مقالات

صباح الخير افورقي ، بقلم سيد أحمد خليفة *

29-Aug-2005

صحيفة الوطن

صحيفة الوطن
أبرز من عض الأيادي التي أطعمته داخليا.. وخارجياً رجل شاذ في سلطته … قاس في تسلطه … وجاحد ومغرور التسامح السوداني والتفريط العربي والرجل الباطش .. هذا هو واقع الحال .

هذا حاكم غريب .. وذاك حكم اغرب في بلد عاش الحكم فيه لأكثر من نصف قرن من الزمان حملت خلاله الأجيال هم العمل الوطني التحرري بجوانبه السياسية ، السري منها والعلني ، السلمي منها والعسكري ، حيث قدم الشعب الإرتري باقل تقدير (300) ألف شهيد فضلاً عن مئات اللالاف من الجرحى بجانب إجبار نصف الشعب الإرتري وعبر نصف القرن المذكور الى النزوح سواء من الداخل الى الداخل أو من الداخل الى الخارج !!! لقد كان السودان وكما يشهد الجميع ـ هو الملاذ الأول لالآف اللاجئين الذين كانت ولاتزال تربطهم بالسودان وشائج منها وفي مقدمتها الترحيب السوداني الودود الحميم ، وحسن الضيافة وإقتسام معينات الحياة من طعام ومواصلات وصحة وتعليم وأمن ، مع الشقيق الإرتري الذي واجه محنة الإحتلال الإثيوبي البالغ القسوة .إن الحديث هنا عن حاكم غريب ووجه الغرابة فيه كعقلية حاكمة أنه ممعن في القسوة والديكتاتورية والتسلط ، بل وحاكم سيئ العلاقات مع شعبه وجيرانه لدرجة أنه أشهر حاكم افريقي أو في العالم الثالث كله إستطاع ان يقتل تماماً حلم شعبه في مهده وجنى ثمار كفاحه الطويل والشاق .ولد اسياس أفورقي في مستهل الخمسينيات وكان الكفاح يخطو أولى خطواته نحو المجابهة القانونية الدولية ضد المبراطورية الإثيوبية بقيادة الإمبرطور هيلي سلاسي ، حيث كان رحيل الإستعمار الإيطالي من المستعمرات في شرق وشمال افريقيا يعني منح إرتريا إستقلالها التام كواحدة من المستعمرات الإيطالية في كل من جنوب الصومال وإرتريا وليبيا ..صدر القرار الدولي بمنح إرتريا هذا الحق عقب الحرب العالمية وهزيمة دول المحور ـ أيطاليا ـ المانيا ـ إلا أن الأمبرطور هيلى سلاسي المدرك لقيمة وأهمية إرتريا على البحر الأحمر تمسك بإرتريا ضمن إمبرطوريته حيث طرح أنذاك ـ وأفورقي طفل يحبو ـ الحكم الفيدرالي الذي سرعان ما ألغاه في مستهل الستينيات بقرار زائف صدر عن البرلمان الفيدرالي أو الولائي الإرتري ، وهو قرار قاومه الإرتريون سلمياً من خلال تنظيمين ناميين هما حركة تحرير إرتريا وجبهة تحرير إرتريا . بدايات عسكرية متواضعة : كانت جبهة التحرير الإرترية قد نشطت في المجالات العسكرية من خلال بدايات عسكرية متواضعة قادها الشهيد حامد إدريس عواتي بينما ظلت حركة تحرير إرتريا ذات الصلة باليسار السوداني والدولي تقود وتدعو للكفاح المدني ، وإلى تنظيم الجماهير في المدن لكى تقاوم الإحتلال والإستعمار الإثيوبي عبر كفاح سياسي يقود في النهاية حسب تقدير اليسار الإرتري الصغير نسبياً مقارنة بجبهة التحرير الإرترية الى ذات الأهداف .كان الطفل ثم الشاب اسياس افورقي ينمو ويعيش وسط ذلك المناخ ، حيث لايعرف أحد حتى يومنا هذا أن لوالده المسيحي أو امه المسيحية دور وطنى أو سياسي إلا أن الطالب اسياس أفورقي ذهب الى عاصمة الدول الإستعمارية أديس ابابا ، وقطع تعليمه الجامعي والتحق بوظيفة ـ تايم كيبر ـ أو كاتب وقت بالقاعدة الأمريكية العسكرية ( كانيو إستيشن ) في أسمرا ليهرب منها ، أو يهرب فيما بعد حيث إلتحق الشاب افورقي بإحدى المجموعات الفدائية في المرتفعات الإرترية ذات الأغلبية المسيحية ، بينما يعرف عن المنخفضات الإرترية التي كانت تغلي وتعج بالثورة والتمرد على الإستعمار بأنها ذات أغلبية إسلامية .كانت القيادات الإرترية التاريخية قد بدأت التحرك والعمل النضالي والفدائي على ثلاث أصعدة :•العمل السياسي والتنظيمي الداخلي .•العمل العسكري عبر خلايا ووحدات ضاربة صغيرة متواضعة التسليح والذي جاء من السودان ، ثم دول عربية مدت يد العون لإرتريا وشعبها ، ثم من القوات الإثيوبية نفسها ، حيث كان العمل الفدائي يداهم الوجود الإثيوبي المتفرق ويغنم منه السلاح والغنائم الأخرى .•كانت الجبهة الخارجية تشهد أيضاً تحركاً وعملاً واسعاً قاده رجال حققوا في مجاله نجاحات عظيمة دعمت العمل الداخلي المتصاعد . عمل خارجي في ظروف صعبة : ولكن العمل الخارجي الذي جاء في ظروف الفرقة والشتات والصراع الدولي الذي أنعكس على الاقليم واجه هو الآخر مشكلات جديدة تتصل بصراع الأيدلوجيا والنظريات والمصالح الدولية فوق الساحة الإرترية التي كانت وحدتها في البداية مدخلاً عظيماً لنضال جبار زلزل الإستعمار الإثيوبي من خلال وحدة الأمة الإرترية بشقيها المسلم والمسيحي .شهدت الستينات من القرن الماضي أسوأ حالات الشقاق والخلاف بين الفصائل والمجموعات والجماعات الإرترية حيث لأسياس أفورقي الشاب العشرينى العمر حضور واضح وسط تلك التطورات السالبة التي قادت عملياً الى قيام كيانين إرتريين كبيرين هما جبهة تحرير إرتريا ، قوات التحرير الشعبية .وللتدقيق التاريخي البحت فإن أسياس افورقي الذي كان طرفاً في الخلافات التي ادت الى الإنشطار الخطير لم ينضم في بداية الأمر الى أى من التنظيمين بل لجأ الى مناطق المرتفعات ذات الثقل المسيحي وبقى مرابطاً هنالك في الجبال دون أن يسجل له التاريخ آنذاك أي عمل عسكري يذكر ..كان القائد الإرتري الفذ عثمان صالح سبى مدركاً لأهمية وحدة طرفي الشعب الإرتري المسلم والمسيحي فعمد الى التقارب والتقريب والحوار العميق مع قيادات ومجموعات مسيحية مثل ولدآب ولدماريام ، والمرحوم تدلا بايرو والعديد من قيادات وزعامات تلك المرحلة من مسيحي إرتريا الذين وقفوا مع نداء دعوة الإستقلال ورفضوا علناً مسرحية إدماج إرتريا في الإمبرطورية الإثيوبية التي ضمت مجموعة الأعراق غير المتجانسة ومنها المجموعات الصومالية في الأوغادين ، والمجموعة الإرترية المجاورة للسودان والمطلة على البحر الأحمر عبر ساحل طويل يشرف ويطل على اليمن والسودان والجزيرة العربية .وهنا في هذا البحر ومن أجله قام الصراع الطويل المحتدم حتى يومنا هذا ، وهو الصراع الذي يشكل حضوراً كبيراً خلال سياسات افورقي الذي ضحى بكل شئ في علاقاته بالدول المجاورة ليبقي علاقاته الخارجية البعيدة خاصة مع الدول الغربية وإسرائيل .لقد إنضم اسياس في بداية السبعينيات من القرن الماضي الى قوات التحرير الشعبية بقيادة الشهيد عثمان صالح سبي الذي دفع بافورقي الى الى مركز القيادة العسكرية في الميدان لتثبيت حقيقة الآ خلاف أو خوف من أن يقود العمل العسكري المسلح داخل إرتريا شخص مسيحي وأن يقود العمل الخارجي الداعم للداخل شخص مسلم ، حيث تعاون هذا وذاك في الداخل والخارج مجموعات من الشباب والقيادات الإرترية من عنصرى الأمة ـ المسيحي والمسلم .بعد سنوات لم تتجاوز الخمس حينما اشتد ساعد قوات التحرير الشعبية التي كان قائدها السياسي عثمان سبي وقائدها العسكري الميداني بالداخل اسياس أفورقي ظهرت بودار تمرد عسكري إنتهى بإنقلاب عزل بموجبه أفورقي قائده السياسي عثمان سبي ورفض اسياس كل جهد داخلي ودولي وعربي لمنع إنهيار التنظيم الذي اصبح منافساً كبيراً وخطيراً للتنظيم السياسي والعسكري الآخر ، وهو جبهة التحرير الإرترية التي قادها في بداياتها الشهيد إدريس محمد آدم حيث تسلمت منه راية الكفاح مجموعات إرترية شابة مثل عبدالله إدريس وأحمد ناصر وغيرهما من العشرات بل المئات من الكوادر الإرترية التي حققت على الصعيدين العسكري والسياسي نجاحات عظيمة ووضعت القضية الإرترية على كافة الموائد الدولية وهو أمر جلب لإرتريا ملامح القبول والإعتراف الدولي المحدود نسبياً في اروبا وافريقيا ، ولكن شبه الجماعي في العالم العربي حيث واكب ذلك الإعتراف دعم مادي .. عسكري .. لوجستي .. تعليمي .. ودبلوماسي غير محدود .كانت إسرائيل دائماً تقف الى الجانب الآخر وتدعم بلا حدود الإستعمار الإثيوبي وتعينه بالسلاح والتدريب والتخابر والوجود المكثف في البحر الأحمر لمراقبة كل الأنشطة العربية الداعمة لكفاح الشعب الإرتري .وبعد الإستقلال ـ وقفزاً مقصوداً ـ فوق كل بقية المراحل لابد ان نشير وبسرعة الى أن اسياس أفورقي خطى أولى خطواته كحاكم لإرتريا المستقلة عام 1993م بزيارة إسرائيل حيث أدعى أنه كان يتعالج هنالك وهو قول مردود إذا علمنا بأن افورقي الذي عاش أكثر من نصف عمره في السودان يعلم أن خبرة وقدرة علاج الملاريا التي قال انه اصيب بها ويريد من زيارته المفاجئة تلك لإسرائيل علاجها هو السودان الذي طالما عالج ابناؤه وأطباؤه أفورقي من الملاريا وغيرها . مثال سوداني صارخ : ولكن لابأس فالسياسة عموماً بها مثل هذه الأمور ، ولكن إختيار التوقيت وإبراز الأسباب والضرورات لم تكن متوفرة في حالتين مشابهتين .أما الحالة الأولى البعيدة تاريخياً فهى إنكار وزير خارجية حكم نميري الدكتور منصور خالد في بداية سبعينيات القرن الماضي وجود قضية إرتريا ، بل ووصف كفاح الشعب الإرتري بأنه نوع من شق الصف الأفريقي ووصف القيادات الإرترية وكفاحها العسكري بأنه ـ عمل من أعمال الشفتة والقرصنة ـ أو هكذا قال كوزير خارجية نميري أنذاك عندما كان يترأس الدكتور منصور خالد مجلس إدارة جريدة ( الصحافة ) السودانية .وقد قابل هذه الحالة التي تحولت 180 درجة حيث عاش ويعيش ويعمل وينطلق مرحباً به الدكتور منصور خالد الذي رد الله غربته الآن من العاصمة الإرترية اسمرا بعد الإستقلال ونيل الحرية من قبضة الإستعمار ليقع البلد والشعب في قبضة إستعمار داخلي اقسى وأشد قسوة من الإستعمار الإثيوبي نفسه .كان أفورقي وبعد إنقسامه من قوات التحرير الشعبية بقيادة الشهيد عثمان سبى قد كون لنفسه تنظيماً عسكرياً أسماه الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا وكان من الواضح ومن حيث القدرات والإمكانات والميل الغربي المتبادل أوربياً وامريكياً أن ثمة خطط ومخططات تعد الرجل ـ أفورقي ـ وتنظيمه ليوم موعود وقد حان بالفعل عندما تسلم أفورقي السلطة على أنقاض حكم الدكتاتور منغستو هيلى ماريام الذي جعل منه أفورقي الآن ومن حكمه ملاك رحمة يتمناه البعض ويذكرون عهده بكثير من الحنين والود في مقابل واقع لايخطر على بال بشر خلقه نظام افورقي الذي من ابرز نتائج حكمه القهري الآتي :•زيادة عدد اللاجئين والنازحين الإرتريين بنسبة قاربت نزوح ولجوء وهروب نصف الشعب الإرتري الى الخارج والسودان بالطبع هو محطة الإقامة والعبور المفضلة .•تحويل البلد الى سجن كبير وممارسة أقسى أنواع العنف والإرهاب ضد كل من يعتقد أسياس أفورقي أن به حنين ـ مجرد حنين ـ للماضي النضالي والوطني للجبهات والجماعات والقيادات التاريخية التي دفعت مهر الحرية والإستقلال ليأتي افورقي ويتحول كل ذلك المجد العظيم الى عقد وتعقيدات وتمييز وقهر وإستبداد وملاحقات وليحول الوطن الى سجن كبير . أبرز أجندة أفورقي : الحروب ضد الجيران اليمن ، السودان ، إثيوبيا ، جيبوتي ، والخصومة الواضحة لكل ماهو عربي خليجي وهي ذات البلدان التي أحتضنت الشعب الإرتري بين مسلم إرتري أو مسيحي إرتري .صحيح أن العفوية أن لم نقل الغفلة في العمل العربي تجاه إرتريا إبان معركة الإستقلال لعبت دوراً في الوصول الى الواقع الخاطئ الآن ، لكن الصحيح ايضاً هو ان الإعداد لمرحلة أفورقي للسلطة في إرتريا قد بدأ مبكراً حيث كان مؤتمر لندن الذي طرد منغستو من حكم إثيوبيا وطرد إثيوبيا نفسها من حكم إرتريا هو التتويج الحقيقي لأكمال المشروع الغربي الإسرائيلي في إرتريا .الآن وقد تعاظم وكبر الدور الإرتري في تعويق حلحلة مشاكل السودان المتصلة بحرب الحدود شرقاً وغرباً بل وخمد آوار الحرب جنوباً ، مالذي يريده افورقي من السودان ؟ ولماذا يعادي البلد والنظام الذي ساعده وساهم بالأمل والغفلة الى إيصاله للحكم ـ بل وتقديم كافة معينات الحكم إدارياً وفنياً ومالياً في السنوات الأولى لوصول أفورقي للسلطة . العقوق في أبرز صوره : وذاك معروف ، ولكن ثمة أمور صاحبت السياسة الإرترية تجاه السودان ، وتجاه الشعب الإرتري نفسه ، ولكن الملاحظ في هذا الإطار أن الغرب كله وأمريكا خاصة لم تبدي أي قدر من الإنزعاج أو الإحتجاج أوالرفض المعلن أو الضغط والتهديد والوعيد وتحريك منظمات وجماعات الضغط لمساندة ومساعدة الشعب الإرتري الذي يواجه القسوة والإستبداد والسجون والقتل والسحل والتشريد واللجوء الفردي والجماعي وسائر مظاهر الإضطهاد العرقي والديني بل نقولها صراحة إن ماحاول الغرب أن يلصقه بالسودان والسودانين من حديث عن إغتصابت في دارفور هو أمر مطبق كسياسة حكومية وعسكرية في إرتريا من خلال الإختلاط الواضح بين الشباب والشابات فوق المواقع والمناطق العسكرية الإرترية التي يدفع بها وباعداد تفوق ثلثي السكان الى مناطق العمليات حيث تكون الحياة المختلطة بين الشباب والشابات مسلمين ومسيحين ومسيحيات وحياة مفتوحة ومشجعة من جانب الحكومة الإرترية التي جعلت من رفض العلاقات الآثمة في الميدان أو الزيجات القهرية بين مسلمة ومسيحي سياسة دولة تعني الإغتصاب ـ إغتصاب الدولة ـ إذا جاز التعبير !!ونختم ونقول أن واحدة من علامات الخطأ والخطل في السياسية السودانية تجاه إرتريا هذا العشم المضحك من جانب بعض المعارضين في ان يكون أفورقي ونظامه معيناً لهؤلاء المعارضين السودانين لتحقيق حلم ديمقراطي تعددي … فهل فاقد الشئ يعطيه ….؟* سيد احمد خليفة رئيس تحرير صحيفة الوطن اليومية بالسودان والمقال منشور في صحيفة الوطن عدد ( 834) بتاريخ 29/8/2005 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى