مقالات

داوود الأمين علي ولد شامخا ككل شموسنا وقاماتنا التي تأبى الأفول والخنوع فالأبطال لا يموتون أبداً، بل يظلون نبراساً ينيرون لنا العتمة لنتهدي بدربهم:حامد ضرار- المملكة المتحدة-

24-Dec-2012

المركز

رحل صبيحة أمس السبت 22 ديسمبر 2012 الأخ والزميل الصحفي المناضل داوود الأمين علي عن دنيانا الفانية في مدينة الخرطوم التي جاء إليها من أسمرا للاستشفاء فوري ثراها.منذ أن عرفته ونحن أطفالاً وتلاميذ في المرحلة الإبتدائية ومن ثم في المدرسة الثانوية الأكاديمية القديمة في مدينة القضارف، ولاحقاً في فرع سورية للاتحاد الوطني لطلبة إرتريا الذي كان الراحل أحد اشجع فرسانه، ينافح ويدافع عن القضية الوطنية بوعي وبعد نظر منقطع النظير.

كان داوود الأمين في المدرسة الأكاديمية القديمة يعلق جريدة حائطية تحكي عن قضية النضال الإرتري. ففي صبيحة كل يوم سبت كان الكثير من الزملاء السودانيين يتزاحمون أمام تلكم الصحيفة الحائطية التي كان يكتبها بيراعه وخطه الفائق الجمال. كان يحاجج هذا ويفند إطروحة ذاك المشككة ويتصدى لمن كان يتهمه بالشيوعية أو يستغرب في كونه إرتريا، لاعتقاد البعض أن من يلفظ لغة الضاد باتقان ويمتلك ناصيتها، لا يجوز أن يكون إرتريا… كان راحلنا يرد ويتصدى لكل للمسيئين بسخريته وابتسامته التي لم تفارق شفتيه في أحلك الظروف- أنا إرتري- سوداني- قرن إفريقي!!.الطلبة العرب والأجانب في مجمع الطلاب في دمشق، كانوا يلقبونه بأبي الثورة وكانوا ينتظرون حضوره حاملاً نشرات الثورة وأخبار انتصاراتها.. وكانوا يحترمون مقارباته وثقافته العميقة والمتنوعة..صورة التقطناها أنا والراحل داوود الأمين علي في المقرن (الخرطوم) عام 1987 ونحن عضوان في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس للاتحاد الوطني لشبيبة إرتريا والتأسيسي والأول للاتحاد الوطني لشباب وطلبة إرتريا الذي انعقد في حشكب في سبتمبر من ذات العامكان داوود الأمين شامخاً وصنديداً لا يخشى في الحق لومة لائم… كان بحق زاهداً ووطنياً. رغم كونه طالبا في كلية الطب جامعة دمشق ورغم حساسية طبيعة دراسته، مرات عدة لبى هذا الراحل المقيم تعليمات القيادتين الطلابية والتنظيمية وسافر مرات عديدة إلى الميدان وإلى ليبيا والأردن والسودان لمهمات تنظيمية بحتة.لقد مكث في حشكب وعريريب وحشكربب في الميدان وتفرغ في أكثر من بلد ممثلاً للاتحاد الوطني لشباب وطلبة إرتريا، في وقت كان الكثيرون منا قد فقدوا أمل الانتصار والاستقلال.نسي داوود الأمين، بل ترك الطب وامتيازات الطبيب وهو ذاك الطالب الذي كان متفوقاً في الرياضيات والعلوم وكان مجاله الطب وليس سواه… ولأن الحاجة تطلبت حضوره ووجوده عمل صحفياً في إرتريا الحديثة والنبض وغيرهما، فلفت الأنظار إليه بلغته الرفيعة وقلمه الرصين، ليعجب به خصومه قبل أصدقائه…ولأنه كان متعدد المواهب والقدرات تم ترشيحه في كثير من الوزارات، الخارجية والداخلية ووزارة الدفاع في بلزا بأسمرا. ولأنه كان متعلقا بأسرته: عمر والأمين وأمهما من جهة وكان مسكون بهم الأسرة الكبيرة الوالد والوالدة والأخوات والأخوان وضرورة عودتهم إلى إرتريا من المهجر، لم يتحمس الراحل لفكرة الإلتحاق بإحدى سفارات إرتريا، وفضل وزارة الداخلية التي اشتغل ولفترة قصيرة ناطقاً رسمياً باسمها، ثم انتقل إلى وزارة الدفاع ولحوجة الشباب إلى تجربته الطويلة في العمل الطلابي التي امتدت لأكثر من عقدين ونيف في مرحلة ما قبل التحرير والاستقلال، استعارته قيادة الشباب ليكون مستشاراً لها في قضايا سياسية وشبابية.لقد جمعتني بالراحل المقيم، ليس فقط القضارف ولا الشام ولا الميدان وزياراتنا المشتركة لغير دولة لنمثل الاتحاد الوطني لطلبة وشباب إرتريا الذي كنا نحن الإثنين من أعضاء مجلسه المركزي ومكاتبه التنفيذيته لثلاث دورات كان ختامها المؤتمر الثالث للاتحاد الذي انعقد في صيف 1993 في قاعات الاكيسبو في قلب العاصمة اسمرا ، أسمرا تلك التي احتضنتي معه ومع عقد فريد من الزملاء والزميلات ولحوالي عقد من الزمان… تذوقنا خلالها طعم أن يكون للمرء منا وطن بعد طول انتظار. استمتعنا سوية بلحظات كانت غاية في المتعة، كانت بعض من تلك اللحظات بين أمور أخرى، لحظة دخول الجيش الإرتري المغوار إلى أسمرا وإعلان الاستقلال وليالي الاستفتاء التي رقصت فيها الأمة الإرترية بكاملها ولحظة بدأ العملة الوطنية التداول، عوضاً عن البر الإثيوبي… ولحظة رفع العلم الإرتري في مقر الأمم المتحدة وغيرها وغيرها…، يالها من لحظات… كنا أنا والراحل أيام الاستفتاء نتجول في شوارع أسمرا، لأسبوع كامل ليل-نهار دون أن نتذوق طعم نوم أو راحة…كان بمعيتنا في ذلك العرس الوطني الزملاء تيدروس دموز وبرهاني تولدي وفرويني زرآي ومحمد إدريس بارياي والثلاثة الأوائل كانوا بمعيتنا أنا والراحل أعضاء في المجلس المركزي للاتحاد في مرحلة ما قبل الاستقلال. كنا نلتقي في السيتي بارك لنزرع معاً أسمرا في اتجاهاتها الأربعة. كان تيدروس دموز يشارك داوود الأمين سخريته وتعليقاته اللاذعة وكان كل من برهاني تولدي وبارياي يتميزان بهدوئهما وميلهما للتحفظ والصوم عن اصدار التعليقات والاكتفاء باطلاق الابتسامات وضحكات المجاملة… أما أنا فكنت اتصدى للعملاقين داود وتيدروس لا لشيء فقط لخلق حالة من التوازن في تناول الموضوعات المثارة حالة التوازن التي تحرض على الحوار والانخراط في الدردشات والحوارات.إنه إذن القدر الإلهي، فقد عمل كل من بنيام تولدي ومحمد إدريس بارياي قنصلان في سفارتي إرتريا في الإمارات وقطر، وعادا مريضين للبلاد ليتوفاهما الله هناك وليدفنا في مقابر الشهداء في أسمرا… حدث ذلك قبل حوالي 5 سنوات من الآن… لحظتها اتصلت لأعزي ذويهما وصادف أن تحادثت مع الراحل داوود ووجدت في معيته في بيته، الزميل تيدروس دموز وذرفنا دمعة سخية على الهاتف حزناً على رحيل بنيام وبارياي، فعلق داوود على بكائنا قائلاً هل أنتما خائفان من الموت أم حزينان على الراحلين، فقلت له ربما الإثنان معاً. وتحول بكاؤنا كعادتنا إلى التعليق المفعم بالأمال العراض بحياة أفضل…لقد تعودت أن أمازح داوود في معظم اتصالاتي به، وآخرها كان من الدوحة والكويت ودبي في نهاية يونيو الماضي أثناء زيارة لي هناك للقاء الإرتريين في الخليج والائتناس بآرائهم على أداء المعارضة الإرترية بعامة وحزب الشعب الديمقراطي الإرتري بخاصة والذي كنت أنا رئيسه بخاصة، نعم اتصلت به وقلت له يا أبا عمر (( عليك الله خليك في البلد، فأنا اتحمس للعودة إليه إذا تغير الوضع، إذا كنت أنت والكثير من الناس الأحبة باقون…) قاطعني قائلاً: تعال لينا وتعالو لينا، في أي وقت وستجدني إنشاء الله كما تركتنا، لا الظروف غيرتنا ولا المصاعب هزمتنا… وسكت…)قلت له: خايف يسمعوك الجماعة؟ قال لا تعليق.. فيبدو عليك يا حامد ضرار نسيت ونساتنا في ليالي الشام وحشكربب والخرطوم في مرحلة ما قبل التحرير وجلساتنا في حدائق المتحف الوطني “في القبي” وفي الأكيسبو…في أسمرا؟رديت عليه: لم انس ياداوود.. لم أنس!!صبيحة اليوم الأحد 23 ديسمبر هاتفني أحد زملائنا من أسمرا، ليبلغني نبأ وفاة الغالي داوود الأمين علي… وقع الخبر علي كالصاعقة… لا لأنني لم اتوقع الوفاة، ولكن لاحساسي إنني قد فقدت أخاً وزميلاً يشاركني الكثير من تفاصيل، ستبقى (هذه التفاصيل) يتيمة، فلوحدي ستتلاشى الصور وتتداخل وسيكون عصياً علي اثباتها أو الاتيان بعكسها، مع أنها تفاصيل أشياء حياة وطفولة قد لا يكون لها بالضرورة أهمية أو علاقة بهمومنا السياسية أو غيرها… لقد تيقنت أن محمد إدريس بارياي وبنيام تولدي ومحمد داوود ركا من زملاء دربي، استطاعوا أن يضموا داوود إليهم… ولأبقى أنا اجتر ذكراهم حتى اللحظة التي يختارني فيها الله فأسير في ذات الدرب.اللهم أرحم داوود الأمين علي واسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.وصبر الأخوة ياسين وإدريس ونجاة وزينب وعمر والأمين و أهله وذويه وكل محبيه الصبر وحسن العزاء.إنا لله وإنا إليه راجعون. صدق الله العظيم23 ديسمبر 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى