“إنَّكم لا تعرفوني، وربَّما أكونُ في مكانٍ ما بعيد”. كتبته / أمال علي
22-Nov-2016
عدوليس ـ لندن
لمَحْتُ صورَته المؤطرة بالأبيض والأسود وقد وُضِعتْ بعنايٍة على كرسي رمادي اللون في وسط قاعة Alte schmied ، في فيينا ، تتوسط صور أخرى ، مؤطرة أيضاً . و لكنها ملونة ، لشاعرات و كتّاب آخرين معتقلين مثله . بينهم المُدونّ المصري علاء عبد الفتاح، والشاعرة الإيرانية مهاوش سبات، والايراني -الكردي الناشط والصحفي محمد الصادق كابودفاند، و المخرج السينمائي الاوكراني أولغ سنتووف . جميعهم محكومين بمدد طويلة ولكنها معروفة ، كما تعرف أماكن اعتقالهم ماعداه . هوالوحيد الذي لايُعرف عنه شيء تماماً كتوحد صورته بالأبيض والأسود وعتمتها . مصادفة غريبة وكأنها تعزز مخاوفنا عن ما تردد مؤخراً عن موته بطريقة قاسية ضمن مجموعة أخرى من بينهم الفنان المحبوب ادريس محمد علي .
أصابني المشهد -بقسوته غير المقصودة- بحزنٍ كبير . اهتز قلبي حتى كاد أن يتجمد من هول الحضور- الغياب . وارتجفت خطاي التي لم يكن ليجنبي سقوطي بعدها إلا عناق الصديقة – الإنسانة اشراقة مصطفى ..
كنت أعرف انني سأراه بشكل ما ، فأنا أتيت خصيصياً من أجله و للحديث عنه و عن الصحفيين الارتريين في معتقلات النظام منذ عقد ونيف . كل ذلك لم يجنبني لحظة المفاجأة . لحظة فعل استعادة الفقد المؤلم ، وتلمّسه على غفلة ، وفي ثوانٍ سريعة كما في أفلام الخيال العلمي ، حيث ينتقل المرء الى زمنٍ آخر بعيد ، ضبابي وكالح بكل المشاعر التي ترافق اللحظة ، ولكن هنا دون إثارة أو تشويق بل بالكثير من الأسى والعجز .
جمع كميل. الصحفي في جريدة ارتريا الحديثة . النحيل الجميل ، ذو الصوت الهادىء ، الذي يداهمك مصادفة في احدى ممرات وزارة الأعلام في ظهيرة يوم ماطر ، ربما! ليأتيك دوماً بنفس الوتيرة المتوازنة ، أقرب للخفوت منه للعلو . لا يلوي على شيء . مبتسمٌ دوماً ، مرحٌ ، شفيف .وهو الجسور ، الشجاع ، لايتردد في قول الحق ونقد الخطأ . ثابتٌ في مواقفه وهي كثيرة وواضحة ، ومدافعٌ عنها .
اُعتقل جمع كميل في مثل هذا الشهر من عام 2005 ضمن دفعة أخرى من المعتقلين في حملة الاعتقالات التي بدأت مع تحرير البلاد عام ١٩٩١ ولم تتوقف الى الان .
جمع كميل ، الصحفي المتخصص في الشؤون الرياضية ، رياضي الروح والسلام ، لا أحد يعرف لماذا ُاعتقل تحديداً ، ما التهمة التي غيبته لأكثر من عشر سنوات !؟ وماذا حَلَّ به و زملاء آخرين لنا من معتقلي الرأي .
هي ظُلمةٌ أخرى. عتمٌ وبؤس و فناء بحجم جغرافيا الوطن .
مصادرةّ كاملة وحجر تعسفي للحقوق والحريات . حق الحياة قبل حق التعبير . تهجير لكل معاني الإنسانية .
رشحته السيدة الدكتورة اشراقة مصطفى حامد ، عضو لجنة سجناء الضمير لتمنحه منظمة القلم النمساوية العضوية الفخرية لها.
وفي الخامس عشر من نوفمبر الجاري أقامت اللجنة أمسية تكريمية للتذكير بسجناء الضمير شارك فيها عدد كبير من الإعلاميين والكتاب والفنانين النمساويين وذلك ضمن برنامج اللجنة التي تسعى جاهدة مع القلم العالمي للضغط على الجهات الحكومية التي تعتقل الكُتَّاب والإعلاميين ، في محاولة لإطلاق سراحهم والتحقق من أوضاعهم الصحية والنفسية في أماكن اعتقالهم .
وقد نجحت جهود القلم النمساوي في المساهمة في إطلاق سراح المُدَوّن السوداني وليد الحسيني الذي كان معتقلاً في السعودية ، ويعيش الان مع أسرته في الولايات المتحدة الأمريكية .
كما ساهمت المنظمة في السماح للشاعرة الإيرانية مهاوش سبات، المعتقلة من عام ٢٠٠٨ بزيارة أهلها لخمس أيام فقط قبل العودة للمعتقل مجدداً، وإكمال مدة اعتقالها، أي العشرون عاماً.ما ميّز تكريم الصحفي جمع كميل هو انه الأول من نوعه بالنسبة لسجناء الضمير من ارتريا على مستوى القلم عموماً والنمساوي خصوصاً. وأْضفتْ الكلمات التي قدم بها رئيس اللجنة السيد نبذةً عنه الكثير من التعاطف والاهتمام ، خاصة وأنه قرأها بضمير الحاضر- الغائب على لسان جمع . وَمِمَّا ورد فيها: أنَّكم لا تعرفوني، وربما أكون في مكان مابعيد ، وربما لست موجوداً اللحظة ولكن قد أكون معكم ذات يوم .
كما أتاح لي رئيس اللجنة السيد هيلموث نيدرل Helmuth Niederle الفرصة للحديث عن معتقلي الرأي في ارتريا من الإعلاميين والكتّاب . وكانت دهشة الحضور كبيرة لمعرفة حجم المأساة والمعاناة غير المسبوقة لسجناء الضمير في ارتريا وواقع القمع التعسفي والإخفاء .
تحدثنا كثيراً بعدها عن واقع الحريات وطبيعة الحكم السياسي الديكتاتوري في إرتريا . وأبدى عددّ كبير من الإعلاميين والكتاب رغبتهم في العمل المشترك والتنسيق مستقبلاً للكشف عن أوضاع المعتقلين والمعتقلات في ارتريا وللعمل على إطلاق سراحهم .
كما قامت الدكتورة إشراقة مصطفى حامد، على هامش الفعالية بترتيب لقاءات مع كلٍ من إذاعة صوت المرأة والإذاعة الرئيسيّة في النمسا، حيث كانت حوارات شاملة وعميقة عن الأوضاع الإنسانية والحريات وأوضاع اللاجئين والنساء في ارتريا .
إنَّ تكريم الصحفي المغَّيب الزميل جمع كميل، بالعضوية الفخرية يجعلنا دون شك نشعر بالامتنان الكبير ، كونه إضاءة مهمة على واقع أقسى يعاني فيه الكثير من أبناء شعبنا . وهو جهد مقَّدر من قبل الدكتورة والمنظمة وكل الحريصين على حماية قيم الحريات الإنسانية ، وأهمها حرية التعبير في عالم ينّحو بشكلٍ متسارع الى الإستهانة بهذه القيم في مناطق بعينها مثل أفريقيا والشرق الأوسط ، بسبب حالة الفوضى العالمية التي نشهدها اليوم وتصاعد قوى اليمين وانتشارها في معاقل الديمقراطيات الراسخة .
إنه زمن العتمة التي تسقط مع كل إشعاع ضوء ولو من شق بعيد .