صراع الحضارات عمر جابر عمر
19-Mar-2006
عمر جابر
الحلقة الأولى
خلال الاشهر القليلة الماضية تابعنا حملات اعلامية مكثفة,متعددة المصادر ومختلفة المقاصد – كلها تحدث عن بدء صراع حضارى ومن وجهة نظر الغرب فان ذلك يوكد نبوءة ( صامويل هنتنجتون) العراب الذى يعتبره الغربيون فيلسوفهم فى هذا الشأن.
الاتحاد الاوربى يتحرك ويعلن ضرورة ( حوار الحضارات) وموتمرات و ندوات تعقد تحت شعار ( تحالف الحضارات ) وولى عهد بريطانيا يتحرك من اجل الحوار.كل ذلك يجرى ويحدث والصورة الحقيقية مغطاة بظلال تجعل المشاهد لا يتعرف على اطراف الصراع ولا يتبين معالم وقسمات القوى التى تقود ذلك الصراع.ولكن وقبل ان نغرق فى التفاصيل وتجرفنا تيارات واعاصير جانبية نطرح سؤالين:1/ماذا نعنى بالحضارة ؟ ما هى خصائصها وشروطها ؟ 2/ من هى تلك الحضارات التى اصبحت فى حالة ( اشتباك) وكتب عليها ان تتصارع واين هى بالتحديد ؟؟اولا : الحضارة – المعنى والمبنى.بما اننا فى عصر تراجع فيه الاتفاق والتفاهم على المسلمات والبديهيات ناهيك عن التفاصيل – وبما ان الغرب يعتبر نفسه مصدر ومركز المعرفة المعاصرة _ فاننا سنلجأ الى قواميسهم وموسوعاتهم للحصول على تعريف للحضارة . كذلك سنقرأ للمحللين والمؤرخين من نفس ذلك الغرب لنعرف اين وصلت حضارتهم.الكلمة فى الاصل مشتقة من اليونانية للمدينة او ساكنها ( بالعربية هى ايضا الحضرى الذى قيم فى الحضر )ظهر التعبير فى اللغة الانجليزية لاول مرة عام 1722 وذلك كنقيض لكلمة (barbarity الفرنسية وملخص تعريف عبارة(Civilization) هو :• مجتمع مركب ( غير بسيط) متطور فى اسلوب حياته وينطلق من المركز ( المدينة ) • يتميز ذلك المجتمع بتطور تقنى ( الابداع والاكتشافات وتحقيق التواصل والاتصال).• تحقيق مستوى متقدم من العيش والرفاهية • اسلوب حياة متطور وقوة اقتصادية وعسكرية تحمى تلك الحضارة – تجعل من حياة البشر اكثر رقيا وترتفع بالانسان الى درجات اعلى من القيم الفاضلة والمبادىء الانسانية التى تحفظ للانسان كرامته وحريته وتفتح امامه ابواب الابداع والاكتشاف • تطور الفنون والثقافة والعلوم ( الكتابة والطباعة الخ) ذلك موجز خصائص اية حضارة كى تتكون وتستمر .ولكن تجربة العالم اثبتت ان الحضارة تتطور وتتوسع وتصل درجة من الارتقاء تبدأ بعدها بالانحدار ومن ثم السقوط.لهذا نسمع ونقرأ عن حضارات سادت ثم بادت – من المكسيك – مصر – بابل – الصين .. الخ .. الخ والحضارة الاسلامية !! واسباب سقوط الحضارة وانهيارها عديدة ويختلف حولها المؤرخون- والحضارة السائدة اليوم هى الحضارة الغربية بغض النظر عن الاختلاف بين اوربا وامريكا ( سنذكر ذلك لاحقا )الحضارة الغربية : بدأت هذه الحضارة منذ ما يقرب من ثلاثة قرون – نمت وتوسعت واصبحت قادره عسكريا واقتصاديا على تحديد حدود البلاد ومصير العباد وتطورت تقنيا بحيث اصبحت توجه العالم اعلاميا وثقافيا وتحدد اجندة ما يسمى بالمجتمع الدولى وخصائص ومرتكزات هذه الحضارة الغربية بالاضافة الى الشروط العامة التى ذكرنا تتمثل فى ما يلى : 1/ خلفيتها الفكرية ومنطلقها الفلسفى يرجع الى الفلسفة اليونانية.2/ تبشر بالحرية والعدالة والمساواة ( شعارات الثورة الفرنسية) لكل الشعوب.3/ تبشر بحرية الفرد وحقه فى الاحتفاظ بخصوصيته والدفاع عن نفسه.4/بالرغم من التفرد الاثنى والتميز الثقافى لبعض المجموعات فى الغرب الا انها فى المحصلة النهائية تعتبر جزءا من الحضارة الغربية ولها من الحقوق ما للاجناس الاخرى (السود فى امريكا) 5/ تبشر الحضارة الغربية بتحاور وتعاون جميع البشر خاصة لتحقيق مصالح اقتصاديه مشتركة ومحاربة الفقر والمرض والتخلف وتلك هى شعارات ( العولمة) Globalization 6/ الدين – الحضارة الغربية فى جوهرها ماديه – بمعنى انها تقبل وتتتبع ما ينتج عن الحواس الخمسة وما تؤكده المختبرات العلمية.7/ تبشر بالدموقراطية وانتخاب ممثلين للشعب لادارة شؤن البلاد8/ سيادة القانون وخضوع الجميع للدستور واعتماد مبدأ المراقبة والمحاسبة فى كافة مفاصل ومستويات الدولة.9/ حرية التعبير وحرية تكوين الاحزاب والتداول السلمى للسلطة.10/ حرية التجارة واقتصاد السوق المفتوح وصولا الى العولمة Globalization وحرية حركة الاموال والاستثمار.تلك هى اهم مرتكزات الحضارة الغربية ولكن لدينا وقفة لنرى على ارض الواقع ماذا حققت تلك الحضارة وهل استطاعت ان تطبق ما بشرت به وتحقق الشعارات التى رفعتها ؟ولكن قبل ذلك نتوقف عند بعض الاختلافات بين اوربا وامريكا – انهما يتفقان تقريبا فى كل شى باستثناء قضيتين ولكن ذلك التباين لا يغير من الصورة العامة ولكنه يعطى كل منهما خصوصية تميزه فى السلوك العام وفى التعامل مع بعض القضايا الحياتيه.• الدين – تجربة اوربا مع الكنيسة تجربة مريرة منذ عهد محاكم التفتيش وتحالف الكنيسة مع الحكام والاقطاعين ودفاعها عن الظلم والظالمين واستخدام الدين لتبرير جرائمهم.لذا بعد انتصار الثورة الفرنسية واتساع المد التحررى قاطعت الانظمة الاوربية الكنيسة وابعدتها عن التدخل فى الشئون السياسية وقلصت دورها فى التاثير على الحياة اليومية للمواطنيين بحيث اقتصر دورها على تنظيم مراسم احتفالية والاشراف على طقوس الزواج والموت .ولكن تظل الثقافة الاوربية رهينة للتركة المسيحية وتعاليمها ورؤيتها خاصة فى الجانب الروحى.اما تجربة الولايات المتحدة الامريكية فانها تختلف – بسبب طبيعة المهاجرين الاوائل وكذلك بسبب الصراع بين الانجليز كمستعمرين وبين الامريكيين كمحاربين من اجل الحرية والاستقلال.الكنيسة تكونت خلال تلك الحقبة وتأثرت بذلك المناخ واصبحت جزءا من عملية استيطان المهاجرين وبناء مجتمعاتهم الجديدة وكذلك فى المشاركة فى معركة التحرير.لذا فان الامريكى لا يحمل عداء للكنيسة بل على العكس يجد فيها ملجأ اجتماعيا ومتنفسا روحيا ونبعا ثقافيا يساعده فى فهم وتفسير الكثير من التحديات التى تواجهه.* الثقافة – بالرغم من ان المنبع واحد الا ان التطور الذى حققته اوربا فى الاداب والفنون جعلها تدعى انها فى موقع متقدم على امريكا والتى يصفها بعض الاوربيين بثقافة ( رعاة البقر ) ((cowboys وماكدونالد والكوكاكولا!الامريكيون بالمقابل يصفون اوروبا بالقارة العجوز التى شاخت وتخطاها الزمن واصبحت شبيهة بمتحف تاريخى وثقافى.الاوربيون يعترفون بالتفوق الامريكى فى مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والقوة العسكرية ولكنهم يدعون ( الاوربيين ) بانهم اكثر انسانية وتمسكا بالاخلاقيات والمبادىء والقيم العليا.هكذا بدأت حضارة الغرب وفى المرحلة الاولى كانت القيادة لاوربا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ثم تقدمت امريكا وتولت القيادة حتى اليوم .والسؤال: ماذا كان حصاد تلك الحضارة وتاثيرها على الانسانية بصفة عامة ؟لو راجعنا مرتكزات الحضارة الغربية ومنطلقاتها وكيف تم تطبيق المبادىء والشعارات التى بشرت بها يمكن رصد الحقائق التالية :1/ مبدأ الحرية والعدالة والمساواة- قامت اوربا باستعمار اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية – بحجة تطوير شعوب تلك القارات ونشر الحضارة الغربية .النتيجة كانت نهبا منظما ومبرمجا ومتواصلا لثروات وخيرات تلك الشعوب وتصفية كل من قاوم او طالب بالحرية والمساواة .وبقيت شعوب تلك القارات حتى اليوم فى فقر وجهل تفتك بها الامراض .وحتى بعد ان نالت تلك الشعوب استقلالها ساندت اوربا انظمة دكتاتورية موالية لها لاستمرار استنزاف خيرات تلك البلاد.كما انها زرعت الفتن بين شعوب تلك البلاد ورسمت الحدود دون مراعاة للتركيبة الثقافية والاثنية والتداخل الاجتماعى ما ادى الى صراعات بين تلك الشعوب حول الحدود واوربا تقوم بتمويل الاطراف المتصارعة بالاسلحة !2/ نتج عن تلك الحقبة الاستعمارية تدمير للبنيه الاجتماعية والثقافية والفكرية لتلك الشعوب وتصارعت اوربا فيما بينها لخلق مراكز نفوذ وتوابع لها حتى اليوم ( الكومنولث البريطانى والمجموعة الفرنكفونية والثقافة الاسبانية فى امريكا اللاتينة ) 3/ ومن اوربا – نشأت اكبر واخطر حركة فكرية عنصرية ( النازية والفاشية ) دمرت اوربا ومناطق واسعة من العالم وراح ضحيتها ملاين البشر – وكانت خاتمة تلك الحقبة القاء اول قنبلة ذرية حين بدات امريكا خطواتها لاستلام زمام قيادة الحضارة الغربية. يقولون اليوم ان الضمان لعدم استخدام السلاح النووى هو وجود نظام ديمقراطى ولهذا يعارض المجتمع الدولى ( عمليا اوروبا وامريكا ) امتلاك الدول غير (الديموقراطية )لهذا السلاح .والسابقة الموجودة هى ان النظام الديموقراطى الامريكى هو الذى استخدم هذا السلاح ! 4/ اما عن الاخلاقيات والمثل العليا وحقوق الانسان فحدث ولا حرج:• فرنسا لم تعترف حتى اليوم بما فعلته قواتها الاستعمارية فى العالم – بل انها اصدرت قرارا تشيد فيه بدور تلك القوات ! • بريطانيا قسمت العالم شرقا وغربا – شمالا وجنوبا وما زالت تتحدث عن بريطانيا العظمى ! وبعد غزو العراق لم يجد رئيس الوزراء ( تونى بلير ) حجة تسنده فقال انه طاوع ضميره المسيحى!! • عن العنصرية والتفرقة : السجل – ما ظهر ونشر منه – يعكس ازدواجية فى التعامل وغياب تام للاحساس بمعاناة الاخرين . ما حدث فى( سربنستا) – يوغسلافيا من تطهير عرقى حيث قتل ما يقرب من عشرة الاف شخص فقط لانهم مسلمون تحت سمع وبصر المجتمع الدولى وتحت حمايته يمثل عارا لا يمكن ان تجد له الحضارة الغربية مبررا. وما حدث كذلك فى رواندا وبورندى يؤكد ذلك التوجه والمنطلق ولا تفيد كثيرا مظاهر الصحوة المتأخرة ومحاكمة بعض الرموز والحال ان الاسباب الحقيقية تكمن فى النهج الاستعلائى الغربى والتركة الاستعماريه المتراكمة .بل ان ما حدث فى داخل الحضارة ابان اعصار كاترينا وما حدث للسود فى نيو اورلينز من اهمال وتهميش وعدم اسعافهم يوكد ان الاستعلاء على الاخرين مكون اساسى من مكونات الثقافة الغربية وان تركة تجارة الرقيق من القارة الافريقية كانت وما تزال تسكن فى الذاكرة الجمعية لتلك المجتمعات 5/ الارهاب وهوما لم تتفق على تعريفه الدول والمنظمات والهيئات الدولية .ولكن حتى اذا اخذنا التعريف الغربى – والذى يصنف مقاومة الاحتلال ضمن الارهاب – فما هو ذنب الاف الابرياء المدنيين الذين قتلوا فى العراق على يد القوات الامريكية وحلفائها؟ وما هو ذنب الاف اخرى تذهب يوميا ضحية تلك الحملة فى مختلف بقاع العالم ؟؟ 6/ العولمة – مع انه برنامج غربى الا ان الغرب قد فشل امام اول اختبار حقيقى لتنفيذه – شركة عربية متواضعة تقدمت للاستثمار وذلك بالاشراف على ادارة موانئ امريكية – وقامت امريكاولم تقعد! صفقة تجارية مجردة من اى هدف – ولكن المخزون الثقافى الغربى اعطاها ابعادا ارهابية ودينية واثنية !! من حقهم الاستثمار كيفما شاءوا واينما اختارو ولكن ليس للاخرين ذلك الحق انها عولمة غربية والعالم كله اصبح يسمى باسمهم وياخذ صفاتهم – الم تكن الحرب الاولى (عالمية) وكذلك الثانية رغم ان اكثر من ثلثى سكان الكرة الارضية لم يشارك فيها !؟ 7/حرية التعبير – كانت حكرا عليهم ولكن عندما زادت عن المسموح به تدخلوا فى الحريات الشخصية واصبحوا يراقبون ويتابعون ويتنصتون على كل فرد دون اذنه ! بل ان وسائل الاعلام التى كانت تفاخر بحريتها فى الحصول على المعلومات ونشرها حوربت واعتقل الصحفيين الذين نشروا ما لا يسمح به. كما ان الادارة الامريكية اصدرت قرار بمنع نشر صور نعوش القتلى من الجنود الامريكين فى العراق حتى لا تزيد احتجاجات المواطنين الامريكيين ( استفادة من دروس حرب فيتنام ).وفرنسا منعت الحجاب فى مدارسها مع انه خيار شخصى متعلق بحرية الفرد.ولكن حرية التعبير مكفولة للجميع للتهجم والاساءة الى الاخرين – لذا شاهدنا الرسوم المسيئة الى نبى الاسلام محمد( صلى الله عليه وسلم ) والتهكم على المسلمين والعرب باعتبارهم) متخلفون وارهابيين(!! ثم ماذا بعد؟؟ حقيقة الامر ان الكتاب والمفكرين والمؤرخين الغربيين هم اول من كتب وتحدث عن الخلل الذى صاحب الحضارة الغربية وتنبأوا لها بالتراجع والانهيار.1/ عام 1869 كتب الروسى danilevsky nikoli ( دانلفسكى نكولاى) حول مصير تلك الحضارة وقال انها تحمل بذور فنائها2/وفى عام 1922-1918 كتب الالمانى Spengler Oswald (سبنجلر اوزولد) عن سقوط الغرب decline of the west 3/كذلك كتب وبشر الايطالى Giovanni Vico ( جيوفانى فيكو) والامريكى brooks Adamsعام 18954/أما اشهر المورخين الغربيين البريطانى (ارنولد توينبى) Toynbee والذى كتب موسوعة كاملة بين الاعوام 1945 -1934 تتكون من اكثر من عشرين جزءا بعنوان (صعود و سقوط الحضارات) بعض الؤرخين يفسرون سقوط الحضارة بعوامل خارجية ( غزو وحصار الخ.) ولكن (توينبى ) يؤكد على اولوية العوامل الداخلية ( اخلاقى ودينى) اكثر من العوامل الاقتصادية والخارجية .ولكنه يضيف ايضا عامل البيئة ( ليس الطبيعة فحسب ) بل المحيط الاجتماعى والثقافى وكراهية من حولك وشعورهم بالظلم والغبن. اذا كانت تلك هى الحضارة الغربية فمن هى الحضارات الاخرى التى تتصارع معها هذه الحضارة الغربية ؟ الى الحلقة القادمة