مقالات

الجغرافيا وأحكامها :حمد كل – لندن

10-Dec-2012

المركز

09 ديسمبر 2012
هل يستطيع حاكم ارتريا ان يعيش زمان غيره؟ هناك شعوب تنعم بالاستقرار والسلام والأمان ، وشعوب اخرى وضعتها الجغرافيا في موقع حساس ، فتشقى بموقعها هذا لان مطامح الدول الكبرى تتكالب عليها لإخضاعها وفقا لأهوائها ومصالحها .

ان المعاناة الارترية اتت نتيجة للموقع المتفرد ، لامتلاكها ساحلا على البحر الاحمر في الاتجاه الغربي يبدأ من رأس “قصار” المجاور بحرا للسودان شمالا وعلى مسافة غير بعيدة من قناة السويس ، ويمتد طول هذا الشريط الساحلي حتى مضيق “باب المندب” جنوبا ، وهو شريط ساحلي طوله 1200 كم ، وتمتلك ارتريا في هذا الساحل جزرا عديدة في مواقع استراتيجية ، وليس هناك شعبا من شعوب سواحل البحر الاحمر عانى مثلما عاناه الشعب الارتري. زاد تكالب القوة الاستعمارية على المنطقة بصورة اكبر وعلى مراحل منذ افتتاح قناة السويس في 17 /11/1869م ، لان فتح قناة السويس ربط الشمال الاوروبي بالجنوب الافريقي ” ونعني منطقة القرن الإفريقي مرورا الى الهند الصينية ، وسهل واختصر المسافات لعبور البواخر ذهابا وإيابا ، ثم ازدادت هذه الاهمية مع ظهور البترول في المنطقة. هل الجغرافية ظلمت ارتريا فوضعتها في موقع حساس لا تحسد عليه كثيرا؟ان اى متأمل وقارئ بتأني للفترة من فبراير 1945م ، اى الفترة التي التقى فيها الامبراطور هيلى سلاسى بفرانكلين روزفيلت رئيس الولايات المتحدة الامريكية انذاك على ” أليخت ” الراسي على البحر الاحمر وبالقرب من قناة السويس ثم الفترة التي امتدت حتى عام 1952م حيث تطبيق القرار الفدرالي المشؤوم يجد ان مصالح القوة الكبرى كانت تقتضي اجهاض الحلم الارتري من خلال ربطه عنوة باثيوبيا وطمس هويته ، هكذا اقتضت مصالح الدول الكبرى ! . لكن بالمقابل وفي مواجهة هذا التآمر كان هناك شعب “فولاذي الإرادة كما وصفه البرنامج السياسي لجبهة التحرير الارترية في المؤتمر الوطني الاول في نوفمبر 1971م ، قاوم هذه المخططات وبدأ نضاله يأخذ شكل حرب الموجات ، فمن نضال الاباء في الاربعينات مرورا بحركة تحرير ارتريا ثم جبهة التحرير الارترية فالجبهة الشعبية لتحرير ارتريا ، نضال استمر بلا هوادة ، قدمت فيه تضحيات كبيرة وجبارة. أنجز التحرير في 24/ 5/1991م واعلن الاستقلال الكامل الناجز في 24/5/1993م . جاءت لحظة النصر بعد حرب استمرت ثلاثون عاما ، ثلاثون عاما من القتال والاستشهاد واللجؤ ومعانات صعب وصفها . جرى الاستفتاء واقبل عليه الجميع من اجل استقلال ارتريا . ثم تكوين مفوضية الدستور وكان حاكم ارتريا يقول لجلسائه على اى رئيس قادم لحكم ارتريا ان لا تتجاوز فترة حكمه اكثر من مرحلتين او فترتين. البرامج والمشاريع التي كانت تطرح في تلك الفترة من اجل الوطن اثارت اعجاب الجميع بما فيهم الاوروبين. بين وهج الانتصار والفرح بالاستقلال بدأت تتضح يوما بعد يوم ان حاكم ارتريا وهو ثملان بانتصاره ان نزعته الفردية بدأت تبرز وفهمه ووعيه للسياسة الاقليمية والدولية فيها نوع من الضحالة او ان تكون مفقودة ، انه غائب عن ادراك موقعه الجغرافي الذي يتحكم في توجهاته السياسية . على المستوى المحلي لا يعترف لأحد ولا يستشير احد والكل يجب ان يأتمر بأمره وينفذ مخططاته ، وفرض الثقافة الكبساوية على الجميع برغم اعترافه ان هناك 9 قوميات حسب تصنيفه لتركيبة الشعب الارتري. وعلى المستوى الاقليمي والدولي تعامل بنوع من الغطرسة ورفض لغة ماذا تريد انت وماذا يريد الاخرون منك فقط هو يسعى ليأخذ ما يريد. ان تنتصر الثورة هو النجاح لكن الفوز هو تحقيق الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية وأنت في قمة الثورة ووهجها . هذا على المستوى الاقليمي والدولي مصالحك تحددها الجغرافية وسعيك اليها تحدده قدراتك ومواردك ، والجغرافية هى اتصالاتك وجوارك. هناك قيادات تاريخية وعت لحظة النصر بكل ابعادها فارتقت بها واعطتها بعدا غير من حال البلد وامتد ليشمل الاقليم. المشروع التاريخي لأي وطن استراتيجيه العليا وهو تعبير دقيق عن تركيبها الجغرافي. ان استراتيجية اى وطن لا تكفيه اهواء الزعماء والحكام ونما تفرضه ثوابت الجغرافية اولا ثم يحركه دواعي التاريخ ثانيا ، وبالتأكيد فان الجغرافية تعتبر من اهم الثوابت لأنه على الرقعة الجغرافية لاى بلد تنمو مصالحه وتزدهر ثقافته وتتحدد ارتباطاته الانسانية والحضارية . تعتبر ارتريا احدى مفاتيح القرن الافريقي بحكم موقعها الجغرافي وإذا وجدت قيادة راشدة يمكن ان تعطيها بعدا سياسيا ، فإذا استثمر هذا المعطى يمكن ان يأتي بعائد تنعم البلد بخيراته ويأتي معها السلام والأمان والرخاء والوئام على المستوى الاقليمي. هل حاكم ارتريا وعى هذا التوجه الاستراتيجي ؟ بالتأكيد ليس واردا في فكره ووعيه ، انه فقط كان ومازال مشغولا بالحفاظ على كرسيه وانغلاقه على كبساويته الضيقة وشكه على كل من حوله. مع مجئ الاستقلال كان البلد قد خرج من حرب استمرت ثلاثين عاما خلفت ورائها جروحا ودمارا ، شعب باسره قدم التضحيات الغالية ، كان منتظر ان ينعم هذا الشعب بالامان والاستقرار من خلال بناء دولته . دولة القانون وقيام مؤسسات الدولة المرتكزة على الدستور ، وانجاز البنية التحتية واقتصاد قادر ان يؤمن حاجيات الشعب في التعليم والصحة وغيرها . كانت دول الجوار الغنية واوربا والمغتربين الارترين والبنوك الدولية على استعداد على دعم هذه الدولة الفتية ، كان من المفترض ان ينجز جزء كبير من البنية التحتية خلال العشرة سنوات الاولى من الاستقلال . وبدلا من هذا كال العناد والمكابرة والغطرسة ، كثيرون جاءوا لاقامة مشاريع لكنهم كانوا يواجهون العناد والعرقلة والتهوين ، فإذا احلام الحرية والاستقلال تتحول الى احزان . وعلى المستوى المحلي تراجعت لغة الحوار واستحكمت لغة العنف وبرزت المخالب وطالت الانياب والتهمت السجون اصحاب الرأى تحت ستار المحافظة على الحكم. في احدى امسيات ايام احتفالات العيد العاشر للاستقلال كان حاكم ارتريا يجلس بانفراد مع احد ندمائه غير الارتريين ويتبادلون الاحاديث ، فتفرع بهم الحديث وسأل الضيف حاكم ارتريا : ” انت على خلاف مع مجموعة ال15 وهم رفاقك في النضال لماذا لا تحلوا الخلاف بينكم؟” فقال حاكم ارتريا لا يمكن ذلك فقال الضيف انت تخطئ لماذا لا تعالج الامور معهم؟ فرد حاكم ارتريا انا لا اخطئ فقال له الضيف الانبياء يخطئون فرد حاكم ارتريا الانبياء يخطئون لكن انا لا اخطئ ، فصدم الضيف وعرف انه امام شخصية عنيدة ومكابرة. على اى حكم يحافظون؟ 21 عاما يحكم فيها نظاما بلد قاتل اصحابه ثلاثون عاما يقولون عنها “دولة ارتريا” انها اغرب دولة في هذا العالم ، دولة بلا دستور بلا مؤسسات بلا قوانين وحاكم غير شرعي ، حتى ان الجبهة الشعبية كحزب ليس لها اى مؤسسات ، (النصر للجماهير) كانت خدعة مفيدة للوصول الى الحكم واستخدم شعار الديمقراطية والعدالة كتذكرة سفر باتجاه واحد لممارسة الحكم الفردي. الخرافة التى سموها الاستقرار وهم يحصون انفاس الناس بالامن والمخابرات في حين ان الاستقرار معناه الحقيقي الاتساق مع مبادئ الحرية والعدل وكرامة الانسان. مصائب حلت بالوطن وتركت ورائها حقوق ضائعة وسيادة مجروحة ومهانة وقعت في الانسان الارتري لم يحدث في التاريخ شبيه لها “تجارة البشر وبيع اعضائه البشرية وسجون تلتهم البشر وبعضهم وهم مسجونون تحت الارض لم ترحمهم الطبيعة فتأتي سيول فيموتون غرقا تحت الارض” انها محن واهوال . في بدايات حكمه كان الشارع الارتري يستمع او ينصت لاحاديثه لكن بعد فقدان جزيرة ” حنيش” وبادمى وفشله اقتصاديا واجتماعيا ، اعتبر الشارع الارتري بعد هذا كله ان حديثه ابعد ما يكون عن الواقع كما لو ان هذا الصوت الذي يسمعونه هو خارج الزمن ومن خارج الواقع. ان حاكم ارتريا نجح في تجيش عدد كبير من الارتريين وعين فيه قيادات ، هذا الجيش بدأ يتآكل والمقربون للحاكم من هذه القيادات هى القيادات الاكثر تخلفا ، اطلق يدها وبمرور الزمن فسدت. صنع مؤسسة امنية وهي ظاهرة خطيرة ، ماتت السياسة وأصبح التصرف تصرفا بوليسيا في كل نواحي الحياة ، اجهزة الامن والمخابرات اكبر من الجيش واستبدل امن الوطن بامن النظام . في السياسة الدولية تعامل بنوع من الغطرسة وهو يواجه اثيوبيا انسحب من الاتحاد الافريقي ومن منظمة الايقاد وأغلق سفارته في مقر الاتحاد الاوروبي لكن بعد فترة اعاد فتحها . الاستراتيجي العسكري الالماني ” كلاوز فيتيز” يقول ” ان السياسة هي الحرب بوسيلة اخرى” حاكم ارتريا لا يؤمن بهذه النظرية انه يؤمن بمنطق القوة والهيمنة وعلى الاخرين ان يستجيبوا لمطالبه. هذا الفهم الخاطئ من خلال تدخلاته الاقليمية هو الذي ادخله في مواجهة القوة الدولية نتج عنها الحصار والعقوبات الدولية ، واصبح النظام الارتري معزولا فقط يتنفس عبر الرئة السودانية . ازمة اقتصادية طاحنة يعيشها المواطن الارتري ، العقوبات الدولية تضحك الانظمة الدكتاتاورية ، فمتى كانت احوال الشعوب هما او موضوعا ، لا يعنيهم ذلك. تتحول شيكات الانظمة الدكتاتورية غالبا الى شيكات تجارة السوق السوداء ، وتزدهر عبر عمليات التهريب وغسيل الاموال . حاكم ارتريا يقول انه ليس مدانا للبنوك الدولية ” شاوشيسكو” حاكم رومانيا كان يقول ذلك !. يظل الدكتاتور غارقا في الاعيبه هذه حتى لحظة الكهف او الانبوب كحال القذافي ، العقوبات الدولية نظام قائم على القانون في عالم لا يرقى الى الغاب . هل يستطيع حاكم ارتريا ان يعيش زمان غيره؟ ان هذا النظام لم يعد قادرا ان يتعامل مع العالم ولا عاد العالم قادر للتعامل معه .21 عاما من الحكم بقبضة حديدية ، لكن هذه القبضة بدأت تتراخى ، هناك تململ ، هناك اسئلة حيرى تطرح داخل اروقة النظام ، مرض حاكم ارتريا ليس بخافي على احد ، هناك البعض يسأل لماذا لا يكون هناك نائب للرئيس؟ لماذا لا يعقد مؤتمر للحزب الحاكم آخر مؤتمر كان عام 1994م ، يقول البعض لا بد من عقد مؤتمر للحزب الحاكم لوضع الضوابط حتى لا يفلت زمام الامور من ايديهم. نقول لهؤلاء ان التغيير هو من سنن الحياة ، وان حركة التاريخ لا تتوقف وان التغيير قد يأتي بمفاجأة اخرى غير الذي تفكرون فيه ، استخدم الكاتب الفرنسي الشهير : اندرية موروا” في احدي رواياته تعبيرا يقول ” ان غير المتوقع يحدث دائما” . ان قوانين التغيير وطبائع الاشياء لا تستثني احد ، ان العالم في حالة حراك وليس هناك ثبات ، انها ظاهرة انسانية وتاريخية وعالمية لا تستثني احد . هناك حضارة في الغرب تعرف باسم ” الرئيس السابق” او الرئيس المتقاعد خلافا للرئيس الازلي في زوالات العالم الثالث ، يأتي رئيس بغير انتخاب ويبقى بلا دعوة ويرفض الرحيل الا في الموكب الاخير. هل حاكم ارتريا استثناء مما جرى في المنطقة؟ ان زمن الدكتاتوريات قد ولى رغم انها في زمن مضي كانت جزاءا من المنظومة الدولية. ملس زيناوي كان يمني نفسه لاسقاط الحاكم في ارتريا لكن رحل الى العالم الاخر ، وفي الذاكرة قصة على عبدالله صالح الذي أجبر للتنازل عن الحكم وجسمه يعاني من الحروق، حسني مبارك يتأرجح بين المحكمة والسجن والمستشفى ومعمر القذافي مات موتا شنيعا. يبدو حاكم ارتريا لن يستوعب حركة التاريخ بدقة ويتحسب لها لانه مصاب بالغرور ازاء ما يعتبره من هشاشة النظام في مصر وليبيا واليمن. هذا التباين في الرؤى بين الانتصار والهزيمة والنجاح والفشل تؤدي الى رغبة الحاكم في البقاء، على الرغم من انه يجب ان يرحل ، وعقله مقتنع بضرورة الاستمرار بينما الواقع يفرض عليه ضرورة التوقف فورا عن الحكم. ان ازمة العقل السياسي للحاكم ليست انه يمارس الحكم بشكل خاطئ وهو يعرف في داخل اعماق نفسه انه مخطئ ولكن يمارس الخطأ وهو مؤمن تمام الايمان انه يصنع اعظم خدمة لشعبه ويسطر لامته امجد سطورها في كتابة التاريخ. هذا الامر يسميه اطباء علم النفس خللا عميقا في الادراك وتلك الحالة تؤدي الى تدمير صاحبها وتدمير كل من حوله ، ذلك كله يؤكد ان حجم المشكلة عميق للغاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى