مقالات

قصة لوحة إنسانية وحكاية أسرة مناضلة ! بقلم/ جمال همـــد

24-Feb-2018

عدوليس ـ ملبورن

(1)ككل السادرون والمسرفون في حب الأوطان يذهبون دون ضجيج ، دون ان يلاحظ أحد غيابهم ، يرحلون دون صخب وجلبة كتلك التي يُحدثها الأدعياء في كتاباتهم الفجة. هم صناع التاريخ الحقيقي غير الرسمي. هم / هن المفاصل التي تربط وقائع الأحداث وملحها ، ودونهم لا يكتمل المشهد .. المشهد الذي يريد كُتاب التاريخ الرسمي ان لا يكتمل إلا وفق المرسوم الرسمي وبما يخدم العصبة سواء كانت جماعة أو فرد أو ايدلوجيا.

عندما يتربص الموت بالإنسان من كل جانب أوتحيط به الآلام تتكشف كينونة أخرى كانت كامنة أو خاملة لا تنشط إلا في تلك الأحوال الصعبة.يتشاحنون .. يتهاوشون .. يختصمون .. يدبرون المكائد الصغيرة ويتضاحكون، كأن الموت بعيدا عنهم .. ينظفون اسلحتهم .. يشربون الشاي يتلصلصون على قصص أحبابهم وحبيباتهم .. يصمتون لجلال الموت ثم تتدفق الحياة بين رفاق السلاح في منحدرات الدفاعات، ولسان حالهم يقول : أيها الموت إنتظر خارجا ريثما نشرب شاي الصباح.
(2)
“لم نجلس على مائدة طعام واحدة أو لنقلها باللغة العادية المحببة “لم نلتم على صينية” واحدة ونحن نختلس النظر لقسمات والدنا ، واصابعنا الصغيرة تتسلل بعيدا عن مجالها الحيوي لكي تلتقط قطعة لحمة… لم نعش تحت سقف واحد كما كل عائلات العالم .. لم نتشاحن ونتتشاجر ويمارس الكبير سطوته على أخوانه وأخواته !.
تحملنا الإحتلال الإثيوبي وقسوته وصعب علينا تحمل ظلم ذوي القربي !.”
ورددت أنا بيت الشعر العربي الشهير :
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة ً …. على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّد.وأنقطع التواصل الواتسابي بيني وبين عبدالرازق آدم إدريس، الذي كان يحدق في صورة شقيقه المنحني قليلا ليعطي للجريح الذي يحمله على ظهره وضع أفضل، وصدره مشرع يشق طريقه وسط أحزمة الدخان ورائحة الموت.
(3)
سنوات طويلة ونحن نقرأ اسفار من كتب التاريخ الإريتري .. سير مناضلين وخلافات التنظيمات وإصطراعاتها .. أغرقتنا في تاريخ الخلاف الفصائلي والإندفاع الإيديلوجي الأعمي، والتنظيم القائد الذي يتماهي الكل فيه، تصبُ كل الجهود لصالح إستمراره ، انضمامك لهذا التنظيم أو ذاك يعني ان تصبح جزء من الكل ولا مسافة بينك وبينه كذات وكينونة والكل الواحد الموحد.
ونسينا سيرة الإنسان .. قدرة الإنسان خارج الإطار الحديدي للحزب أو التنظيم أو الحركة، وهذا أضاع علينا تاريخ الإنسان الفرد وقدراته وإبداعه ونبل نضاله وقد ترجم وعيه الفطري بالأرض والإنسان باشكال مختلفة وإبداع خلاق هو ملح الحكاية.
المبدع الفرد خارج الإطار والذي واجه الموت وقابل الحياة دون ان يدير لها ظهر. هذا الإبداع الإنساني والذي تأسس من أجل الحياة والحرية يجب إجراء الحفريات عليه ، وهو الوحيد القادر لأن يقف بشموخ أمام الدعوات العدمية والقنوط السياسي والتصحر الفكري الذي يكان يغلب على الحياة العامة الإريترية.
(4)
لوحات خالدة رسمها الشعب الإريتري طوال سنوات كفاحه من إجل الإنعتاق من الإحتلال الإثيوبي .. هذه اللوحات التي حفظتها الذاكرة الشعبية وأعادت إنتاجها وفق نسق جديد كانت الزاد أيضا لجيل حرب ( 1998ـ 2000).
أسرة صغيرة عادية من سكان حي ( حشلا بلوك ) … مأكلها ومشربها ملبسها ويومياتها ودفتر أحوالها لا يختلف عن كل الأسر الإريترية لا فارقا مميزا بينها والجيران سوى في الشخصي والخاص. وككل الأسر الإريترية في الريف والحضر .. القرى والبلدات تأثرت بالحرب وشاركت بلفذات أكبادها.
الشاب المتقد والخلوق كان أكثر سعادة من الجيل الذي أتى بعده .. فهو يستمع للنشيد الوطني ويلهو دون خوف تحت العلم الوطني ، ولم يكن يدري ما ستأتي به الأقدار.
وجد نفسه وضمن أترابه في معسكر (ساوا )، ثم في قلب الجبهات المشتعلة على طول الحدود الجنوبية.
هو الآن رقم ضمن وحدات الفرقة العسكرية 381 التي ترابط في “مرب سيتيت” ، في وحدة الدبابات والاسلحة الثقيلة.
في السابع عشر من فبراير1999 وغبار المعركة لا يزال يرابط في الإنحاء ولم ينقشع، كان الجميع يسارع بإخلاء الجرحى قبيل حلول الظلام ، قلة سيارات الإخلاء وضعف عمليات الإسعافات الأولية تدفع الجنود وقادتهم في الفرقة التي كانت ترابط في الجهة اليمنى لنهر القاش وتحديد في عدي قري سلاسي، وفي تلك اللحظة الإنسانية وجد الجندي الشاب عبدالقادر آدم إدريس نفسه أمام صديق طفولته حامد صالح حمد جريحا وقد تلقى الإسعاف الأولى وينتظر الإخلاء من أرض المعركة التي يمكن ان تتجدد في كل لحظة فما كان منه إلا ان يحمل لأبعد مسافة ممكن، في محاولة فردية للإخلاء، في تحدي مباشرة للموت الذي يحيط بهم.
“قدورة ” الذي صنع الحياة بعد الله سبحانه وتعالى لصديقة لم يأهبه وهو يعود لرفاقه، لم يفعل فعلا خارقا خارج حدود الفعل الإنساني ، بل مارس إنسانيته في أسمى صورها ومعانيها.
“قدورة” أبن البلد الشهم ألقم جسده الشاب أرض إستشهد بعد ستة أيام فقط من عودته لوحدته ، وذلك في 23 فبراير 1999 وتوسد الثرى الذي من أجله حلق الشهداء الأبرار وتجاوزوا الثريا.
( 5 )
“قدورة ” سليل أسرة مناضلة منذورة الدم لوطن أحبته ، كان قد سبقه شقيقة الأكبر صالح آدم إدريس والذي إلتحق بجبهة التحرير الإريترية 1968م ، ولقب بـ (صالح كراي ) على إسم العم القائد (عمر كراي) وهو من الرعيل الأول ).
صالح المناضل الجسور ناضل في في كتيبة أمن اللواء (77) التي كان يقودها الشهيد القائد حامد زبوي في اللواء الشهير والذي كان آمره الشهيد القائد سعيد صالح . أصيب المناضل الشهيد صالح كراي ، ونقل على إثرها لمستشفى (هواشيت) المركزي واستشهد متأثر بإصابته بتاريخ العاشر من سبتمبر 1980م.
وبين إستشهاد صالح وشقيقة الأصغر “قدورة” كانت الشقيقة المدللة فرجت آدم إدريس الملتحقة بالميدان في مارس 1976 ، تخوض معارك البطولة والشرف مع رفاقها ورفيقاتها صناديد الجيش الشعبي لتعود للجبهة الخلفية وهي تحمل الأوسمة في أنحاء متفرقة من جسدها النحيل ، ومن يكون أكثر الناس معرفة باحوال الجرحى غير الجريح فهى الآن واحدة من ملائكة الرحمة في مستشفى ” قلاس ” العسكري على طريق كرن أغوردات.
هي قصة بطولة حاضرة ومنسية دونتها صورة جندي يحمل رفيقه في مشهد يليق بالإنسان الحقيقي.المجد والخلود لشهداء الثورة الإريترية.
*علي يسار الصورة في الإطار على يسار الصورة / اللوحة الشهيد القائد صالح آدم إدريس .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى