مقالات

حديث الذكريات والمذكرات ( الحلقة الخامسة ) : بقلم / محمد سعيد ناود

14-Mar-2007

المركز

وضمن سجلات ( سالي ) يوميات قبطانها ( هوبكنز ) وهو يكتبها بالتفصيل لتكون في علم المساهمين عندما يتحاسب معهم على حصيلة أرباح رحلته : ( قدمت لشيخ القبيلة ” جالون ” من ” مشروب ” الروم مقابل عبدة فتاة ” ، ودفعت سبع جنيهات لشراء صبي ، اشتريت خمس عبيد صالحين للعمل هذا اليوم بعد الظهر مقابل بصل وسكر وروم للجلاب وهو نوع من الكحول القوية .. حمولتنا الآن 196عبدا ، واحدة من العبيد قامت بشنق نفسها ، ثلاث من العبيد قفزوا إلى البحر ولم نستطيع إنقاذهم من الغرق ، وقررنا حبس الباقين في العنبر أسفل السفينة والذي كنا نخصصه ” لبقرتين معنا ” . وربطنا الأسرى بالحبال .. الحمولة الآن كاملة العدد وزيادة .. وسوف نبدأ رحلة العودة نحو الكاريبي غدا ) .

وفي سجلات ( فرجينيا ) و ( نيو انجلند ) و ( ما سا شو ستس ) وفي ذلك الوقت ( أول القرن الثامن عشر ) أربعمائة شركة تعمل في تجارة العبيد تمتلك حوالي 1200 سفينة ، غير مئات الشركات ومئات السفن تعمل من أوروبا . وفي عام 1800م ومع بداية القرن التاسع عشر ـ أي بعد قرن كامل من تأسيس الشركات المساهمة المتاجرة في العبيد ـ سواء تلك التي عملت من أمريكا أو التي تعاملت معها من أوروبا ومن شواطىء إفريقيا ـ وصل عدد العبيد الذين حملتهم السفن عبر المحيط إلى ثلاثين مليونا من البشر ـ من الأرواح ، هذا عدا العدد غير المعروف وهو يقدر بالملايين ماتوا داخل السفن وألقيت جثثهم في المحيط حتى تصبح طعاما للحيتان . وينقل كاتب الفصل الخاص بالعبيد في كتاب ( العملاق ) عن كتاب آخر سبقه ، صفحة كاملة وجدها أكثر دقة وأمانة في التعبير ، والكتاب السابق عنوانه ” دور العبودية في نمو مستعمرة ” ولاية ” نيو انجلند في حركات النمو ” . وفي الصفحة 254 يورد مايلي بالنص : ( عام 1770م كانت مستعمرة ” ولاية ” نيو انجلند ، أغنى مناطق أمريكا وقد كانت بالفعل قصة نجاح رائع ، وطاقة في الإنتاج لا مثيل لها ، وكان محرك النمو هو العبيد الذين كانوا العنصر الفاعل على الأرض وفي المصانع ، والترس الدوار في عجلة التجارة والتصدير إلى أوروبا وغيرها ، كان العبيد أساس الزراعة ، وعماد الصناعات القائمة عليها مثل السكر والتبغ ، وغير ذلك من المنتجات الأخرى ) . وتختم الصفحة المستعارة من كتاب سابق قائلة : ” باختصار كانت العبودية هي المولد الأكبر للثورة الزراعية والصناعية والتجارية ، وبرغم أن عدد تجار العبيد في نيو انجلند لم يكن كبيرا ، فان كل التجارة اعتمدت إلى آخر حد على عبيدهم . ثم بدأت الأصوات ترتفع بـ ” لا إنسانية تجارة العبيد ” عندما ظهرت قوة التجارة ـ بعدها وليس قبلها ـ فتلك طاقة أقوى من عضلات العبيد مئات المرات ، وبحركاتها لا تحتاج إلى وجبات طعام أو حظائر نوم ، أو حراسة ليل نهار تضمن أن لا يهرب العبد أو ينتحر ( وكانت نسبة الهرب أو الانتحار أعلى بين النساء منها بين الرجال ) . ويبدو انه في تلك الفترة ظهرت وانتشرت أدبيات واسعة تعارض تحرير العبيد أو تقييد ” التجارة في الأرواح ” وكانت الحجج الأكثر ترددا وتكرارا : ( إن استعمال البخار ليس له أن ينهي دور العبيد في الإنتاج ، فهذه وسيلة ، وتلك وسيلة ، وكلتا الوسيلتين تؤديان دورا يتكامل ولا يتعارض مع الأخرى . وإذا أوقف التجار الأمريكيون تجارتهم في العبيد فان غيرهم من جنسيات أخرى يحصلون على الفائدة والأرباح. والقيود على تجارة العبيد سوف تكون وبالا على هذه الأرواح التي لا تعرف ماذا تفعل أو كيف تعيش إذا رفع ” السيد ” يده عن ” التجارة ” فيها . إن السلطات لا يصح لها أن تتدخل في حرية التجارة بأي شكل من الأشكال ، لأن ذلك يتعارض مع الفكرة الرئيسية التي قامت عليها أمريكا ـ وهي الحرية ـ حتى من القانون ( وضمن حجج المنطق انه لا يصح لأحد أن ينسى أن ضيق أفق القانون كان مشكلة المشاكل في العالم القديم ) . هذا الكلام المسجل بالصفحات أعلاه مكتوب بأقلام أمريكية وهو لا يحتاج إلى إضافة أو تعليق من عندي ، كما إن أفلام هوليوود عن الهنود الحمر وما لحق بهم من أذى ودمار على يد الرجل الأبيض يعتبر شهادة أخرى للتاريخ على قساوة الرجل الأبيض الذي لا يعرف إلا مصلحته البحتة ودون الالتفات لقيم الرأفة والرحمة والمثل والأخلاق وتعاليم الأديان . ودون الاسترسال في التفاصيل فان الرجل الأبيض لجأ بعد ذلك ووفق مصلحته إلى الاستعمار التقليدي الذي عم القارات والمحيطات والبحار حيث استغل الإنسان في هذه الأجزاء ، وبعدئذٍٍ أشعل الحرب العالمية الأولى فيما بينه ، وكانت بعد ذلك الحرب العالمية الثانية والتي زج فيها بشعوب المستعمرات وجعلهم وقودا لحروبه . وثالثة الأثافي كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي والتي لم تسلم من أضرارها شعوب العالم قاطبة . وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة فان أمريكا أصبحت رائدة وزعيمة للعالم الغربي ، فدفعت بمشروع ” مارشال ” لإعادة بناء أوروبا من آثار الحرب والدفع بها إلى النهوض الاقتصادي . أما بالنسبة لشعوب العالم الثالث فقد أبرزت إلى الوجود بالبنك الدولي وبصندوق النقد الدولي تحت غطاء التنمية . إلا أننا لم نسمع بأي من الدول التي لجأت إلى هاتين المؤسستين بأنها تمكنت من الانتعاش الاقتصادي . وعلى العكس من ذلك فقد كبلت بديون باهظة من القروض وفوائدها وإعادة جدولة الديون . وان من وقع في حبائل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من دول العالم الثالث فأنها لم تستطع الفكاك منه ولم تتمكن من تحقيق أي نمو اقتصادي ، بل أدى بها إلى حالة شبيهة بالإفلاس بل وان سيادتها أصبحت مرهونة للدائنين . ولا أدعي معرفة الأساليب الاقتصادية الماكرة التي يلجأ إليها البنك الدولي وصندوقه لتحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية على حد سواء . ولكنه يذكرني دوما برواية وليم شكسبير عن ( تاجر البندقية ) وتحكى عن التاجر اليهودي المرابي والتي قرأناها ونالت إعجابنا كطلاب في المرحلة الوسطى ، وكرهت في نفوسنا ذلك التاجر اليهودي المرابي والذي أصر على اقتطاع رطل من اللحم من جسم احد اللذين استدانوا منه مبلغا من المال وفشل في رده في الوقت المحدد ، وذلك بناء على شروطه المجحفة لمن يستدين منه . والمعروف عن إخواننا الليبيين هوايتهم للتعريب ، ولذا وعندما سمعت ـ والعهدة على الراوي ـ بأنهم اعتبروا شكسبير عربي الجنسية والأصل وأطلقوا عليه تسمية ( شيخ الزبير ) فقد ظللت أتساءل ، هل يا ترى كان السبب روايته ( تاجر البندقية ) عن التاجر اليهودي المرابي ؟ ما علينا ، إذا كنت مخطئا عما قلته عن البنك الدولي وصندوقه فأرجو أن أجد من يقوم بتصويبي ويذكر لي دولة من دول العالم الثالث نهضت وازدهرت اقتصاديا بواسطة الدعم والقروض التي قدمها لها البنك الدولي وصندوقه . والصفحة الأخيرة من الأحداث الهامة التي أعيشها ويعيشها معي الجميع بمن فيهم من يقرأ هذه المذكرات هي عن ( العصر الأمريكي ) ، وهي سيادة القطب الأوحد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي السابق ، وهو ” العولمة ” وما أدراك ما العولمة . في هذا العصر وفي بدايته بدأنا نشاهد نتائج الاستعمار التقليدي على شعوب العالم الثالث وعندما فرض الاستعمار الدمار الاقتصادي والأنظمة السياسية الفاسدة وأذاق هذه الشعوب الويلات ، وبدأت قطاعات من العناصر الشابة من تلك الشعوب تطمح بالزحف إلى أوروبا وأمريكا لكي تكتسب لقمة العيش الشريف ، والحكومات الاستعمارية التي مارست تجارة العبيد والنهب الاقتصادي لخيرات تلك الشعوب ولقرون عديدة فإنها بدأت اليوم تضع الحواجز لمنع إنسان العالم الثالث من التسلل إليها وكأنها وباء خطير ، وشاهدنا الدول الأوربية وفي شواطئها الجنوبية بالبحر الأبيض المتوسط وفي جزرها تنشر سفن الحراسة لمراقبة هؤلاء القادمين ومنعهم من الوصول إلى شواطئها وهؤلاء البؤساء من شباب العالم الثالث منهم من يضيع في الصحراء ويدفن في رمالها جوعا وعطشا ، ومن يصل إلى شواطىء البحر الأبيض المتوسط الجنوبية وفي محاولاته للوصول إلى أوروبا يكون مصير الكثيرين منهم الغرق حيث تبتلعه أمواج البحر ليكون طعاما لأسماك البحر . أما من يتمكن من الوصول إلى اليابسة بجنوب أوروبا فيساق إلى المعسكرات تمهيدا لطرده ، وتسعى الحكومات الأوربية للوصول إلى اتفاقيات مع حكومات غرب وشمال أفريقيا لمنع وصول هذا ( الوباء ) إليها أي المهاجرين وسميهم كما تشاء . وليس الأمر قاصرا على أوروبا ، فهناك أمريكا وفي شواطئها على المحيطين الأطلسي والباسفيكي تجوبه الحراسات والبواخر لمنع المتسللين إليها . وفي الآونة الأخيرة وفي عام 2006م فان الرئيس الأمريكي جورج بوش وقع على قرار بإقامة حائط طوله أكثر من ألف كيلو متر بين المكسيك والحدود الأمريكية لمنع المتسللين ، كما يقولون ، وسواء كان المتسللين إلى أوروبا أو أمريكا فهم أبناء مستعمراتهم السابقة الذين لا يأتون إلا من اجل لقمة العيش أو الهروب من الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة التي زرعها وقام برعايتها هؤلاء المستعمرين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى