حديث الذكريات والمذكرات : الحلقة الثامنة : محمدسعيد ناود
8-Apr-2007
المركز
ومن ذكريات الطفولة في بور تسودان ، الطرق الصوفية ، وإحياء ليالي الموالد سواء كان ليلة الجمعة والاثنين أو مناسبات المولد النبوي ، وما يوجد في تلك الليالي ما لذ وطاب من الأرز واللحم والخبز المبلل بالمرق الدسم.وابرز الطرق الصوفية التي كنا نحضر لياليها هي الختمية ، القادرية ، والإسماعيلية . أما الحولية السنوية التي كانت تقيمها الشريفة مريم الميرغنية بـ ( سنكات ) فقد كانت حدثا سنويا هاما .
وكان معظم سكان بور تسودان يتجهون بالقطارات واللواري إلى سنكات لحضور تلك المناسبة والتبرك بها رجالا ونساء وأطفالا مع ذويهم . وفي أوائل الخمسينات من القرن العشرين ظهرت إلى الوجود ظاهرة ( شباب الميرغني ) وذلك تحت توجيه الحسيب النسيب السيد علي الميرغني راعي الختمية في السودان . وفي ذلك الوقت كانت المقاومة للاستعمار البريطاني على أشدها ، وتمثلت في المظاهرات التي عمت السودان والاضرابات العمالية والطلابية . وهنا ظهرت إلى الوجود فصائل ( شباب الميرغني ) وهم يتكونون من تشكيلات شبه عسكرية تحمل شارات خضراء تزين أكتافهم وأحزمة من القماش الأخضر حول خصرهم ، ويسيرون في طوابير ويقودهم احدهم ولديه صفارة للنداء . وأثناء ذلك ينشدون قصائد دينية ملحنة حسب حركات الأيدي والإقدام . وكان مفهوم البعض بأن ( شباب الميرغني ) هو بداية لتكوين جيش وطني ضد الاستعمار ، وهذه الظاهرة كانت قد عمت مدن شرق السودان ولا أدري إذا كان لها وجود في باقي أنحاء السودان . ومن جانبي فقد انغمست كثيرا في ارتياد ليالي الطرق الصوفية حتى أطلق علي لقب ( خليفة ) ، وعرفت بهذا اللقب بين أقراني من الأطفال ، وكنت سعيدا بذلك ، فالخليفة في ذلك الزمان كان يحظى بالاحترام والتقدير من المجتمع ، ولكثرة ترددي على تلك الليالي فقد حفظت الكثير من المدائح والقصائد دون إن افقه معانيها . من معالم مدينة بور تسودان التي لن تنسى ذلك البجاوي المخلوق بدون يدين ، ولكنه يستعمل رجليه في المشي والأكل والشرب وحتى لعبة الطاولة والزهر التي كان يجيدها باقتدار بواسطة أصابع القدمين ، ولذا فانه أصبح من معالم المدينة ، حتى إن البحارة الأوربيين الذين يعملون بالبواخر التجارية وترسوا سفنهم في الميناء لأيام أو ساعات حتى تشحن أو تفرغ حمولتها فإنهم عادة ما يتجولون في المدينة للترويح عن أنفسهم ، وكانوا دوما يأتون إلى مقهى ( رامونا ) الشهير الذي يمتلكه احد اليونانيين والذي كان يواجه حديقة البلدية وهو من أهم معالم المدينة ، حيث يجلس هؤلاء البحارة مع ذلك البيجاوي الذي ليس لديه يدان ويطلبون منه أن يتبارى معهم في لعبة الطاولة وهم يتفرسون فيه بإعجاب وباستغراب عندما يتناول الزهر بإصبعين من قدمه اليمنى ويرمي بهما في الطاولة ، وكانوا يقدمون له قبل ذلك الأكل والشرب على حسابهم ويشاهدون كيف يتناول ذلك بأحد قدميه أو كليهما . وبعدها تبدأ معه المباراة ، وكان دوما يتغلب عليهم ، وبحكم انه الفائز فقد كانوا يكرمونه بمبلغ مالي ، ويظل معظم النهار في ذلك المقهى وزبائنه من البحارة الأوربيين لا ينقطعون ، ويأخذون معه صورا تذكارية وهو يأكل ويشرب ويلعب الطاولة ، وينصرف في نهاية اليوم وجيبه مثقل بالمال . وكنا نسمع بأنه متزوج وله عدد من الأطفال ، وهذا الشخص شاهدته كثيرا وكنت حريص لمشاهدته وهو يأكل ويشرب ويلعب الطاولة بقدميه ، وهو جالس على الكرسي . أيضا كان من معالم مدينة بور تسودان شخصية أخرى ، وهو الذي كان يسير بواسطة يديه لان مظهره يدل على انه كان مقعدا ، وكل أصحاب المحلات بالسوق الكبير الذين يتوقف أمامهم جالسا كانوا يكرمونه بمبلغ مالي لأن هيئته تثير الشفقة . وبعد سنوات طويلة أتضح بأنه لم يكن مقعدا بل كان يمثل ذلك الدور ويقتات به فقد كان ومنذ الصباح الباكر وحتى المساء يظل يزحف على يديه ويتوقف أمام كل محل حيث يتكرم عليه كل من يشاهده بمبلغ مالي ، وفي المساء وعندما يخلوا السوق من الرواد وتغلق المحال أبوابها ، فانه كان يتلفت يمينا ويسارا حتى يطمئن بأنه ليس هناك من يشاهده ، وعندما يقف على قدميه وينطلق راكضا كالغزال مبتعدا عن منطقة السوق ، بل هناك من قال عنه مؤخرا ، بعد اكتشاف أمره بأنه كان يتوقف عند احد البارات ويقوم بشراء زجاجة من الكحول ويذهب صوب بيته حيث كان متزوجا وله أطفال أيضا . وبعد إن انكشف أمره وعرفه الجميع ورفضوا أن يعطونه شيئا من المال فانه بعد ذلك وقف على قدميه نهارا وأصبح يمشي في الطرقات مثل باقي البشر . إن هذا الشخص شاهدته عندما كان يزحف وعندما وقف على قدميه ، إلا إنني لم أشاهد مسألة زجاجة الكحول والأسرة والأطفال بل سمعتها عنه من الآخرين بعد انكشاف أمره ، ولله في خلقه شؤون . مرحلة الطفولة هذه هي مدينة بور تسودان التي قضيت بها طفولتي ، وبمناسبة الحديث عن الطفولة فمن يشاهد ما يتمتع به طفل اليوم من مزايا واهتمام يشعر بالحسرة على طفولته وماكان فيها من حرمان وعوز ، ولو انه لم يكن يشعر بذلك في حينه ، ولو كان بالا مكان التحكم في عجلة الزمان كان قد تمنى أن تتأخر ولادته حتى يحين زماننا الحالي ، فطفل اليوم يجد الاهتمام والرعاية منذ الشهور الأولى وهو في رحم أمه وقبل ولادته ، حيث تتردد والدته على الطبيب الأخصائي الذي يقوم بمراجعة وضع ( السيد الطفل ) ونموه وهو مازال في بطن أمه . ويظل يتابعه بشكل منتظم حتى يشرف على ولادته ، وبعدئذ يتولى الأخصائيون من أطباء وشركات التغذية التي تنتج كل ما يحتاجه هذا السيد الطفل ، ثم في شتى أنحاء العالم تتحرك ووتتنافس المصانع لإنتاج ما يلزمه من الحفاظات والملابس بأنواعها للشتاء والصيف وللنوم وكذلك شتى أنواع الألعاب التي تناسب سنه .ثم هناك مرحلة الروضة التي ابتدعت لتهيئته للانتظام في سلك التعليم مع توفير الألعاب التي تناسب مداركه واهتماماته . بل وصل الأمر من الاهتمام بهذا الطفل أن أصدرت الأمم المتحدة ميثاق رعاية الطفل والذي وقعت عليه معظم دول العالم سواء كان الالتزام به أو من اجل رفع العتب .بالإضافة إلى عملية التطعيم الدوري ضد شتى الأمراض حيث ينشأ معافى الجسم ، وكل ذلك جعل هذا الطفل ينافس من هو اكبر منه سنا في الحقوق وبالتعامل مع المخترعات الحديثة وأخرها الكمبيوتر ولو من اجل العاب الكرتون وغيرها . أوردت هذه المقدمة عندما تذكرت أيام طفولتنا البائسة في بور تسودان ، مع أن هناك من يحسدنا من أبناء اليوم قائلا : ” أنكم ونتيجة لتلك الطفولة نشأتم معتمدين على أنفسكم في كل شيء وبالتالي تتفوقون على أطفال اليوم ، إنني لن أجادل وسأترك الحكم لغيري ، فقد كان من مسؤوليتنا آنذاك اختراع وصنع الألعاب الخاصة بنا . فقد بدأنا بالطين بعد خلطه بالماء وعجنه ثم تشكيله في شكل إنسان أو حيوان حسب رغبتنا بعد تجفيفه وتعريضه للشمس . وعلاقتنا بالطين تعود إلى الأيام التي كنا نحبوا فيها ونسير على أربعة ، آنذاك اذكر بان الطين الأسود كنا نلتهمه وكنا نجد لذة وكأنه الشوكلاتة التي نشاهد إعلاناتها والدعاية لها في هذه الأيام . وفي هذا كنا نشارك بعض الحيوانات مثل الأبقار التي تستلذ اللحس بلسانها الطويل لنوع معين من الطين . ويقال أنها تفعل ذلك عندما تشعر بحاجتها للأملاح ، وربما كنا مثلها بالفطرة نستلذ بأكل الطين عندما نشعر بنقص الأملاح ، ربما ” وعلم الإنسان مالم يعلم ” . وألعابنا الأخرى أيضا كنا نصنعها بأنفسنا مثل ( الفركانية ) وهي تصنع من ثمرة الدوم . فبعد التهام ما لصق بقشرتها الخارجية من مادة حلوة المذاق فان الثمرة الداخلية تكون قوية كالحجر . فكنا نقوم بمساواتها في أطرافها بالحجر ، ثم عمل ثقب في نهايتها بواسطة مسمار بعد تسخينه جيدا في النار ، ويترك المسمار في مكانه بحيث يصبح جزء منها . ونعمل ثقبا واحدا في احد أضلاعها بعد تشكيلها بشكل بيضاوي مخروطي . بعدئذ كنا نلفها بد بارة ونرمي بها على الأرض ونسحب حبل الدوبارة الملتف من حولها ، فإذا بها تدور حول نفسها بحركة سريعة وهي تخرج صفيرا عاليا بواسطة الثقب . وبجانب ( الفركانية ) تلك كنا نلعب بـ ( الطقاش ) وهو غطاء حديدي للزجاجات وبجانبه ( ألبلي ) وهو الزجاج البلوري في شكل ألبلي ، أيضا ( الترتارة ) وهي أحدى عجلات الدراجة الهوائية بعد إزاحة إطارها والأسلاك واستعمالها في الجري والسباق بتحريكها بقطعة خشبية لتندفع في حركة سريعة