مقالات

صباح الـخير أيها التاريخ الإريتري : سيد أحمد خليفه

21-Dec-2009

المركز

زيارة أثارت كل هذه الشجون والذكريات.. يا لها من زيارة
سألت زائري الشاب عن أحبائي وأصدقائي الأحياء والذين رحلوا..
المجاهد عمر البرج أعطى الوطن العمر ولم يعطه النظام قبراً..
وإبراهيم مونتاي مهندس العلاقات الإريترية الشامية لعله بخير..

أبى هذا الزائر العزيز «الذي لا أستطيع بكل أسف أن أذكر اسمه» إلاّ أن يفتح حقيبة ذكرياتي المفرح منها والمؤلم. والمفرح في ذكرياتي معه هو ما يتصل بأخبار عدد من أصدقائي وأحبائي القادة الإرتيريين أو الكوادر، وجميعهم أفنوا العمر في خدمة القضية وإحراز الاستقلال، إن حالهم في الغالب ظل كما هو، فما مضى لا يعيد الذين ناضلوا وقاتلوا وأفنوا العمر في سبيل أوطانهم.. وهذا مثال.. لقد مات صديقي وأخي المناضل «عمر البرج» وهو آخر رئيس لقوات التحرير الشعبية، بعد رحيل القائد المؤسس عثمان صالح سبي الأب الشرعي أو على الأقل أحد الآباء الشرعيين والتاريخيين للثورة الإرتيرية..! لقد رحل عن الدنيا صديقي عمر برج وهو في غربته وكربته بعد استقلال إرتيريا بسنوات، حيث كان يعيش متنقلا بين عاصمتين هما العاصمة الإيطالية روما والعاصمة السعودية الرياض، وغالباً كانت مدينة جدة إحدى محطاته الهامة، فقد أودع فيها منذ سنوات بعيدة أسرته بعد أن أعلن انضمامه للثورة الإريترية في الستينيات على وجه التقريب، مضحياً بثروته الواسعة وتجارته الناجحة…! وبعد الاستقلال الذي دبر في لندن بعد أن ساعدت الثورة الإريترية في جعله أمراً واقعاً زارني في جدة، ولعلها المرة الأخيرة من صديقي الراحل عمر برج الذي فقد الزوجة والولد أيضا ولم يفقد الثروة وحدها في سبيل القضية، نعم زارني بعد أن زار أسمرا عاصمة إرتيريا المستقلة، وكان من المحزن أن عومل معاملة الزوار العاديين حيث لم يهتم به أحد من الذين قفزوا على السلطة في إرتيريا المستقلة، أو نالوها بدون استحقاق أو رفضوا الشراكة والمشاركة..! ويوم الزيارة تلك وكنا في فندق الانتركونتننتال بجدة – الراحل برج وشخصي – قد تحدثنا طويلا عن فترة ما بعد الاستقلال، وفرحة الإرتيريين جميعاً به وأملهم في أن يوحدهم الاستقلال مثلما توحدوا يوماً لإنجازه، إلى أن تفرقت بهم السبل الايدولوجية او المؤامرات الدولية أو الخطط المستقبلية، التي لم تفصل إريتيريا عن محيطها فحسب بل فصلت الاريتريين في أغلبيتهم عن الاستمتاع باستقلال بلادهم..! وإلاّ بربكم ما معنى استقلال يبلغ عدد اللاجئين والنازحين منه ضعف أو أضعاف عدد النازحين واللاجئين في زمن الاستعمار.. ولقد عاد الراحل عمر برج من أسمرا وكان في نيته أن يبدأ ويفجر حملة إعلامية ضد النظام الذي تهيأت له السبل الغربية لإعلان الاستقلال..! ولكن ولأن الراحل عمر برج كان من أشد المؤمنين بقاعدة «نصف رأيك عند أخيك»، فقد استمع إلى وجهة نظري ووافق عليها حيث قلت له: «إن الشعب الإريتري الآن في حالة عرس بعد نصف قرن من النضال والجهاد والتشرد»، ولن يفهم «أي الشعب الإريتري» معني أن يخرج عليه صوت أحد صناع الاستقلال ويندد بالنظام الذي أريد له أن يتحقق الاستقلال على يديه «يعني شغل دولي»..! بعدها غادر عمر برج جدة إلى روما وظلت بيننا الاتصالات الهاتفية إلى أن انقطعت بانقطاع صلته بالحياة، حيث رحل عن عمر تجاوز الـ75 عاماً يشهد الله أنه أمضاها وأهداها إلى إريتريا وشعبها، ولست متأكداً إن كان النظام الإريتري الحاكم الآن قد سمح بدفنه في الوطن، وأحسب أنه استؤجرت له مقبرة في روما أو طرابلس أو القاهرة، والأخيرة «أي القاهرة» هذه كانت إحدى محطاته العائلية والنضالية المهمة، إذ كان من المؤتمنين على أسرار علاقات مصر بالثورة الإريترية..! ولقد سألت ضيفي الذي حرك كوامن هذه الذكريات في نفسي عن العديد من أحبائي وأصدقائي الإريتريين كما ذكرت، وفاتني أن أذكر أن هذا الزائر الشاب جاءني برسالة شفهية في الأصل من صديق وحبيب إريتري ورفيق درب آخر، هو المناضل «إبراهيم مونتاي» الرفيق المرافق للراحل عثمان صالح سبي ولسائر القادة المؤسسين، وأحد الذين شيدوا العلاقات الأريترية النضالية مع الشعوب «سوريا.. لبنان.. العراق.. منظمة التحرير الفلسطينية» في أيام وحدتها ومجدها أيام أبو عمار.. الذي طالما كان يربط بين الثورتين في إريتريا وفلسطين، حيث جار الزمن ومزق الثورة الفلسطينية إلى أشلاء بل وجزَّأ نضالها وجهادها إلى «غزة- ورام الله» وبين حماس وجماعة عباس.. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، فقد جاء استقلال إريتريا أيضا وجعل من الانقسام والتشرذم والظلم أمراً واقعاً..! قال لي الزائر الشاب إن إبراهيم مونتاي بخير ويعيش في جدة وهو مثل حالنا يقتات الدواء والطعام بصورة منتظمة، ويتقدم به العمر وعينه على الوطن الإريتري الذي صار أبعد بعد الاستقلال، وأنا مثل «مونتاي» و«برج» والآخرين عين على إريتريا الوطن الذي لأجله بقلمي وعمري ناضلت وجاهدت، وتعرضت لما أصاب غيري من مصائب إلاّ أن الله سبحانه وتعالى كتب لي مصيراً آخر غير مصير الذين اغتالهم الاحتلال أو تآمر عليهم زمن الاستقلال…!! وسألت زائري الشاب عن رمز آخر من رموز الثورة الإريترية «وهو الجهاد بعينه.. والتاريخ.. والكفاح بعمره».. سألته عن صديقي وحبيبي أيضا المناضل سيد أحمد هاشم، وهذا هرم آخر بدأت حياتي النضالية داخل الثورة الإريترية في ظله الظليل منذ 43 عاماً خلت، فهو الذي جندني في الثورة الإريترية عام 1966م ومعه الرمز الإريتري الآخر «محمد نور أحمد»، والذي إن لم تخني الذاكرة يعيش الآن في أستراليا بعد أن فقد حق العودة لوطن كان قد أهداه الطفولة والصبا والشباب، ولم يهده النظام الذي تسلم الوطن المستقل حق الحياة ولو العادية في وطنه..! قال لي الزائر العزيز إن سيد أحمد هاشم يعيش في جدة أيضاً بعد أن تقدم به العمر، وهو الآن أقرب إلى نسيان بعض الوقائع بفعل عامل السن..! ولقد ترحمنا صديقي الشاب الزائر وانا على الركن الإريتري الكبير الذي هوى في جدة، بل على الأركان الإريترية التي تساقطت في جدة وخارجها بل وداخل الوطن الإريتري.. ودعونا بطول العمر والصحة والعافية لمن بقوا على قيد الحياة بالداخل أو الخارج.. نعم ترحمنا على «ركن جدة الركين» عثمان دندن، وقبله على الرجل التاريخ والعقل والحكمة أبو الثورة إدريس محمد آدم، وعلى الراحل المقاتل إدريس قليدوس، وعلى صانع الانتصارات وأبو المعارك والميدان «صالح ياي».. ولكم أحزنني موت ورحيل المجاهد الرمز «طه نور» الذي ربط السياسة الإيطالية بأحزابها الحاكمة والمعارضة بالثورة الإريترية، حيث أقنع الإيطاليين دائماً بأن الإسهام في استقلال إريتريا من مسؤولياتهم، بحكم أن إيطاليا كانت هي التي تستعمر إريتريا وإثيوبيا معا قبل الحرب العالمية الثانية..! إن الموت حق نعم والمرء لا يحزن على قضاء الله وقدره، ولكني حزين على أخي وصديقي طه نور الذي حاول بعد الاستقلال «أن يجرب المجرب»، فعاد إلى إريتريا المستقلة ليموت في أحد سجون نظامها الذي لا يمكن أن يلومه أحد على سجن طه نور أو موته أو غيره، لأن الوطن الإريتري كله الآن بين سجين ونازح ورائح ومتأهب للمغادرة والقفز خارج السجن الكبير..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى