مقالات

أفريقيا وإرتريا، ونحن! …. بقلم: محمد عثمان ابراهيم

26-Jun-2009

المركز

طوال عهد حرب التحرير، لم يعرف عن منظمة الوحدة الأفريقية أنها ناصرت ولو لمرة واحدة إستقلال إرتريا، بل بالعكس كانت المنظمة متوائمة جداً مع ميثاقها الذي جعل من الحدود السياسية الموروثة عن الإستعمار، مسلمة عليه إحترامها والمحافظة عليها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لكن المنظمة التي تعي تماماً إشتراطات بقاء مقرها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، لم تعنى كثيراً بمواثيقها وهي تعترف بالجمهورية الصحراوية (بوليساريو) التي ظلت تسعى للظفر بسيادة ومشروع دولة خارج إطار المملكة المغربية. دخلت البوليساريو إلى تحت مظلة المنظمة وخرج المغرب في نوفمبر 1984، ولم يعد. لسنا بصدد القول عن مشروعية أو لامشروعية كفاح الشعب الصجراوي بقدر ما نحن بصدد طريقة تعاطي المنظمة القارية العاجزة مع مواثيقها ونظمها وأدبياتها.

حين خرج (الإتحاد الأفريقي) مولوداً غير مكتمل النمو من رحم المنظمة في سبتمبر 1999، لم يكن حريصاً على الإبقاء على أخطائه وخطاياه فحسب، بل كان أكثر عزماً وتصميماً وإرادة على السير في نفس آثار خطواته السابقة والمحفورة على رمال العجز والتعاطي السياسي، مع قضايا يمكن أن يتم حسمها -بشكل قاطع- وفق بنود القانون الدولي. أعاد الإتحاد تدوير خطأه في مقاربة أزمة المغرب-البوليساريو، فلم يسع لإستيعاب المغرب ولكن سعى لإبقائه في الخارج، لصالح جبهة البوليساريو، التي وقعت على قرار تأسيس الإتحاد فضمنت لنفسها مقعد المؤسس في الكيان الجديد ، في الوقت الذي بدأت تخسر فيه إعترافات الدول الأجنبية التي كان قد تيسر لها الظفر بها، في فترة العداء بين الرباط والجزائر. الآن ورغم إعتراف الإتحاد الأفريقي فإن السيد/ محمد عبدالعزيز رئيس الجمهورية العربية الصحراوية مثل (عمدة بلا أطيان) يجلس ، بينما شعبه اللاجيء والمعتمد على إعانات الأصدقاء في مخيمات (تندوف) ينتظر تحرك حجر واحد في بركة أصابها الموات منذ 1991، ذات توقيع المملكة المغربية وجبهة البوليساريو على إتفاق لوقف إطلاق النار بينهما.الإتحاد الأفريقي ما زال وفياً لشروط بقاء مقره في إثيوبيا (الحليف الجديد للولايات المتحدة في القرن الأفريقي) ريثما تكتمل سفارة سوبا حيث ستضطر واشنطن إلى نقل متعلقاتها إلى الخرطوم والتحالف مع حكومة الأمر الواقع في السودان. ليست هناك أخلاق في أمريكا، ومن (يجادل) فلينتظر بضعة أعوام فقط!في 20/5/2009 ، عقد المجلس الوزاري للهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) إجتماعاً بالعاصمة الإثيوبية (أديس أبابا) ، بحضور وزير الدولة للخارجية السوداني السماني الوسيلة ، لمناقشة الوضع في الصومال. خرج إجتماع المنظمة بقرارات عديدة حول الوضع المتدهور هناك أهمها القرار رقم 5 الذي يدين منطوقه الحكومة الإرترية، ومن أسماهم بالممولين الذين يواصلون تحريض وتجنيد وتدريب وتمويل ومساندة “العناصر الإجرامية في أو إلى الصومال”، والقرار رقم 6 الذين يدين بشدة حكومة إرتريا (أيضاً)، ويدعو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى فرض عقوبات عليها “دون أدنى تأخير”.وبالرغم من أن إرتريا (التي ما يزال علمها يرفرف في موقع الهيئة على شبكة الإنترنت) قد جمدت عضويتها بالإيقاد ،منذ أبريل 2007، إلا أنها ردت بغضب على ذلك البيان ، ووصفت وزارة الخارجية الإرترية القرار بأنه “قرار غير مسئول من منظمة عاجزة ” تتحمل المسئولية الأساسية عن الأزمة في ذلك البلد. وذكر البيان ” إن غزو إثيوبيا للصومال يخالف الأسس الركينة للقانون الدولي والنظم المتفق عليها، والتي حكمت عمل الدول الأعضاء بخصوص جهود بناء السلام في الصومال” ووصف البيان مساندة الهيئة “للغزو الإثيوبي للصومال” بأنها مستوجبة للإدانة الأخلاقية، وقال إن المنظمة تحولت لتكون أداة لخدمة الإستراتيجية الإثيوبية في المنطقة خصوصاً في العداء ضد إرتريا.بعد يومين عقد مجلس الأمن والسلم التابع للإتحاد الأفريقي إجتماعه رقم 190 بالعاصمة الإثيوبية (كذلك) للنظر في الوضع في الصومال وأصدر بياناً أمن فيه على بيان هيئة إيقاد، ودعا في البند الخامس من قراراته إلى فرض عقوبات على كل الأطراف الأجنبية داخل وخارج الإقليم خصوصاً إرتريا! كان من الأجدى للمجلس التابع للإتحاد الأفريقي لو كان يحترم تبعيته فعلاً لهذا الإتحاد أن يدعو طرابلس إلى إتخاذ قرار قاري ضد إرتريا، بدلاً من القفز بالعمود نحو نيويورك.لابد إن كل الصومال يعرف الأطراف الأجنبية الحقيقية المتورطة في الصراع الصومالي بما فيها دول عربية وأجنبية قوية و(ذات كلمة مسموعة)، لكن الإتحاد الأفريقي لم يجرؤ على النطق باسم أي من تلك الدول والأطراف سوى إرتريا. لم يتأسس قرارا هيئة إيقاد أو الإتحاد الأفريقي على حيثيات لجان لتقصي الحقائق، أو معلومات تم توفيرها للرأي العام بواسطة جهات غير سياسية، كما هي العادة، خصوصاً بالمقارنة مع حجم العقوبات التي سعت إليها المؤسستان الإقليمية والقارية بفرض عقوبات على دولة فقيرة، تترفع عن العون الأجنبي وتحصل على ما يزيد عن 30% من ناتجها القومي الإجمالي من تحويلات أبنائها في الخارج فيما لا يتجاوز إنفاقها الحكومي مبلغ 350 مليون دولار سنوياً بكثير.المفزع في أمر مصادر معلومات الإتحاد الأفريقي إنه يعتمد تصريح أدلى به أحد أطراف النزاع الصومالي، فقد نسبت إذاعة صوت امريكا لمبعوث الإتحاد الأفريقي الخاص للصومال السفير نيكولا بواكيرا الإشارة إلى ” أن الإعتراف العلني للشيخ حسن ضاهر عويس ، الزعيم الصومالي المعارض بأن قواته المتمردة تتلقى الدعم من إرتريا يساند شكوك الإتحاد الأفريقي”!حسناً يفعل الإتحاد الأفريقي بتصديقه للجنرال عويس ، لكن لماذا لا يصدق الإتحاد الأفريقي تصريحات عويس الأخرى وبياناته غير المتصلة بهذا الأمر وأولها نفي تهمة الإرهاب عن جماعته وغير ذلك؟ لا يمكن ذلك فالإتحاد الأفريقي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر.محصت وزارة الخارجية الإرترية بيان الإتحاد الأفريقي المقبل على قمة طرابلس ثم توكلت على الله فوصفت البيان بأنه (مشين) مشيرة إلى أن البيان غير قانوني وغير مسئول وأنه ” صدر في أديس أبابا عن ما يسمى مجلس السلم والأمن التابع للإتحاد ، بناء على إتهامات لا أساس لها ضد إرتريا ،دون تمحيص للحقائق ودون إستشارة الرئيس الحالي للإتحاد” وقالت الوزارة إن صدور هذا البيان ليس عملاً معزولاً، وإنما هو تعبير عن عجز أساسي في بنية هذا الإتحاد، ظل يعيق عمله منذ إنشائه. خلاصة الأمر أن إرتريا رفضت البيان بحجة أنه لا يمثل إرادة الإتحاد الأفريقي في تلميح واضح للدور الإثيوبي فيه.على كل لم تكشف بيانات وزارة الخارجية جديداً كانت تخبئه أسمرا بخصوص الموقف إزاء المنظمة الإقليمية فقد صرح الرئيس اسياس أفورقي لقناة الجزيرة (16/4/2009) أن “هذه المنظمات الإقليمية ..منظمات أخرى إقليمية نعرفها أصبحت مخترقة.. منظمات أصبحت مجرد مظلة تعطي غطاء للتدخلات الخارجية أو اتخاذ قرارات جائرة في حقوق الشعوب في هذه المنطقة وأحيانا تصبح سبب لزعزعة الأمن في هذه المنطقة ” أما بالنسبة للمنظمة القارية فقد اكتفى أفورقي بالقول “لا تعليق على هذا الموضوع الاتحاد الإفريقي معروف وظاهر وباين لكل مَن يتابع التطورات لا يمكن… للأسف الشديد نحن جزء من هذه المنظمة وللأسف الشديد مرة أخرى نحن جزء من هذه المنظمة”.هكذا تخطيء أفريقيا مرة أخرى في تعاملها مع إرتريا فكثير من دول القارة مرتهنة إرادة زعمائها للولايات المتحدة وبالتالي لإثيوبيا التي تحتفي هذه الأيام (بدور مؤقت) كوكيل سياسي وعسكري لواشنطن في القرن الأفريقي.إرتريا ،الدولة الصغيرة، ليست عاجزة ولديها أدواتها التي تمكنها من الصراع المتقن مع العمالقة في الإقليم وخارجه، مثلها في ذلك مثل الدول الصغيرة الحجم والقليلة الموارد التي تشعر بالخطر. لا نريد أن نشتط في إيراد أمثلة قد لا تلائم الوضع تماماً لكنا ندرك أن بقاء كوريا الشمالية المحاصرة باليابان والصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة (أقوى لاعب عسكري في منطقة جنوب آسيا والباسفيك) تعتمد على أدوات قليلة لكنها فاعلة. يعرف الخبراء أن الشعب الكوري (الشمالي) يعيش مجاعة حقيقية فيما يتوسد زعماؤه مفاتيح صواريخ باليستية يمكنها أن تحيل المنطقة كلها إلى حمم، ولا أحد يريد ذلك. هكذا تستثمر شركات كوريا الجنوبية (العدو الأول) مليارات الدولارات في أرض العدو في مشاريع لا تجني من ورائها ربحاً مادياً كبيراً لكنها إستراتيجية بالنسبة لها (مصانع شركة هيونداى مثالاً). في كل مرة تستخدم كوريا الشمالية ما بات يعرف بإسم (دبلوماسية الصواريخ الباليستية) أو بالأحرى (دبلوماسية التجارب النووية) لتحصل على مكاسب مادية من الدول الغنية حولها، لكنها لا تفعل ذلك بجنون فنظامها يريد لدولته البقاء ولا يريد الإنتحار.لا يمكن ان نذكر كوريا الشمالية دون أن نمر على ذكر إسرائيل. كلا الدولتان وإرتريا تتشابه في عدد من العوامل التي تملي عليها إستراتيجياتها ويمكن ذكر هذه العوامل إجمالاً كما يلي:قلة عدد السكان وضعف الموارد الطبيعية. جيوش ذات قوة بشرية هائلة (يقدر عدد المواطنين الإرتريين القابلين للخدمة العسكرية بما يزيد عن مليون ونصف المليون جندي جندي فيما يصل إلى سن الجندية ما يزيد عن المائة وخمسة وعشرون ألف مواطن سنوياً)- المعلومات بتصرف من موقع جهاز المخابرات الأمريكية على شبكة الإنترنت. حداثة النشأة والتكوين (نشأت إرتريا كدولة لأول مرة منذ أقل من 20 سنةالشعور بالخطر الذي يتهدد الوجود والهوية الوطنية ففي حالة الإعتداء على أي من الدول الثلاث وغيرها من ذوات الظروف المشابهة بطبيعة الحال، يمكن ان تستشعر الدولة والأمة أن هذا الإعتداء يهدد وجودها، ويمكن أن يهدم نواميس بقائها. فأي إعتداء على كوريا الشمالية هو إعتداء سيستهدف بالضرورة تدمير نظامها السياسي وترسانتها العسكرية ويعيدها إلى الوحدة قسراً مع جارتها الجنوبية. وبالنسبة لإسرائيل فلا يخفى أن أي تهديد عسكري عليها هو تهديد يستهدف محوها من الوجود كما تقول الأدبيات العلنية لجيرانها القريبين وأعدائها البعيدين على حد سواء. بالنسبة لإرتريا التي لم تستمع بعقدين من التكوّن فإن أي اعتداء سينظر إليه بشكل جدي وستجند الدولة كافة قدراتها لردعه. القدرة على البقاء في حالة حرب لأطول فترة ممكنة فلدى إرتريا الدولة ذات الطبيعة العسكرية قدرة كبيرة من هذا النوع مستفيدة من تضاريسها الجغرافية القاسية وقلة المنشآت الإستراتيجية التي يمكن أن تستنزف إقتصادها. فالبلاد صغيرة الحجم وليست فيها منشآت صناعية أو ما شابه بالحجم الضخم الذي قد تصعب معه، حمايتها بالطرق التقليدية، أو إعادة بنائها حال تدميرها لا قدر الله. بمعنى آخر ليس في إرتريا منشآت تضارع أهمية السد العالي مثلاً، وهي المنشأة التي تقوم مصر بحمايتها بالطرق التقليدية وبأساليب سياسية وإستراتيجية مثل تفادي التوتر الذي قد يضطر عدواً إلى تهديدها وغير ذلك. وقد شهدنا في حرب نهاية التسعينات بين إرتريا وإثيوبيا كيف إن سلاح الطيران الإرتري الصغير الحجم، كان يركز ضرباته على المنشآت الصناعية والإستراتيجية في مدينة مقلي وإقليم تقراي تحديداً لتحقيق أكبر ضغط ممكن على الحكومة في أديس أبابا.صغر الحجم الجغرافي مما يضطر إرتريا للقيام بعمليات عسكرية خارج نطاق حدودها لتفادي الضربات التي يمكن أن توجه إلى داخلها، وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى هجوم القوات الإرترية في يونيو من العام الماضي على جيبوتي إثر قيام إثيوبيا بوضع قوات لها في منطقة “رأس دميرة” على الحدود المشتركة بين إرتريا وجيبوتي. وكان وزير الخارجية الإرتري عثمان صالح قد أعلن بوضوح إن ليست لبلاده مشكلة مع جيبوتي وإن حربها موجهة نحو إثيوبيا (الشرق الأوسط 5/7/2008).إرتريا لديها حدود تتجاوز الستمائة كيلومتر مع السودان وتعتبر آمنة نسبياً، فيما لديها ما يزيد عن التسعمائة كيلومتر ملتهبة أو مرشحة في أي وقت للإلتهاب مع جارتها إثيوبيا. تتبع إرتريا في حربها مع إثيوبيا عدة إستراتيجيات منها البقاء على أهبة الإستعداد داخل الحدود، وتهديد الوضع الداخلي للجارة الكبرى عبر إستخدام أساليب مخابراتية لا تخفى، ومحاولة تطويق الحراك السياسي والعسكري لإثيوبيا في الإقليم على نحو شبيه بالذي تنفذه –بنجاح- سوريا ضد الولايات المتحدة في العراق، والبقاء على صلات جيدة مع دول الجوار الأخرى ومنها السودان (اللاعب الأكثر أهمية في حرب وسلام القرن الأفريقي). بالطبع تخسر إرتريا كثيراً مقابل دفع مستحقات هذه الإستراتيجية سواء على صعيد التطور السياسي أو الإقتصادي أو التنموي، أو على صعيد بسط حريات المواطنين والإلتزام بمعايير أعلى لحقوق الإنسان، لكنها بين طرفي الرحي مضطرة للميل على أحد جانبيها.إلتفتت أسمرا منذ البداية إلى أهمية الساحة الصومالية في حربها ضد إثيوبيا، فتدخل إرتريا هناك ليس نزوة تفرضها الطبيعة العسكرية لنظامها السياسي وإنما أمر هام لمحاربة النفوذ الإثيوبي. فمثلما أدى تدخل دمشق في الساحة العراقية إلى إصابة المخطط الأمريكي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير في مقتل، ووفر الحماية للأراضي السورية من تدخل أمريكي إسرائيلي كان البعض يحسبه وشيكاً، تؤدي فعالية التدخل الإرتري في الصومال إلى خلط كبير لأوراق واشنطن وأديس أبابا في المنطقة. ببساطة تلعب اسمرا ورقة أن لا حل في الصومال دون تقديم ضمانات كافية لها.إذن فإن إتهام الفصائل الصومالية وحكومة شريف شيخ أحمد الجديدة لأسمرا بالتدخل ليس رجماً بالغيب، فالعالم كله يعرف كيف كان قادة المعارضة الصومالية يقضون أيامهم في بهو فندقي أمباسويرا وحماسين في العاصمة الإرترية. وكيف أن إرتريا أنقذت الشيخ حسن ضاهر عويس بطائرة خاصة من أرض الصومال، حين بلغت قلوب المحاكم الإسلامية، حينذاك، الحناجر. تقول مصادر على إطلاع معقول على أوضاع الفصائل الصومالية المتحاربة إن خلافات المعارضة الصومالية ومن ثم إنقسامها على نفسها بين تياري جيبوتي وأسمرا كانت مرتبطة بخلافات مالية وبالخلاف مع الأجهزة الأرترية حول طرق صرف أموال تبرعت بها أنظمة أخرى لصالح المعارضة الصومالية عبر إرتريا. أشاح شريف شيخ أحمد البراغماتي الصميم بوجهه عن أسمرا ثم غادر عمر إيمان والجنرال عويس مرابطهم هناك، لكن إرتريا لن تعدم قطعاً من يتحالفون معها في مقديشو.إرتريا الصغيرة ظلت تتدخل بشكل محسوب بدقة في الشأن السوداني فهي تريد الإحتفاظ بعلاقة طيبة مع النظام ومع الشعب في آن واحد. وهي تريد الإحتفاظ بعلاقة جيدة مع شمال السودان وجنوبه تحسباً لما تحمله مقبلات الأيام من وحدة أو إنفصال. وتريد البقاء على مسافة واحدة من القوى السياسية السودانية موالية ومعارضة. بلغ التدخل الإرتري في الشأن السوداني مداه في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي ثم تراجع ذلك التدخل لصالح تحييد حكومة الخرطوم أو كسبها ضد الخصم الأكثر خطورة في الهضبة الإثيوبية.الوضع الآن أكثر من مواتٍ لعلاقات ممتازة بين البلدين وبشكل آخر بين النظامين فلدى إرتريا ما تقدمه من مساعدة لحل أزمة دارفور ويمكن دفعها للمساهمة بنصيب وافر في قوات اليوناميد بدلاً كثير من الدول ضعيفة الصلة بالسودان وشعبه، هذا على سبيل المثال فقط.التعامل مع النظام الإرتري الحالي أكثر سهولة فقادة هذا النظام واضحون في أن علاقاتهم الخارجية وتعاونهم في الفضاء الدولي، محكومان بتقلبات صراعهم مع إثيوبيا وهو الصراع الذي لا تكف إرتريا عن الجهر بأنه (صراع وجود لا صراع حدود). إرتريا ليست بحاجة في الوقت الحاضر لأكثر من علاقة تثق بها وتأوى إليها مع الجار السوداني وبغض النظر عن الروابط التأريخية والعواطف فإن النظام الأرتري بطبيعة قادته الذين يجهرون في العادة بأفكارهم ويتحدثون بوضوح عنها، لديه مصلحة اساسية في تأمين حدوده مع السودان وتأمين ظهره من الخرطوم في المحافل الدبلوماسية الدولية إضافة إلى حاجته إلى تعاون إقتصادي ينعش المصالح بين شعبي البلدين.وبالنسبة للسودان فإن حاجته لشكل علاقة آمنة ومثمرة مع إرتريا لا تخفى، فقد كانت أسمرا هي أول عاصمة يزورها الرئيس البشير(في خطوة بالغة الدلالة) كانت تحمل وقوف أسمرا بقوة ضد مذكرة محكمة الجنايات الدولية. في هذا الأمر قدمت أسمرا السبت وهي –لامحالة- بانتظار أن تجد الأحد، فهذا أمر غير خاضع للعواطف. السودان بحاجة إلى إنعاش تجارة الحدود بين ولاية كسلا وإقليم القاش بركة فالحكومة المركزية، هنا، تدرك قطعاً إن إنتعاش الأوضاع الإقتصادية في كسلا مرتبط بإنتعاش تجارة الحدود مع إرتريا، وإلا فإن الإقتصاد غير الرسمي (التهريب) وإستيراد أو تصدير البضائع غير المسموح بها، من دخان وكحول وسلاح وربما مخدرات إضافة إلى إناث البهائم سيظل سيد الموقف، لأن من يقوم بالتهريب إن تيسر له ذلك، سيبحث عن بضاعة ذات ربح أكبر فلعله لا يستطيع القيام بتكرار عملية التهريب في المرة القادمة. الحل هو في فتح الأسواق لتجارة طبيعية وعلنية بين البلدين تقوم على التبادل السلعي بشكل كبير يحقق الربح للطرفين ويغني كلاهما عن ورود المخاطر والنهل منها والعلل.تمر العلاقات بين إرتريا وحكومة الجنوب بأزمة مكتومة أكبر من تصريحات الرئيس إسياس أفورقي الأخيرة عن الوضع في جنوب السودان وتفشي الفساد. فحكومة الجنوب وثقت من عري علاقاتها مع أديس أبابا ووسعت من صلاتها التجارية الإقتصادية والسياسية معها، فيما فتحت أسواقها للعمالة الإثيوبية في وقت كانت إرتريا تأمل فيه من تحقيق مكاسب على هذا الصعيد. لكن حكومة الجنوب غير مخطئة ، في الواقع، فهي كذلك تتصرف وفق مصالحها الإقتصادية والجيوسياسية.لا تستطيع أثيوبيا خسارة السودان مع تزايد اعبائها في الإقليم خصوصاً بعد قرار الإتحاد الأفريقي الأخير بمشروعية قيام حكومة مقديشو بإستقدام قوات أجنبية إلى أراضيها وهو ما يرشح حكومة ملس زيناوي لتورط أكبر في الصومال. مهدت إثيوبيا لذك بالتوصل إلى إتفاق لترسيم حدودها مع السودان وأعادت (أو ستعيد) حوالي 1600 كيلومتراً مربعاً متنازعاً عليها إلى حكومة الخرطوم (حسب مصادر إعلامية إثيوبية معارضة). لا تستطيع إثيوبيا المغامرة بعلاقاتها الجيدة مع السودان وإلا فإنها ستخسر دورها في الصومال مما قد يحجب عنها الإعانات والمساعدات الدولية في وقت يجابه فيه الملايين من مواطنيها ظروفاً معيشية عصيبة. اي غياب لهذه المساعدات والإعانات الدولية سيجعل حكومة ملس زيناوي المستقرة نسبياً في مواجهة مع شعبها وهي مواجهة ستكون لها إذا حدثت مخاطر كبيرة على بقاء إثيوبيا كدولة موحدة مع تصاعد حالة التململ والغبن الإثني من سلطة قومية التقراي.للأسف لم تتصرف الحكومات السودانية بالحكمة اللازمة إزاء العلاقات مع إثيوبيا التاريخية وإرتريا لاحقاً، وأوكلت التعاطي والأمر والنهي في هذين الملفين لرجال الصف الثاني من دبلوماسييها وعسكرييها فيما يرتبط الأمن القومي السوداني بهذين البلدين بشكل اساسي ولو كانت الأمور جيدة مع هذين البلدين لما سارت الحروب الأهلية الكبرى التي إستنزفت البلاد وقعدت بها طويلاً، على النحو الذي سارت عليه.من يريد أن يستقي الحكمة فلينظر إلى كيف استفادت الكونغو (كابيلا) من علاقتها بأنجولا، وكيف استفادت الكونغو (ساسونغيسو) من علاقتها بالغابون.لعل المثال الأكثر سطوعاً عن تخبط العلاقة مع إثيوبيا وعدم قيامها من ناحية السودان على أساس إستراتيجي هو توقيع البلدين على محضر إتفاق للتعاون لمدة ثلاث سنوات فالسودان هو واحد من أكبر عشرة شركاء تجاريين لإثيوبيا (وزير التعاون الدولي د. التجاني صالح فضيل لوكالة الأنباء الإثيوبية 13/6/2009) التي تحصل (بالفعل) على 70% من حاجتها للوقود من السودان إضافة إلى خدمات الموانيء السودانية وتجارة الحدود ، وبالتالي فليست هناك ثمة حاجة لتوقيع إتفاقية تعاون إستراتيجي بين البلدين وإن هذا التوقيع لا يضيف مصلحة ملموسة للسودان، وفق المعطيات الظاهرة، لكنه يحقق لإثيوبيا كسباً سياسياً ودبلوماسياً خصوصاً مع التململ الذي يبديه غير حزب إثيوبي معارض من تطور العلاقات بين البلدين.على الصعيد غير الإقتصادي ، نشرت صحيفة (الرأي العام 18/6/2009) ” أن السودان وإثيوبيا وقعا.. بروتوكولاً للتعاون العسكري وتأمين الحدود بين البلدين، حيث وقع عن الجانب السوداني الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع وعن الجانب الإثيوبي سراج فقيسا وزير الدفاع ونص الإتفاق على ضرورة العمل والتعاون بين البلدين خلال السنوات الثلاث المقبلة في مجالات تخدم مصالح القوات المسلحة في البلدين إلخ..). بالطبع إتفاق كهذا لا يمكن أن يوقعه إلا الفريق أول حسين الذي ما تولى منصباً وزارياً إلا وقلنا ليته احتفظ بالمنصب وجلس في بيته، إذ يصعب رصد إنجاز واحد للرجل الذي ظل في دهاليز السلطة طوال العشرين عاماً الماضية، مقابل الخطايا. لن نمضي أكثر هنا لكن توقيع إتفاق عسكري مع طرف في حالة حرب ضد طرف آخر هو –لا شك-عمل يفتقر إلى الحكمة، فما بالك إذا كان هذا الطرف يدور في فلك مختلف ولديه مصالح مختلفة.إن الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في الحالة الراهنة للعلاقات السودانية الإرترية لمصلحة الشعبين. لن يتأتى هذا إلا بتكليف رجال الصف الأول من الساسة والدبلوماسيين، وإلا فإن السودان سيظل يبحث في إنشاء خط سكة حديد بين بورتسودان وداكار التي تخذل السودان في المحافل الدولية وفي سبل تحسين العلاقات مع لاوس والبرازيل في الوقت الذي يتجاهل فيه تحسين العلاقات مع جيرانه وفق معادلات سيكون هو الكاسب الأكبر فيها.moibrahim@aol.com.au نقلاً عن صحيفة الأحداث 25/6/2009م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى