حديث الذكريات والمذكرات ( الحلقة التاسعة ) :محمد سعيد ناود
16-Apr-2007
المركز
الأطفال في زماننا كانوا يعشقون البطولة وإظهار الشجاعة ، ولذا كان كل منهم يتنافس مع أقرانه ليفوز بهاتين الخصلتين لان ذلك يجعله مثار إعجاب أقرانه بل ويخشون بأسه .وان أبناء كل حي من أحياء المدينة كانوا يتعصبون لحيهم ويتنافسون في كل شيء مع باقي الأحياء . وكنا نواجه الدعوة بين حين وآخر للمشاجرة أي الحرب كما كنا نسميها ، وان الحي الذي توجه له الدعوة لا يستطيع رفضها وألا اتهم بالجبن ،
وكنا نقوم بتحديد الزمان والمكان على أن يكون خارج المدينة أي في أطرافها حيث كانت المدينة صغيرة وقبل أن تتمدد بكل الاتجاهات . ويأتي الفريقان وكل فريق يحمل سلاحه المكون من جريد النخل كعصا ، ونقف أمام بعضنا البعض في شكل تحد ، ثم يحصل الاقتحام وتبدأ المعركة بالضرب المتواصل . وكان من تقاليد معاركنا عدم الضرب في الرأس بل التركيز على أجزاء الجسم الأخرى وبالذات في المؤخرة ، وكنا نسبب أذى لبعضنا البعض من جراح وكدمات ، ولا تنتهي المعركة إلا بهروب احد الفريقين بكاملة ، ويعني ذلك انه انهزم ، أما في اليوم الثاني فلا حقد ولأثأر أو كراهية لأننا كنا نتميز ببراءة الطفولة ، وكل من الذين يصابون بجراح أو كدمات كانوا يخفونها عن أهلهم ، وليس هناك من يشكوا لأنه في حالة اكتشاف ذلك فانه سينال عقابا رادعا بالمزيد من الضرب على يد أهله . حافي حالق : الشاعر الغنائي السوداني خليل فرح والذي ترك دررا مثل أغنية ( عازة ) والتي كان يرمز بها لوطنه السودان وهو بعيد عنه بمصر تحت العلاج من داء السل . فهو وفي نفس الوقت كان مناضلا غيورا وشارك في ثورة 1924م ضد الإنجليز . وكانت أغانيه ترمز لحبه لوطنه ، وكان قد سجل بعضها في اسطوانات استمعت إليها وأنا طفل صغير في نهاية أربعينيات القرن الماضي . ورغم انه توفي في مستشفى ارنهر بالخرطوم وذلك في يونيو عام 1937م إلا أن أغانيه لا تزال خالدة وتلهب المشاعر الوطنية والعاطفية حتى لأجيال اليوم من أبناء الشعب السوداني الشقيق ، والعنوان أعلاه ( حافي حالق ) هو الذي أوحى لي بذكر أبيات من أغنيته الأشهر ( ماهو عارف قدمه المفارق ) ، والأبيات هي : ماهو عارف قدمه المفارق يا محط أمالي السلام يا جميل يا نور الشقايق املأ كأسك واصبر دقائق مجلسك مفهوم شوفهوا رايق عقده ناقص زول ولا تام يا بريد الجو فوقي حالق ميل على الروح ليها خالق قل كيف أمسيت وأنت عالق مقرن النيلين كيلو كم من علايل أبو روف للمزا لق من فتيح لطور للمفالق قدله يا مولاي حافي حالق بالطريق ألشاقي الترام في يمين النيل حيث سابق كنا فوق أعراف سوابق في الضريح الفاح طيبه عابق السلام بالمهدي الإمام وقد تميز خليل فرح كشاعر وملحن وعازف ومغني لكلماته ، وهذه كانت حالة نادرة آنذاك بل واعتقد حتى اليوم . والقدلة هي المشي بتبختر ، أي الخيلاء في المشي ، والطريق الذي تمنى أن يسير فيه حافي القدمين وحالق الشعر وهو يسير خيلاء على قدميه هو في ( أبو روف ) بأم درمان والذي كان يسير فيه الترام أو ( الترماي ) حتى الخرطوم وذلك قبل إزالته بعد استقلال السودان . ونحن أطفال ذلك الزمان كنا جميعنا ( حافي حالق ) ، بحق إلا بعد التحاقنا بالمدرسة الأولية ، كما أننا لم نكن نعرف الحلاقة ( قص الشعر ) ، عند الحلاق إلا بعد الالتحاق بالمدرسة الوسطى ، فقد كان يتم حلق شعر رأسنا بالموس ، وبعد الحلاقة يتم مسح الرأس بالزيت وتجده يلمع خاصة عندما نتعرض للشمس . في تلك الأيام ونحن حفاة من تحت ومن فوق ، كنا نسجل حضورا دائما ودون أن نتلقى دعوة من احد وذلك في منازل الأفراح مثل الزواج والختان وسماية المولود ، وفي بيوت الاتراح في حالة الوفاة ، ووسيلتنا لتلقي الدعوة كانت عندما نسمع الزغاريد أو النواح والعويل بالصوت العالي من النساء . وفي كل الأحوال فان هذه المناسبات كان أصحابها يعملون الذبائح بالكباش ، ومنهم من كان يذبح ثورا ، وكنا نأتي لنؤدي الخدمات بتقديم صواني الأكل المكون من اللحم والأرز والخبز المبلل بالمرق وذلك للضيوف . ثم نتطوع أكثر لإحضار الماء للشرب أو لغسيل أيدي الضيوف . وأثناء ذلك وبشكل مستمر ننال ما يكفينا ويزيد من هذه الموائد الدسمة … ويظهر أن ثقافة الطفل متشابهة بين إرتريا والسودان لأنني شاهدت ذلك أيضا في اسمرا . أما في عيد الفطر فقد كنا لا نترك منزلا إلا ونقوم بزيارته دون أن نميز أصحابه ، ففي يوم العيد فكل المنازل مفتوحة الأبواب طوال الوقت لاستقبال المهنئين بالعيد . وكنا ندخل لهذه المنازل ونتناول كميات من الحلوى والكعك . وفي نفس الوقت ننال ( العيدية ) وهي مبلغ من المال من صاحب أو صاحبة المنزل . أما في عيد الأضحى وبالإضافة للحلويات فقد كنا ننال كمية من اللحم المشوي والمطبوخ ومعها العيدية المالية أيضا وكنا دوما نجد أنفسنا مثار ترحيب ممن نزورهم . ولا اذكر أن هناك من زجرنا أو تضايق من زيارتنا وحضورنا الدائم سواء كان في الأعياد أو الأفراح والاتراح ، لذا كنا ننظر لكل ما نناله أو نقوم به باعتباره حقوقا مكتسبة . وبمناسبة ذكر العيدية المالية التي كنا نتلقاها من أصحاب المنازل التي كنا نقتحمها دون استئذان في عيدي الفطر والأضحى ، فأقصاها لم يكن يتجاوز القرش الواحد أو التعريفة . ولكن في تلك الأيام كانت تمثل مبلغا كبيرا . وكمثال لذلك فعندما كنا تلاميذ بالمدرسة فقد كان أهلنا يعطوننا في الصباح قرشا واحدا للفطور ، وكان هذا القرش يكفينا للفطور ثم شيئا من التسالي أو الفول المدمس أو كوبا من الشاي . والعملة المتداولة في ذلك الزمن البعيد كانت الجنيه وهي اكبر وحدة ، وكانت تساوي عشرة ريالات . الريال أبو عشرين وقيمته عشرين قرشا ، الريال أبو عشرة وقيمته عشرة قروش ، الشلن وقيمته خمسة قروش ، نصف الشلن وكانت تطلق عليه تسمية ( فريني ) وقيمته قرشان ونصف ، القرش وقيمته عشرة مليمات ، التعريفة وهي نصف القرش وقيمتها خمس مليمات ، المليم وقيمته عشرة فرطا قات ، ثم الفرطاقة وهي اصغر وحدة مالية . وكل وحدة من هذه العملة المذكورة كانت لها قيمة ، مثالا لذلك فأن رجل الشرطة كان يتقاضى آنذاك مبلغ ثلاث جنيهات ونصف كمعاش شهري ، وكان ذلك مبلغا كافيا له ولأسرته . والآن فان كل هذه العملة اختفت من الوجود اسما وقيمة . والجيل الحالي لا يعرفها وقد لا يكون قد سمع بها ، ولم يبق منها إلا اسم الجنيه والذي لم تعد له قيمة ، فقد بقي وحيدا يندب حظه وعلى تلك الأيام الخوالي عندما كانت له ( شنه ورنه ) ، وبعد أن طوى النسيان من كان يتربع فوقهم من الريال والقرش والمليم والفرطاقة ، ولا نسمع حاليا إلا عن الدينار ( لكن الجنيه عاد الآن كعملة رسمية ) ، فالدوام لله وسبحان الله مغير الأحوال . ومع الأيام فقد تطورنا ، حيث قمنا بتكوين فرق كرة القدم كرياضة كانت شائعة في تلك الأيام ، وبدأنا بواسطة كرة الشراب التي كنا نصنعها بأنفسنا ، وبالتالي تبدأ المباريات والتنافس وهي أكثر حضارة وتحضرا بمقارنتها بما كنا نمارسه من مشاجرات وحروب بين الأحياء وسفك دماء بعضنا البعض كما ذكرت سابقا . كنا نقوم بتشكيل الفرق الرياضية التي تتنافس بشكل يومي ، أحيانا بين أبناء الحي الواحد وأحيانا أخرى بين أبناء أحياء مختلفة ، ويحضر أبناء كل حي لتشجيع اللاعبين من حبهم . وان فريق الاتحاد الرياضي وهو من الفرق الرياضية المشهورة والمعروفة اليوم ، وهو حاليا من فرق الدرجة الأولى ، اذكر إننا قمنا بتأسيسه بكرة الشراب في حي ( ديم المدينة ) ببور تسودان ، وفي جزء من منزل أسرة احد زملائنا الأطفال في المدرسة . أما اليوم فان فريق الاتحاد يمتلك دارا معتبرة في ( حي العظمة ) وبالقرب من دار الرياضة ببور تسودان ، وإذا لم تخني الذاكرة فهناك صورة كبيرة معلقة بداخل هذه الدار تشمل المؤسسين للفريق وأنا من ضمنهم . أيام المدرسة : قبل الالتحاق بالمدرسة فقد كان التقليد المتبع هو الالتحاق بالخلوة ، ومرحلة الخلوة كانت ضرورية لاننا نتعلم فيها مبادىء القراءة والكتابة وحفظ جزء ( عم ) على الأقل من القرآن الكريم ، وكان ذلك قبل ظهور ( الروضة ) إلى حيز الوجود . واذكر أن الخلوة التي التحقت بها كانت مختلطة بنين وبنات ، وكانت تديرها معلمة من بنات البجة وهي امرأة مسنة لأترحم من يتقاعس في الدرس . وفي الخلوة كنا نقوم بإعداد الحبر والقلم بأنفسنا ، فالقلم نصنعه من أعواد القصب والذي كنا نقوم بإعداده بالموس ، أما الحبر فقد كنا نخلطه بالكربون العالق بالدوكة ( صاج لإعداد الخبز البلدي ) ، كنا نخلطه بالقليل من الصمغ والقليل من الماء ونضعه في زجاجة صغيرة ويسمى بعد ذلك ( الدواة ) . وكان ذلك أي القلم والحبر الذي نصنعه بأنفسنا ينتج عنه خط جميل ، وكنا نكتب على اللوح المصنوع من الخشب ، وكنا ننفذ شعار ( الاعتماد على ألذات ) دون أن يكون لهذا الشعار مكان في عالم السياسة آنذاك أو في عالم الاقتصاد . كما إن مرحلة الخلوة علمتنا المبادىء الأولى للانضباط واحترام المعلم بدلا من حالة الانفلات التي كنا نعيشها قبل ذلك . ومن الأشياء التي لا تنسى أيام دراستي بالخلوة ،( فالحوار ) أي الدارس بالخلوة الذي يكمل جزء من القرآن الكريم حفظا فان أسرته كانت ملزمة بإعداد أطباق من السنبوسة أو اللقيمات التي يطلق عليها(لقمة القاضي ) وعليها السكر المطحون وأحيانا العسل الأحمر ، ويحضرون هذه الأطباق للخلوة حيث كنا نلتهمها . كما إن هذا الحوار كان يعمل في لوحة الشرافة وهي عبارة عن رسم جميل في إطراف اللوح بالألوان .. وفي الوسط آيات قرآنية بخط جميل ثم يزور الكثير من المنازل ومعه رفاقه من الجيران فيتم إكرامه بهدية مالية ممن يزورهم .