مقالات

وقائع وذكريات عن سجن ” ماركاتو” ( 3) . بقلم/ المناضل عبدالله حسن

25-Jan-2016

عدوليس ـ ملبورن

في سجن “ماركاتوا” كنا أربعة في غرفة يقال انها كانت صالة أو مدرسة للمساجين، قبل انتقال المساجين من هذا السجن الي سجن “سمبل” الجديد . مساحتها حوالي ( 6 في 4 أمتار ) في زاويتها اليمنى المخرج الحديدي القاسي .فساهاي الشرطيالسابق المتردد دوما على المعتقلات بتهمة التعاون مع جبهة التحرير ، والثاني كداني من سكان (شعب سلبا) عضو لجنة القرية للجبهة ، والثالث عمر أيضا متهم بأنه جبهجي من عدردي والرابع معروف باسم تسفاي وهو من نواحي مدينة الحمرا الإثيوبية ، انضم الي الجبهة وهو صغير السن وكان مع الشهيد عبدالله ظقاي وقد هرب بسلاحه صوب الحدود الاثيوبية ودخل بالفعل مدينة الحمرا وتم القبض عليه داخل المدينة قبل ان يصل لمركز الشرطة لتسليم نفسه كما يدعي .

هذه المعتقل هو الوحيد الذي كان غامضا بيننا، كان يقول انه إثيوبي من أبناء غوندر وان أسمه تسفاي، إلا ان شمبل بلو الذكر ورد ذكره في الحلقة الماضية كان يشتمه أمامنا ويقول ” انت إريتري ومن أبناء بركا ولا تسيء لمدينة غوندر ” والتي هي مدينة الضابط الإثيوبي المشهور آنذاك شمبل بلو، وقد علمنا لاحقا انه فعلا من منطقة بركا وقد خطف من اسرته وهو طفل ونشأة في نواحي مدينة الحمرا.اليوم الواحد داخل السجن طويل ككل أيام السجون، لذا تحتاج لضبط النفس وان تتعلم كيف تبدد القلق .. قلق الإنتظار والضغط النفسي والألم الجسدي من القيود التي تلازمك ليل نهار وتعيق حركته حتى عند تناول الوجبات البائسة ، هذا بجانب بؤس الفراش والغطاء التي لا يقي من البرد، لذا فالأمنية الوحيدة التي ترواد الإنسان هي الحرية . تمثل القصص في مثل حالتنا هي المخرج الوحيد لكسر الرتابة والملل وتخفف القلق.. هذه القصص لها تأثيرها الكبير لذا تسمعها وتنصت إليها مهما كانت صحتها .والحالة هذه فان أي شيء واي حديث او سماع القصص مهما كانت نوعها ، والتي تخرجك من مثل هذه الحالة العصيبة لها تأثيرها الكبير جدا وتتمني ان تسمعها بلهفة . حتي الحلم لامثيل له لأنه يجعلك تلتقي مع ناس وأشياء وحوادث طبيعية وغير طبيعية تتخيلها ولكنها لا تدوم وتتبدد عند الاستيقاظ . وهذه الأحلام أيضا ليست كأحلام اليقظة أي انك لا تحلم بما تريد ، حيث تشاهد أحلام مزعجة وسيئة وتتمني لو لم تنام . ويسعدك ان تسمع أي شيء من خارج السجن .. أزيزالطائرات وهي تطير وان لم تشاهدها وهي تحلق فوق سماء اسمرا ، صوت الراديو ، أصوت الحيوان …الخ كل ذلك يعطيك شعور بأنك خارج السجن . تسفاي كان يحكي لنا حكايات مختلفة وكانت تخفف عنا الهموم والقلق، وكذلك الكابلي وخاصة لأنني كنت اسأله كثيرا عن المناضلين وكان حكاياته ذات سرد جذاب ، والقصائد والأغاني الخاصة بعادات وتقاليد مجتمعنا في بركة ، وسوف اسرد بعض هذه الأشعار التي حفظتها بلغة التجري في نهاية هذه الحلقات . تسفاي كان صاحب الحكايات الأوفر حظا بين زملاء العنبر وكانت معظمها يدور عن السرقات والمشاجرات ومن تلك الحكايات ، ان الجمال التابعة للحكومة في السودان ترعى وهي مقيده بقيد حديدي مثل القيد الذي في يد كابلي ويدي وبحجم كبير يصنع خصيصا للجمال ويسمي القيد الانجليزي باللغة الايطالية . وقال بان اللصوص كانوا يفتحون هذا القيد باستعمال خيط متين بدل المفتاح الخاص به . يعملون للخيط عين ويدخلونه في الفتحة التي يدخل فيها المفتاح ويلفونه بقوة حول القفل داخل هذه الفتحة وعندما يسحبونه يخرج القفل من موقعه ويفتح القيد بانفصال القطعتين المكون منها ويأخذون الجمال بهذه الطريقة . هذه القصة كانت مفيدة جدا بالنسبة لنا لأنها دفعتنا للبحث عن كيفية التخلص من القيد الذي يكبل أيدينا . وتسفاي كانت له ايضا تجارب عن السجون وكيفية التقديم الي المحاكم ، ومن تلك حكاياته كان يقول قبل تقديم المسجون الي المحكمة يتم تقديمه الي النيابة العامة للتأكد من أقواله وهنا يمكن السجين ان ينكر تلك الأقوال امام النيابة بحجة انه ادلي بهذا الاعترافات تحت تأثير التعذيب وخارجا عن إرادته مع الكشف عن أثار التي خلفها التعذيب في جسده . وفي بلد يوجد فيه القانون مع ان السلطة التعسفية يمكن ان تلوي القانون كما تشاء قد يكون في بعض الأحيان مفيدا اذا كنت بريئا ، لانهم يحجمون عن انتهاك القانون كاملا . وانا مثلا عندما انتهت كل التحقيقات واخذ شامبل بلطي وقت طويل معي وكتب كل أقوالي ابتداء من الفترة التي كنت فيها طالبا ووقعت عليها . واعتقد عندما فكروا في تحويلي الي سجن “سمبل” او اتخاذ اجراء اخرى أخذوني مع اقوالي الي ما كانت تُعرف بالمحكمة الفيدرالية جنوب مقر الحكومة (قبي ) عبر الطريق المتجه الي منطقة “قودايف” وهو علي ما اعتقد مقر النيابة العامة . وقبل التحرك هددوني بأنه اذا أنكرت أو غيرت اقوالي سوف أعود الي التحقيقات ثانية . وانا تذكرت حكاية تسفاي وعندما سألني احد الاشخاص و قال لي هل هذا أقوالك قلت له نعم ولكن تم تهديدي بالتعذيب إذا غيرت أقوالي ، وعليه لا استطيع نكرانها . أملا بأن يفيدني هذا عند المثول أمام المحكمة . وبعد ان سمع قولي كان يكتب وان لم اعرف ماذا كتب . بعدها رجعوني الي سجم “ماركاتو”. كما اشرت فهم اسياد للقانون والقانون ليس سيدهم وعليه لا ضمان في ذلك ويمكن ان يحاكموك كما يشاؤون . فانت امامهم تعتبر خارج عن القانون ، خائن وليس طالب للحرية والحقوق ولست مناضلا . والعجيب. في الأمر ه انهم يعلمون بأن هناك قانون وان لم يحترموه بالكامل ، وهذا القانون يخلق نوع من الضغط علي عقولهم وتنتابهم نوع من الرهبة . بعد خروجي من السجن صادفني حادث مماثل ففي سنة 1983 م ايام حكم الرئيس الراحل نميري في السودان وكان هذا عندما اعتقل الأمن السوداني الاخوة المناضلين ابراهيم محمد علي , الشهيد عبدالله عمر ناصر ، محمد نور عبد كحساي ، منقستأب اسمروم ، رمضان صالح ، تخلي ملكين ، ولديوسوس عمار ، برهاني تولدبرهان وامانئيل هبتي ( منقستو ) . عندما داهموا رجال الأمن السوداني قبل طلوع الشمس المنزل الذي كان فيه الشهيد عبدالله عمر ناصر لاعتقاله اخضروا معهم اثنين من الماره في الشارع وادخلوهم المنزل أثناء عملية الدهم والتفتيش وكنت حينها بالمنزل . اخذوا معهم حقيبة بها بعض المستندات والأوراق الرسمية للجبهة واصطحبوا معهم الشهيدعبدالله ناصر فقط . والأشخاص اللذين احضروهم معهم من المارة احدهم شخص يظهر يمر دائما بجوار المنزل كل الصباح قادما من إتجاه الحي الشهير بصنع الخمور البلدية . اما الثاني فهو مختل عقليا يتواجد دائما في الحارة نفسها .وكنت أتساءل عن سبب احضارهما عنوة أثناء عملية الدهم والإعتقال ، واذا كان الأمر كما قيل لي أن قوانينهم تستلزم حضور أشخاص أثناء العملية كشاهدان في حال إنكار المعني أو المتهم امام المحكمة للتهم أو المضبوطات وكذا لإبعاد شبهة التلفيق .وكنت أضحك كلما أشاهد الرجل (السكير) وأقول في سري : كيف كان سيشهد أمام المحكمة وهو غائب عن الوعي حينها ولايدري ماكان يدور أمامه .نعود لسجن “ماركاتو” ففي الشهور الأولى لوجودي هناك إنتشر خبر وجود معتقلين من الخارجين عن القانون كما كنا نوصف داخل المعتقل وهذا ما كان يدفع اقراد من الشرطة أو من القوات البحرية الإثيوبية يأتون لمشاهدتنا وأتذكر هنا ان جندي جاء للعنبر وسأل عم ( وروبيلا ) فاشارو إلي فإندهش الجندي وقال بتعجب : هذا !! هذا مستحيل إنه صغير في السن !!. وسألني هل أنا طالب ؟ فقلت له في محاولة لإبعاد التهم.نعم أنا طالب وما دفهني لترك الدراسة والإلتحاق بالخارجين عن القانون هو خوفي من السجن لأن الحكومة إعتقلت زملائي. ومرة زارنا ضابط مشهور آنذاك وهو إريتري الجنسية وكان يتوهم أنه تعرض لعملية إغتيال فاشلة وعندما شاهدني هذا هو !! لا شك هذا الذي حاول إغتيالي .ونواصل …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى