل من إمكانية التواصل، لكنه لم يحُلْ دونه، بلا شك.ما يؤكد ذلك ويعضده تلك الصلات الإثنية واللغوية بين معظم المجموعات القاطنة على ساحلي البحر الأحمر.فبحسب البروفيسور يوسف فضل، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الخرطوم، فإن ازدهار حضارات متطوّرة في جنوب الجزيرة العربية، أهمها سبأ ومعين وقتبان وحضرموت، هي المركز الأساس لهذه النهضة.
ويؤكد فضل لـ “الخليج أونلاين”، أن التواصل وتبادل المنافع بين قاطني ضفتي البحر ظل مستمراً، ولا يزال على مدى قرون طويلة، انتقلت خلالها اللغة والثقافة العربية إلى إريتريا عن طريق ما أسماه بـ “التغلغل الصامت”، إلى أن بلغ مداه بعد انهيار سد مـأرب، حيث بدأت الهجرات الكبرى لقبائل “حبشت وأجعازيان” من اليمن إلى الحبشة؛ “إريتريا وشمال إثيوبيا الحاليتين”.
وتابع قائلاً: “أسسَ هؤلاء المهاجرون مملكة (أكسوم) الشهيرة في القرن الثاني قبل الميلاد، على الأرجح، إذ حمل اثنان من ملوكها على الأقل، هما (ربح وابنه لملم)، بحسب ما هو متوفر من معلومات وشواهد تاريخية ونقوش أثرية إلى الآن، لقب (ملك سثري من قبيلة يجعد، مكارب دئيمت وسبأ)، في حين أضاف الأول إلى لقبه في نقش آخر أنه سليل قبيلة (وارن في ريدان)، ما يكشف عن الأهمية التي كان يوليها هؤلاء الملوك لنسبهم العربي، وانحدار أصولهم من جنوب الجزيرة العربية”، على حدّ تعبير هــ.د كنتسون، في كتابه (حضارة فترة ما قبل أكسوم).
وفي هذا السياق يشير البروفيسور يوسف فضل، إلى أن أول ملك مسيحي على أكسوم كان “عيزانا”، وهو من احتل اليمن ونصب عامله “أبرهة”، المعروف في الأدبيات العربية بـ “الأشرم”، حاكماً عليها.
إلاّ أنه لم يكتفِ بذلك، فأعلن نفسه ملكاً على حمير وسبأ وريدان، وفي عهده نما وتطوّر وازدهر ميناء عدول (عدوليس) الإريتري، الذي يُرجّح بحسب مصادر عديدة بأنه ذات الميناء المذكور في معلّقة (طرفة بن العبد) باسم (عدولية): “عدولية أو من سفين ابن يامن … يجور بها الملاح طوراً ويهتدي”.
– اللغتان الحميرية والعربية:
من جهته كشف الباحث الآثاري الإريتري، محمود حمدان، لـ “الخليج أونلاين” أن العلاقات الثقافية بين إريتريا وجوارها العربي تمثّلت بشكل رئيس في اللغة الحميرية والحرف الجئزي المستخدم حالياً لكتابة لغتي التيغري والتغرينية الإريتريتين.
بيد أن ظهور الدين الإسلامي -بحسب حمدان- فتح صفحة جديدة في العلاقة بين إريتريا والعرب، حيث كانت الحبشة وجهة آمنة للدين الجديد ولغته العربية، بعد أن استقرت مفارز كثيرة من متحدثي العربية في ساحل البحر الأحمر الغربي، ومن ثم انتشرت ثقافتهم؛ من شعر وغناء وعمارة وطرائق عيش.
وأشار حمدان إلى “ما أسماها بعض الكلمات العربية من أصول لغوية (إريترية)، خاصة من لغتي (التيغراييت والتيغرينية) الحميريتين، مثل: مصحف، منبر، مشكاة، مائدة، منافق، صرح، برهان، حواريون، جلباب، وقف، زريبة، تأريخ، ساعة، زمن، زرافة، بخل، أخدود، أثافي، سبخ، سقم، حكمة”.
وأضاف أن “فئة الشعراء المُسمّاة (أغربة العرب) تعود جذورهم إلى الحبشة (إريتريا)، ومنهم (عنترة بن شداد، خفاف بن ندبة، والسليك بن السلكة)، مثالاً لا حصراً”.
وفي السياق ذاته، لفت الدكتور تاج الدين نور الدائم، المدير السابق للمتحف الوطني الإريتري، إلى أن “جل الآثار المكتوبة بالعربية في إريتريا توجد في جزيرة دهلك على البحر الأحمر”، واستطرد: “أول من لفت الانتباه إلى النقوش العربية في جزيرة دهلك الإريترية كان (ماكس فان برشم)، وهو مستشرق سويسري متخصص في النقوش الإسلامية، وأهمها شاهد قبر أحمد بن إسماعيل سلطان دهلك، وباضع، وحرقيقو، علاوة على الكثير من الشواهد والبوابات الأخرى”.
وكشف تاج الدين لـ “الخليج أونلاين”، عن أن دهلك وردت في أشعار العرب، كقولِ أبي المقدام:
“ولو أصبحت خلف الثريا لزرتها … بنفسي ولو كانت بدهلك دورها”.
وأضاف تاج الدين: “كما ذكرها كثيّر عزة في قوله:
كأن عدولياً زهاء حمولها … غدت ترتمي الدهنا بها والدهالك”.
ويواصل قائلاً: “تكثر النقوش العربية القديمة على شواهد القبور في دهلك، التي تبعد نحو 250 متراً عن المرفأ، وتميّزت نقوش قبورها بأنها كانت تضرب على حجارة جيرية مسطّحة، وتوضع على جانبي القبر أو فوقه، ويبلغ سمكها بين 10 إلى 15 سم”.
أما ذكر الجزيرة في الأدبيات العربية –والحديث لا يزال لتاج الدين- فكان في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، عندما نفى إليها الشاعر الأحوص، كما نفى إليها يزيد بن عبد الملك، عام 721هـ، أحد فقهاء المدينة، واسمه عراق بن مالك، إلى أن نفى إليها الخليفة المنصور (136 – 158هـ) أبناء عبد الجبار، والي خراسان، بعد أن أعدم أباهم، وكانت منفى للشاعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي، بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز 93 هـ.
وكان أحمد بن عمر الزيلعي، عضو مجلس الشورى السعودي، أشار في ذات السياق إلى “وجود نقوش بالخط العربي في إريتريا تعود إلى ما قبل الإسلام، وإلى خلاف النقاد حول أصل الخط العربي، وما ذهب إليه بعضهم من أنه متولّد عن النبطية، وقول آخرين إنه متولد عن الخط المسند الجنوبي”.
وتحدّث الزيلعي في تصريحات سابقة عن النقوش الأثرية الكثيرة التي عُثر عليها في جزيرة دهلك في البحر الأحمر، وهي الجزيرة التي كان يُنفى إليها معارضو بني أمية من الأدباء والكتاب، مرجّحاً أن “تكون مكة هي مصدر تلك النقوش، إذ كان الحجاج يجلبونها بعد موسم الحج إلى دهلك لتوضع شواهد على القبور”.
واستدل بنوع الأحجار التي جاءت من بيئة مكة وما حولها لا من أحجار الجزيرة المرجانية، نافياً أن “تكون دهلك هي التي كانت تصدر منها النقوش إلى مكة”.وعرج الزيلعي على بعض الأسماء التي ظهرت في فن النقش كثيراً؛ مثل عثمان بن وهران، وأحمد بن الحسين، ومحمد بن أحمد بن المعتمد، وعبد الرحمن بن أبي حرمي، وهو أشهر خطاطي النقوش بمكة، ووجد كثير من نقوشه بدهلك.
– الواقع الحالي:
من جهته يقول عبد اللطيف سيد، المترجم والباحث في تاريخ الحبشة بجامعة أكرا في غانا: “بطبيعة الحال فإن الأثر الأدبي المكتوب بالعربية في إريتريا الحالية قليل جداً، وهذا لا يعود إلى افتقار المعرفة بالعربية بالتأكيد، وإنما إلى ظروف ومعطيات موضوعية جعلت من لغات أخرى أكثر تداولاً منها؛ كالإيطالية (إبان الاستعمار الإيطالي)، والإنجليزية (إبان الاستعمار البريطاني)، والأمهرية (لغة جئزية) في سنوات الاستعمار الإثيوبي، ثم التيغرينية (لغة جئزية) عقب الاستقلال وإلى الوقت الحالي”.
وظلت العربية محصورة في تدريس ومدارسة الدين الإسلامي، في حالة صعود وهبوط تبعاً للأوضاع السياسية السائدة وتقديرات الأنظمة الحاكمة للأمور، حيث إن جلّها تربط العربية بالإسلام، ومن ثم تجهد في حصارها وإقصائها والحد من انتشارها وتمددها، وهذا ما يحدث الآن بتخطيط وتدبير.
ويستطرد سيد موضحاً لـ “الخليج أونلاين”: “عُرفت العربية كلغة للكتابة والتدوين في إريتريا في وقت مبكّر، على الأرجح منذ سني الإسلام الأولى، وهنالك ما يشير إلى ذلك في الآثار المكتوبة بالعربية، التي اكتُشفت في جزر دهلك على البحر الأحمر، وأماكن أخرى عديدة، إلا أنها لم تنتشر لتعمّ، لكنها أيضاً لم تنحسر إلى حدّ النسيان، فهي لا تزال قائمة ومتداولة”.
وأشار إلى أنه “ازدهرت بفضل بعض الأحزاب السياسية ذات النزعة الاستقلالية إبان الاستعمار الإنجليزي (أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم)، كحزب الرابطة الإسلامية، الذي دأب على إصدار بعض أدبياته بالعربية، وقد اقتفت أثره لاحقاً حركة تحرير إريتريا، التي كتب مؤسسها محمد سعيد ناود، أول رواية إرتيرية بالعربية، تحت عنوان (رحلة الشتاء)، والكثير من الكتب التأريخية والبحوث والدراسات المختلفة، وهكذا مضت الأمور في سنوات بروز جبهة التحرير الإريترية قبل ضمورها واضمحلالها، حيث تركت آثاراً لا بأس بها مكتوبة بالعربية، ومنشورات، ومجلات وكتباً وأشعاراً وغناء، يصعب حصرها هنا لطبيعية الدراسة، إلا على سبيل الإضاءة فقط”.
واختتم كلامه بالإشارة إلى “بعض أبرز كُتاب العربية في تلك المرحلة؛ مثل السياسي والمؤرخ عثمان صالح سبي، والشعراء الراحلين أحمد سعد، وعبد الرحمن سكاب، ومحمد عثمان كجراي، بجانب الشاعر الكبير محمد مدني (يقيم حالياً في تركيا) وهو أكثرهم شهرة وحضوراً وإنتاجاً”.
8 رئيس تحرير موقع “الإفريقية” الإلكتروني.