قراءة في برتكولات ضواحي لندن..2.. محمد قناد
17-Apr-2014
عدوليس
كنت قد استعرضت في الجزء الاول من هذه السلسلة مفهوم الفكرة، واساس البناء، الذي تقوم عليه فكرة المنخفضات الارترية، وقبل الدخول في باقي سفرنا، الذي كتبنا له ان يكون اجزاء في نقد برتكولات ضواحي لندن، حرياً بنا ان نقف علي بعض النقاط التي ذكرها من رفضوا نقدنا للسيمنار،
و اولها فكرة الحرية وحرية الاعتقاد والانعتاق ومشروعية نوع هذه الافكار ، وعن كيف نكون ديكتاتورين كعصبة اسمرا كما وصفنا البعض، فقط لأننا مارسنا حقنا في نقد تحليلي لما هو مطروح في الساحة، بحكم اننا جزء من هذا الواقع وهذه الازمة التي ابتلينا بها، منذ ما يقارب الثلاثة عقود من عمر الوطن، وهي ندب علي جبين التاريخ وعلامة ودلاله علي عهود الهوان والذل، الذي انتج عقول ضواحي لندن، التي لا يمكن لها ان تنموا في جو حريات صحي نظيف.
تعلمنا من الاديان ان السلطات ثلاثة -سلطة السماء، وسلطة المجتمع، وسلطة الفرد- وهنا لا تدخل سلطة الحداثة الدنيوية كسلطة رابعة لأنها خارجه عن السياق الفطري لمفهوم الإستخلاف في الاديان السماوية الثلاثة، وبهذا المنظار الذي يعترف به اهل المنخفضات، والذين يتخذون من الدين والمعتقد الفردي، محدد لهويتهم وجغرافيتهم و اساس من اساس فكرهم، سنستخدم ادواتهم ذاتها في تفكيك النص الذي حادوا به، و لوا عنق حقيقته الي مأرب العقل القاصي، ليضفوا شرعية سماوية، خارج حدود الطبيعة البشرية المنفصلة عن الوعي الوجودي، تدغدغ مشاعر العاطفيين، الذين يعطلون ويعتقلون عقولهم في صناديق الخدعة الكبرى -أهل الشأن- والحل والعقد، الذين اجتمعوا في لندن يقررون كما يشاؤون في شأن اهل المنخفضات جميعاً .
ونحن كجزء اصيل من هذا المجتمع، فوضنا انفسنا باستعمال السلطة المجتمعية في عملية نقدنا، ذلك لان سلطة ذاتهم الفردية لم تمنعهم من هذا التدحرج، ونحن نستخدم في ذلك ادوات ردع لها شرعية الاستخدام، مثل الادوات التاريخانية والدينية واللغوية والراهن السياسي والمصيري، الذي رسمته دماء الشهداء لوطن لا يقبل التجزيئه، ومن يرفض علينا سلطة المجتمع الراصدة لكل شيء، سنرفض عليه احقيه التعبير عن ما بداخله نتيجة لاستعماله الخاطئ لسلطته الفردية، وهذا هو ما نملك من عبق الوطن، ومن فصول التاريخ، الذي يتسرب من بين جوانحنا، وعن حلم يداعب الكل بأنه سيعود ذات يوم، فكيف نعود لوطن شرزمناه في المنفى، وسمحنا لبعض الضعاف اللعب بمستقبله، فهذا اخر خط أن سمحنا لسلسلة المؤامرة العبور فوقه، او التهاون معه، سنبكي حيث لا ينفع البكاء، سنصبح مقاطعات تقودها الكهنوت، وحراس المعبد القديم، وهذا واضح جدا في وثيقة ضواحي لندن لمن يقرأ بين السطور.
فإرتريا التي تأسست علي مفهوم الدولة الحديثة، والتي تحوي داخلها التنوع الانساني والديني والثقافي، قد تعايش فيها هذا التنوع، كما تعايشت شعوب في دول كثيرة، وكان سبباً في تقدمها السريع، إلا في عالمنا الثالث المتخلف من حيث تفهم التنوع، لأنه يتحرك من رهاب ان الاخر عدو، وهي ثقافة الغابة والبداوة القبلية، التي ترى في الاخر متربص بها، واكثر الافكار التي ترفض الدولة الحديثة هي ما يسمى بالاسلاموية، التي لا يمكن ان تنزل كفكرة في قالب الدولة الحديثة، لذلك دائما ما يسعى الاسلاميون (المصطلح الغير مضبوط علمياً ودينياً) الي تفكيك انظمة ومؤسسات الدولة الحديثة، متى ما حكموها وسيطروا عليها، كما فعلت الانقاذ في السودان تحت عنوان (التمكين )، وهذا هو الذي سيحدث في ارتريا ان تم تمرير الخطاب الثقافي.
ونظرية تفكيك قالب الدولة الحديثة، ليست نظرية قرآنيه، او نابعة من المنهل الديني الاول للإسلام -القرآن- مصدر التشريع والمعرفة الاول، لكنه شعور البداوة التي تم اسقاطها في دولة الخلافة، وكما يقول ابن خلدون كلما احس هؤلاء -العقل القبلي- ان فعل الغزو سيتوقف بتأسيس الدولة، يقوموا بهدمها وارجاع التاريخ للوراء -متى يتم البنيان وغيرك يهدم- او هكذا يوضحها صاحب مدرسة النقد -الجابري- في سلسلته، التي تحامل عليها طرابيشي، فالاسلاميون يسعون دائماً لتأسيس مجتمع صغير داخل المجتمع الكبير، الذي تحتويه الدولة الوطنية، ودائرتهم الصغيرة تنموا دائما منفصلة ومنعزلة عن المحيط، المحيط الذي يصفوه بانه يعيش جاهلية مكة قبل الرسالة-حسب ظنهم- وما يعتقدون، ليأتوا ويكتشفوا بعد زمن طويل بانهم هم الذين منفصلين عن الواقع، وهو ما ترجمه صلاح الدين الجورشي في كتاب الاسلاميون التقدميون التفكيك واعادة التأسيس.وما تعلمناه من متابعة السياسة الارترية، ان اسواء ما فيها العقل الانتهازي، الذي لا يوقفه وازع ديني او عرف وطني، يهدف دائما الي تحقيق مأربه علي حساب ام القضايا، دون اكتراث او اهتمام للوطن، ومواجهة هذا العقل لا تكون إلا بتفكيك الارضية والمنصة التي يقف عليها، وينطلق منها، و موضعتها في اطارها الصحيح الذي ينبغي ان تسوق به في سوق الخطاب السياسي، والعقل الانتهازي في مجتمعنا الذي نتصفح اشكاليته ونقلب صفحات تاريخه، نجده حاضر بكل ثقلة الماضوي والحاضر الذي يريد ان يكون من ضمن المستقبل، في تحدى لإرادة العقل الجمعي الوطني الذي يستشعر الخطر دائما في اللحظة المناسبة علي مر تاريخه، فيكون سباقاً الي صناعة المنعطف التاريخي، والاغرب من حضوره -العقل الانتهازي- قوة طرحة التي يتخيل للشعب بانها تقف علي شرعيه التسويق الخطابي العام، والذي يتم الباسه كيفما شاء العقل الانتهازي من صنوف الواقع، ليرقع جبته المتناقضة من تناقض الخطاب .
فان من يؤمن الان بوجود اشكالية ثقافية في ارتريا، ويهتدي بالقراءات التي تدعي بوجود اشكالية ثقافية ارترية، هو مجبر غدا ان يؤمن بالقراءات التي تقول بوجود اشكالية دينية، وذلك بعد ان يتمركز هذا الخطاب التحليلي الفطير في عقله، فخطورة هذه القراءة للمشكلة الارترية –من الزاوية الثقافية- تكمن في انها تقول تحت سقف الاختلاف الثقافي ان ارتريا تعيش حالة حرب دينية، وهذا واضح لمن يستطيع تفكيك الخطاب الانتهازي المبني علي الحرب الثقافية، بان المقصود هنا هو اظهار نوع من اسباب الصراع الديني، وهذا خطر يجب التوقف عنه ومن يمرر هذه القراءة، غدا سيمرر القراءة الطائفية، لأنها ستأتي عارية دون لباس الثقافة التي تتدثر بها الان وتختفي داخلها، وتماماً كما شرعن انفصالي السودان فلسفة انفصال جنوبه علي الحالة الاستعمارية كقراءة مبتورة عن الحدث التاريخي الذي اسس لفلسفة انعزال الجنوب والذي كان في العهد التركي المصري الذي اعتمد علي الاسلام العروبي والذي وقف ضده الاسلام الافريقي الصوفي فيما تسمى بالثورة المهدية، فالصوفية التي كانت تمد حبائل التواصل مع الجنوب اللاديني في ذلك الوقت رفضت تماماً الفصل الديني النابع من قبل الاسلام العروبي فكانت المهدية ثورة قادمة من جذور الانسان السوداني ذا الطبع الصوفي، وهكذا من جديد عندما حكم الاسلام العروبي انفصل الجنوب، وهكذا الان دارفور تقوم بالمعالجة التاريخانيه.
ولعمري لم اجد تناقض في عالم السياسة مثل التي حملته وثيقة لندن والتي ترفع شعار المناطقية الثقافية -وهو مصطلح جديد بدأ يتكون وياخذ شكله النهائي الان- المؤسس علي اساس الصراع الديني الذي يتخفى داخل مفهوم الصراع الثقافي، وتدعي -وثيقة لندن- شمولية الخطاب الوطني الذي هو ايضاً منقوص في سطور الوثيقة، وقد يكون ذلك منحة ربانية داخل هذه المحنة بان تخرج الوثيقة هكذا ركيكة غير قابلة للتعاطي والنزول لأرض الحقيقة، بما يفرضه عليها من تساؤلات ستخرج من بين شقوق تناقضها، الي بر الوطن الشاسع الكبير، فالمحنة والابتلاء الذي نعيشه، قد وطد اقدامنا في طين الوطن شجرا ذات جزور تاريخية وثورية، لا يمكن اجتزازها بهكذا فاس تحمله يد مرتعشة لا تستطيع البناء الفكري لمشروعها مهما حاولت من ادعاءات تجميل قبح الخطاب المبطن فيها، وتشرعن لفصل ثقافي قائم علي اساس ديني يتدثر وياخذ اقنعة عده ثقافية مناطقية قبلية…… الخ. ولا اجد مبررا لشخصيات هي منارات في بحارها العلمية، يهتدى بها الي شواطئ الأمان والحرية والديمقراطية، ان تنزلق هكذا لتدخل السوق السياسي -إن صح الوصف- بمدخل اقل ما يوصف به تجريد شرعية الواقع من خطابها الحقيقي، الي صناعة شرعية اللاواقع المصطنع في مراكز الحرب المقدسة والصراع الطائفي، بهدف تفكيك الممنوع والمقدس في صميم قلب تاريخنا و وديعة شهدائنا -دولة ارتريا- الموحدة، كان هذا خطأ من عقول يمكن لها المساهمة في خلق توازن بين الحكم القائم والتعارض البائن، ويمكنها ان تقوي هذه المجموعة موقف الذين يدفعون جميعاً نحو خلق واقع اخلاقي يأخذ فيه الجميع حقه دون اقصاء او تهميش لأي فرد من افراد شعبنا، الذي دفع جميعه دون استثناء مهر الحرية دماء و انفس، وكم من شهداء في ربوع إرتريا كلها بين احضان الارض المنخفضة او اللامنخفضه.
وكلما وضع التعاطي السياسي في الراهن الارتري الشعب بين خيارين -كبسا ومنخفضات- يكتشف الارتري بأن الخيارين هذا مقصود وهدف انتهازي لعصبة اسمرا، وهي التي تدفع الناس لاختيار هذا الخيار لإفراغ الساحة الارتريه من الخطاب الجمعي الشامل، والذي يعجل بهلاكها وموتها، فهل العقول التي تجمعت في ضواحي لندن، لم يصل ادراكها المعرفي والتحليلي لهذا البعد في الروءيه، ام انها ترى حتى الذين في المعارضة من ابنا كبسا مشاركون في هذا الوضع، وان افترضوا مثل هذه الفرضية حينها يجب عليهم تقبل سيل الاسئلة وفيضان الوطنية الذي سينهمر من اعلى قمة التاريخ علي رؤوسهم كما يحدث الان.
وكما وضحنا بان كل المدارس النقدية رغم اختلاف مشاربها ومنطلقاتها تتفق علي ان السلطة لا عقيدة لها غير عقيدة السلطة، ومن يحاول ان يبتدع بان عصبة اسمرا لهم عقيدة ارترية، حينها سنفرض عليه لغة النقد ومجبور علي التعامل مع النقد، لان الشأن الذي يكدر صفوه بالطائفية هو شأن وطني ليس خاص بنفسه، حتى يمنعنا من نقد خطابه الذي يشرع ويؤسس لبناء خطاب غير شامل لعموم القضية، والتهاون مع هذا الخطاب يعتبر مصيبة وطنية الكل مشترك فيها، ونقدنا لوثيقة لندن يأتي من قراءتنا لمالاتها ونتائجها المفزعة وإن مرورها دون اعتراض كما يطلب اصحابها، يعتبر موافقة عليها، وحتى الان نحن ندور في فلك نوعية العقل، الذي يحاول خلق متاهة يدخل فيها الناس كما تفعل عصبة اسمرا من تزيف للحقائق، يكون بموجبها مجموعة ضواحي لندن دفعوا لها دفعاً، إن كانوا يدروا او لا يدروا وهي رؤية قاصر وقراءة لا تعانق اشواق الوطن .
ومحاولة العقل القبلي المناطقي الان في ضواحي لندن تضمين تأسيس باب خلفي يدخل به الثورة الارترية الي التاريخ القبلي والمناطقي والديني ذلك في داخل وثيقة لندن، وفصل واقع الثورة عن القراءة الحقيقية لها فيصبح عواتي قائد ثورة المنخفضات وليست الثورة الارترية، وهنا تكمن خطورة هؤلاء انهم يجيرون التاريخ ويزايدون عليه، ويخرجونه من سياقه الحقيقي الي سياق اخر فصلوه بعقلهم المناطقي، ليخلقوا نوع من الكتلة التاريخانية التي تستحق ان يأتي دورها الان، وهكذا دون ان يدروا يقوموا بخلق حالة قرنليوسية، نتيجة للخطاب والقراءة المعطوبة للتاريخ، إنها حقاً مفارغة عجيبة ومدهشة، ان تطالب التاريخ بفصل سياقاته، ثم تأتي وتريد من الاخرين الذين فصلتهم عن سياقك احترام ما تصيغه يدك المجزيئه للتاريخ.وحتى ننفض ونزيح بعض الغشاوة والاغبرة وحالة الضباب التي تعتري فكرة -لماذا انطلقت الثورة من المنخفضات- كتحليل اجتماعي لبنية التركيبة الاجتماعية والجينية، ونوعية النسيج الاجتماعي، وطبيعة العقل الذي يتشكل وفق البيئة والطبيعة- واتماماً لهذه القراءة، سنجيب في المقالة القادمة علي السؤال الذي لا نجد له جواب واضح عميق في قرأته، لذلك حتى ننسف هذه المنصة التعليلية، والتي تقف عليها امثال فكرة المنخفضات، وتحاول الانطلاق منها واضفاء الشرعية علي فكرتها منها، وحتى يستبين ابناء المنخفضات الضحى بعيدا عن عتمة الضباب للقراءات التزيفيه، ونتعرف من قريب علي حقيقة الاسباب التي انتظمت في رصيف ثابت انطلقت منه الثورة من المنخفضات الارترية، كتحليل للمفصل والمنعطف التاريخي، الذي ينتهزه امثال اهل فكرة المنخفضات، لننزع عنهم اخر ستر يواروا به فكرتهم، ونكشف الغطاء عن مقاصد منهجهم الطائفي اللاشعوري المتستر بالثقافة والمنطقة، لنكتشف عمق جحر الارنب الذي دخلوه ويريدوا منا ان ندخل خلفهم اليه .