مقالات

صالح احمد إياي المبتدأ والخبر .. الجزء الثاني

19-Nov-2016

عدوليس ـ ملبورن

القائد الإريتري الذي ولد في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي ، لم تتاح له الفرصة ليعيش حياة عادية في مرحلتي الصبا والشباب ، بل سرعان ما وجد نفسه مع كل جيله في مواجهة تكاليف الحياة السياسية، وبالرغم من قسوتها وصرامة إلتزامها إلا انه لم يتوانى في خوض غمارها. الشاب القوي الجسم .. الصلد والشجاع والحاصل على دبلوم صناعي حديثا من معهد صناعي عُرف آنذاك بمعهد ” النقطة الرابعة” في حي ( فلاجو ) بأسمرا قدر له ان يلعب أدوار مهمة في تاريخ الشعب الإريتري.وكغيره أيضا لايمكن لراصد في السير الذاتية لجيله حياة خاصة لهذا الجيل ، لذا لا يمكنه ان يرصد حياة خاصة لصالح احمد إياي ولذا رحل من الدنيا وهو لايملك سوى رصيد نضالي ناصع.ذكرتي سيرة القائد صالح إياي بسيرة المناضل الشيوعي اللبناني محمد دكروب .. السمكري والحداد الذي لعب دورا مهما في حياة الحزب الشيوعي اللبناني ، كذا صالح أحمد إياي المناضل الوطني والحداد في أحواض مؤسسة الأقطان السودانية بميناء بورتسودان، لعب دوره لآخر الشوط ، تاركا تاريخا نفتخر به كإريترين .

سالت إياي صالح إياي ماذا ورثت عن والدك ؟
( تاريخ نضالي أفتخر به .. وحب لبلدي .. والدي رجل عظيم وأنا سعيد بذلك) .بكل بساطة أجاب إياي. ساعتين تقريبا لم تكن
كافية للحديث عن صالح إياي ، وكما أسلفت فقد أربكتني أم إياي وغيرت خططي وقد أنفقت الكثير من الوقت وانا أستمتع بكرمها وحفاوتها . وأنا أستعد للمغادرة قلت لها :انا من ناس اغوردات وأحب الملوخية جدا لذا سأعود لأتناول وجبة الملوخية قريبا ، وعندي سؤال أخير : ماذا ورث إياي عن أبيه ؟
( ورث كل صالح إياي )!.
وطوال الطريق كان إياي يتحدث عن الأيام الأخيره لوالده .. عن صفاته .. عمق كلامه الداخل .. أسلوب تربيته .. أصدقاء والده ، وكان ذهني ضاجا بتلك السنوات الكبيرة في تاريخ الشعب الإريتري وإحساسي يتفاقم بضآلة منتوجنا في توثيق تاريخ عظيم وتضحيات كبيرة. في هذه الحلقة وهي الثانية والأخيرة أفردها لشهادة عضو في الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا فضل حجب إسمه وفيها الكثير من التفاصيل والوقائع التي تكشف عن البعد الوطني للقائد إياي وأسلوب تفكيره وطريقة تعاملة وشكل إتخاذ قراراته التي يسميها ولديسوس عمار متعه الله بالصحة والعافية بـ (رجل القرارت الفردية).
جمال همــــــد
. “رحم الله المناضل صالح أحمد إياي، ذلك الرجل الحكيم، الذي إمتاز بالحنكة والجلد والمثابرة. كان عميقا في صمته وموجز ودال في كلامه، كان رحمه الله نموذجا للقيادي الخبير، يمتلك المعرفة التي تراكمت عبر سنوات نضاله التي سبقت انطلاقة الكفاح المسلح وتواصلت بعد جلاء الاستعمار الإثيوبي من إريتريا، أشهد الآن أنه كان وطنيا حقا، ومناضلا صادقا ، سامي النفس كبيرها، كان ثاقب الرؤية، أذكر انه وفور استيلاء الجيش الشعبي على اسمرا، وإعلان الجبهة الشعبية عن انتهاء حقبة الاستعمار الإثيوبي، كان يفاوض رجالات المخابرات السودانية حول مصير القوات الإريترية من التنظيمات الأخرى غير الجبهة الشعبية، وكان خطه التفاوضي مؤسس على أن تعود تلك التنظيمات إلى إريتريا بكامل عدتها وعتادها وتشكيلاتها المقاتلة و مكاتبها السياسية والإعلامية وأجهزتها الخدمية، لكن تعود ( كتنظيمات ) ، بينما كان للحكومة السودانية رأي آخر، فرضوه على كل التنظيمات بالترغيب أولا ثم بالترهيب أخيرا، سعوا إليه بالتنسيق مع قيادات من مخابرات الجبهة الشعبية التي كانت تعرف باسم ( الفرقة 72 ) التي نشطت في إستمالة الكادر القيادي والوسيط للتنظيمات الإريترية، عبر اختراقات كانت قد أحدثتها مسبقا، سهلت على المخابرات السودانية مهمة الدفع تجاه العودة القسرية إلى إريتريا وبشروط الرئيس اسياس أفورقي، الذي نفذ نصيحة الدكتور حسن الترابي، المتنفذ حينها في القرار الحكومي السوداني ، وقد قرر الترابي بالقول : (دعهم يعودون فرادى، لا تسمح بقيام أي حزب أو تنظيم الآن، مثلما أنجزت الاستقلال أنجز مرحلة البناء، ومن أراد فاليشارك بشكل فردي).
حينما سُحب البساط من تحت قيادة التنظيمات الإريترية بواسطة زملاء لهم عملوا على تفتيت القاعدة بحجة العودة للوطن ، وبدفع سوداني رسمي، ولم يصبح أمام تلك القيادة سوى خيار ( هذا أو الطوفان ) اختار البعض مغادرة السودان ، إلى جهة ثالثة ، وفرض على من تبقى منها العودة الى اسمرا بواسطة طائرة خاصة جهزت لهذا الغرض. تحدث صالح إياي وهو يودع الخرطوم إلى نائب الرئيس السوداني وقتها الزبير محمد صالح ،و الدكتور نافع علي نافع والدكتور غازي صلاح الدين والأستاذ علي عثمان محمد طه والسفير اللواء عثمان السيد و الفريق الفاتح عروة والفريق لاحقا صلاح عبدالله غوش، قائلا : (نحن ذاهبون إلى الأرض التي ناضلنا من أجلها وانتصرنا في جولة لكن الحرب مستمرة، ذهبنا بهذه الطريقة لن يضيرنا أكثر مما سيسببه لكم من أذى، لسنا حانقون على الشعب السوداني، فقد أعطانا الكثير، ولسنا غاضبون منكم أيضا لأنه لنا عوده ، لكن احتياجكم لنا سيكون عاجلا). ثم اختتم حديثه بابتسامة وهو يقول بلكنة سودانية دارجة 🙁 بجي الخريف واللواري بتقيف).!
في إحدى أماسي اسمرا الخريفية، وفي شهر رمضان المعظم، وبعد المفاصلة بين حزبي المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني، حضر الشيخ الترابي ورهط من مرافقيه إلى أسمرا ، وافردت الحكومة الإريترية لهم استراحة “ملوتي” ( وهي لمن لايعرفها ملحقة بمصنع اسمرا للمشروبات الكحولية ) ، كان الشيخ حسن يستقبل ضيوفه هناك ويصلي صلاة التراويح تحت ابخرة التقطير التي تظلل أجواء الاستراحة، طلب الترابي مقابلة صالح إياي، والتقاه خارج الاستراحة لأنه رحمه الله قال وبطريقته التهكمية 🙁 اللهم لا شماتة، كيف أقبل شيخ حسن في مصنع ملوتي )!.
وقد كان لقاءا رفض فيه صالح إياي الحديث عن الأيام الأخيرة له في الخرطوم وما مُورس ضده من ضغوط ، تأدبا منه، لكن شيخ حسن أصر على أن يقول :
(والله يا صالح اخوي فعلا كما يقول أهلنا ( جاء الخريف، وكراع البقر جيابه!)
. هذا الموقف الواضح وغيره من المواقف المشرفه من صالح إياي جعل الجبهة الشعبية وقيادتها توليه اهتماما خاصا، لم يحظى به بقية القيادات القادمة من التنظيمات الأخرى خصوصا من الذين مرورا على زملائهم خطة العودة الفردية. .
كان صالح إياي فكه سريع البديهة، وفي حديثه دروس تأتي في قالب خفيف على المتلقي، مثلا : سافر أحد الكوادر الشبابية إلى الأراضي المقدسة لأداء العمرة، وهناك التقى بصالح إياي، وفاتحه في أمر شروعه في تأسيس تنظيم معارض لحكومة الجبهة الشعبية، ويريد النصح والمشورة، لم يتوانى صالح أياي في الرد عليه بسرعة :
(والله يا فلان يا أبني أرى أن الأولويات تملي عليك أن تعمل إقامة في المملكة أولا، هسه لو السعوديين عملوا حملة وانزلوك إلى مصوع حيكون مصير تنظيمك شنو)؟.
لم يقل له ماذا سيكون مصيرك انت، لأنه شعر أن في الطرح فخ ما.
وعندما عقدت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا مؤتمرها الأخير في نفقة في العام 1994، احتج بعض قادة التنظيمات المنحلة ، على انه لم تقدم لهم دعوة لحضور المؤتمر وكما اسلفنا جزء منهم كان قد حضر الى اريتريا طوعا وجزء آخر أحضر حسب الدفع السوداني ، وعندما حاول بعض اؤلائك المحتجين الحديث بصوت عالي، نبههم صالح اياي بعبارة ذكية جدا حين قال :
(يا جماعة ما تنسوا الناس ديل سموا مؤتمرهم -المؤتمر التنظيمي الثالث – يعني ما مؤتمر وطني جامع، ده شغل تنظيم ، انتوا أعضاء فيه؟ أنا شخصيا ما عضوا لكن ناس الشعبية مشكورين قدموا لي الدعوة).
وفي ذات فترة ذلك المؤتمر الذي كان أيضا تأسيسي لما عرف لاحقا بـ (الهقدف) يحكي المناضل إبراهيم إدريس توتيل فك الله أسره ، أنه وفي إحدى فترات الراحة طلب منه صالح إياي الخروج في نزهة قصيرة أبلغه خلالها أن جماعة حزب الشعب الثوري وضعوا قائمة تحدد أعضاء اللجنة المركزية الجديدة ، وليس بينها اسم إبراهيم توتيل ، وأن الحزب نفسه سيحل في هذه القاعة ، وأن الأمر ليس مجرد نزهة !.
يقول توتيل 🙁 عندما سألت أبو إياي ، وانت كيف عرفت ذلك كله ؟ .
أجابني : ( عرفت لأن أسرارهم وأمورهم دي ممكن يعملوها على نساهم، مش علينا).
هكذا وببساطة كان يوصل رسائله العميقة، في مرة ثالثة وأبان الخلاف الذي حدث بين أعضاء اللجنة المركزية للجبهة الشعبية فيما عرف لاحقا باسم طرح مجموعة الـ (15) فك الله أسرهم ورد غربتهم، التقى كل من المناضلين محمود شريفو، وحامد حمد ، وصالح كيكيا وهيلي ولد تنسائي درع ، بصالح أياي في إطار الحشد لاطروحتهم، ورد عليهم بسلسلة من الأسئلة :
(هل عملتم على تعبئة وتنظيم الجماهير؟ هل تحققتم من موقف الجيش والأمن وبقية القوات النظامية؟ هل تبينتم موقف رفاقكم في اللجنة المركزية والتنفيذية من تحول الخلاف إلى العلن بعد أن كان خلاف خلف الأبواب؟ هل أعددتم العدة لأي موجهات قد تحدث ؟ هل التراجعات التي نسمع عنها ونقراؤها من بعض الموقعين على مذكرتكم تمت بعد نقاش بينكم واؤلائك الرفاق؟) … الخ. كانت كل الإجابات بلا! فقال صالح اياي( : إذن انتم غير جاهزين، سأقوم بالتوسط بينكم وبين اسياس، عندما تقومون بكل الخطوات الضرورية واللازمه لمعارضته ، عندها يمكن أن أكون معكم). عندما سمع أفورقي تفاصيل هذا الحوار قام بزيارة صالح اياي في منزله، زيارة لم يتطرق فيها للموضوع لكن في نهاية الزيارة قال اسياس :
(سمعت بردك على الجماعة، انا أقبل وساطتك). ضحك صالح اياي وقال بالتقرايت : “ربي لستر ديبوم كمن حقو بيلكا جماعت باديام هلو. ” ربي يسترهم، طالما انت تقول ذلك فالجماعة في طريقها للضياع ) ، وقد كان !.
يحكي المناضل المرحوم محمد علي افعرورا، أنه وفي مطلع الثمانينيات، كان الجيش الشعبي يخوض مواجهات عنيفة في سلسلة الحملات الأثيوبية، وكان الميدان يعاني من نقص حاد في التموينات الغذائية، ولم توفق جهودهم في دائرة العلاقات الخارجية لإقناع القيادة السورية بتوفير الدعم الضروري واللازم، وفي أمسية دمشقية التقى صدفة ، هو والمناضل الراحل محمد سعيد باره بالراحل صالح إياي ، سالهم عن سير المعارك في الميدان، وحالة الجنود، فقدم محمد سعيد باره شرح سريع تضمن الإشارة لموضوع التموينات، كان رد صالح اياي :
(شدو حيلكم النضال والجوع متلازمين) .
يقول افعرورا أن التعليق لم يعجبهم وقتها ، لكن في اليوم التالي تلقوا اتصال من مكتب الجبهة الشعبية في بورتسودان يفيد بأن قيادة جبهة التحرير الإريترية حولت شحنة باخرة ترسو على الميناء ،كانت محملة بالعدس وبعض المواد الغذائية الأخرى إلى مستودعات الجبهة الشعبية دون إخطار مسبق !. وعندما اتصل محمد سعيد باره بصالح إياي ليشكره كان رد أبو إياي : (مش قلنا النضال والجوع متلازمين خلي شبابنا يجوعوا شويه أهو برضه نضال).
لا اجد في هذه الذكرى كلمات وصف لصالح إياي سوى أنه كان من الرجال الذين صدقوا في عهدهم، انا لله وانا اليه راجعون .
ــ إنتهت إفادات العضو السابق بالجبهة الشعبيةــ.
التحية والتجلة للقائد صالح أحمد إياي ورفاقه الميامين . هي محاولة لتوثيق حياة مناضل أعطى ولم يستبقي .. ونسبة لفقدان الكثير من الوثائق والصور نتيجة لحياة المنافي والمطارات تظل هذه المحاولة قليلة الحظ ولا تستطيع الإحاطة بحياة ديدنها الأول هو النضال بنبل من أجل حياة شريفة لشعب مناضل.
الشكر لكل من قدم لي المعلومة والمساندة لإنجاز هذه المادة التي لا إدعي انها توثيقية لحياة بقدر حياة المناضل القائد صالح أحمد إياي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى