مقالات

الحـــدث والصـــدى. بقلم/أبوبكر على عثمان

17-Jun-2016

عدوليس ـ ملبورن

فى غمرة زلزال جنيف المرتبط بايجاز تقرير لجنة تقصى الحقائق التابعة للامم المتحدة عبر المؤتمر الصحفى لرئيس اللجنة فى الثامن من هذا الشهر، والذى اكد فيه توصل اللجنة الى ادلة (كافية) لتوجيه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الانسانية للحكومة الاريترية، اشتعلت مواجهات عسكرية عنيفة وفق المصادر الاثيوبية، وان كانت محدودة –مسرحا وزمانا-على جبهة ظرونا فى الحدود الاريترية الاثيوبية، مع احتمال وقوع اشتباكات مماثلة فى مواقع اخرى على امتداد الحدود. واذا كانت المناوشات والاختراقات من هذا الطرف او ذاك امرا مالوفا على مدى السنوات التى تلت الحرب الدموية بين الدولتين فى الفترة 1998-2000م، الا ان المثير فى الامر توقيتها وتزامنها مع تقرير اللجنة الدولية المشار اليها، وهو امر قد لا يكون محض صدفة. واذا كانت الحكومة الاريترية التى تواجه اخطر معركة لها مع المجتمع الدولية اتبعت اسلوب البلاغات المغتضبة للتعليق على تطور الاحداث العسكرية ، الاانها حاولت اضفاء بعدا دراميا على اسلوبها من خلال الاعلان عن نيتها على البوح بالمزيد من التفاصيل وان لم تحدد موعد ذلك ولا طبيعة هذه التفاصيل.

على العموم اتفق الطرفان المتنازعات ولاول مرة على وقوع الحدث فى تزامن غير مألوف،و اتهم كل طرف الاخر باشعال فتيل المواجهة. ومصدر الغرابة فى ذلك، ان موا جهات مماثلة وربما بصورة اعنف ظلت تحدث فى اوقات مختلفة دون الاعتراف بها، او الاشارة الى ذلك من هذا الطرف او ذاك، وظل الامر متروكا للتسريبات الصحفية عبر قنوات غير رسمية. الا ان الاكثر غرابة ان كلا الطرفيين اتهم الطرف الاخر بنفس الدوافع والاسباب لاشعال فتيل المواجهة العسكرية الاخيرة وهى صرف انتباه الراى العام المحلى والدولى مما يواجهانه من مشاكل وتحديات داخلية تهددان وجودهما، وان اضيف ملف الجرائم ضد الانسانية فى الحالة الارترية.وربما كان كلاهما صائبا ومحقا فى ذلك!. الا ان ألأكثر اثارة كان تركيز المسؤل الاثيوبى الذى تحدث لوسائل الاعلام بان خسائر كبيرة لحقت بقوات الجانبين جراء هذه المواجهة، وهو امر ايضا غير مألوف ولم نتعود عليه مطلقا. ومن غير المتبع ان تتطوع حكومة ما او شخص يمثلها باعلان نتائج المعركة وتضخيم خسائره بوصفها بالكبيرة دون ايراد تفاصيل عن طبيعة هذه المعركة وحجم القوى البشرية والاليات العسكرية المشاركة فيها. ربما كان ذلك ممكنا ومقبولا للقول بأن قوات هذا الطرف او ذاك الحقت خسائر كبيرة بالقوى المعادية، او ان الحرب انتهت بشكل نهائى وكان ذلك للتعبير عن اهوالها وعدم الرغبة فى العودة اليها. او ربما كان ذلك مقصودا فى حد ذاته للدلالة على ان احداثا اكثر اهمية تلوح فى الافق وفق تصور المسؤل الاثيوبى سلما كان الامر ام حربا. ومن غير المستبعد ايضا ان تكون المناسبة فرصة اراد المسؤل الاثيوبى استغلالها لتوجيه رسائل ذات مغزى على المستويين الداخلى والخارجى لمن يعنيهم الامر. وبالعودة الى جنبف، ما من احد عاقل يتمنى ان يوضع مكان السيد يمانى جبراب مسؤل الشؤون السياسية (للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة) وهذه هى صفته التنظيمية الرسمية، وان قيل ايضا تمددت سلطاته لتشمل الشؤن التنظيمية، بعد اعتقال المناضل عبدالله جابر ضمن احداث حركة 21 يناير 2013م . وهنالك ايضا لقب اخر تضفيه عليه وسائل الاعلام الاجنبية وهو مستشار الرئيس للشؤون السياسية اعتمدته ايضا وسائل الاعلام المحلية من كثرة تكراره. والصفة الاخيرة كانت اكثر ملائمة على مايبدو لطبيعة المهمة التى كلف بها فى جنيف لتقديم وجهة نظر حكومته حول تقرير لجنة تقصى الحقائق التى اكدت بعبارات واضحة لالبس ولا غموض فيها ان الحكومة الاريترية متورطة فى انتهاكات صارخة لحقوق مواطنيها بشكل منتظم وعلى نطاق واسع منذ تحرير البلاد فى العام 1991م. مكمن الخطورة فى لائحة اتهامات اللجنة الدولية للنظام الارترى لاتنحصر فى تعدد اشكال الجرائم ضد الانسانية المتهم بارتكابها فحسب، بل كذلك ان هذه الجرائم ظلت ترتكب على مدى ربع قرن هو عمر النظام الاريترى،وكذلك الدولة، وبشكل منظم، وعلى نطاق واسع، مما يثبت وجود النية المسبقة على ارتكاب الجريمة او توافر القصد الجنائى بلغة اهل القانون. كما ان لائحة الاتهام مفتوحة لاضافة المزيد من الجرائم متى ماتوافرت الادلة على ذلك. فى الواقع، ان الجرائم المتهم النظام بارتكابها ضد شعبه والتى تشمل (الاستعباد، الاخفاء القسرى،السجن دون محاكمات،التعذيب،الاضطهاد،الاغتصاب والقتل المتعمد) تجرد النظام من اى مسوغات اخلاقية اوقانونية، مما يطعن فى شرعيته واهليته، الامر الذى يجعله عرضة للابتزاز والمساومة على سيادة البلد وثرواتها لضمان سلامته، وبقاءه فى السلطة، والافلات من العقوبة التى يستحقها الجناة مهما كانت مكانتهم وسطوتهم.كشفت اللجنة كذلك وعلى لسان رئيسها بعبارات واضحة وصريحة، وان لم تخلو من القسوة، بان النظام الاريترى يفتقرللارادة السياسية،والمؤسسات العدلية القادرة على محاكمة المتهميين فى حالة المصادقة على تقرير اللجنة والشروع فى دعوة المتهمين للمثول امام المحاكم الدولية ذات الاختصاص فى مثل هذه القضايا. لذلك، فالرجل كلف بمهمة ميؤس منها، وعوامل فشلها تفوق بمراحل فرص نجاحها، ليس لانه غير مؤهل، فهو يحمل من الشهادات والتجربة السياسية والخبرة العملية مايشفع له بشغل الوظيفة، وان لم يكن وحده من يتمتع بذلك من رصفائه واقرانه ممن تقدموا الصفوف القيادية بعد المؤتمر الثالث للجبهة الشعبية فى العام1994م. فلا يمانى، ولا النظام الذى يمثله، بمقدوره المبارزة فى مثل هذه الساحات القانونية، وتحت الاضواء الكاشفة، وعلى مراى ومسمع العالم كله، بعد كل الذى ارتكبه من جرائم بحق شعبه. لا شك ان الضحايا كثر،واذا كان ليس بمقدور جميعهم المثول امام اللجنة، اما بتغييبهم بواسطة النظام دون محاكمات، او وجودهم فى مراكز اعتقاله الوحشيةتحت الارض او الحاويات، وحرمانهم حتى من مقابلة ذويهم، ناهيك عن مقابلة لجنة تقصى الحقائق التى حرمت هى الاخرى من زيارة ارتريا،الا ان ماتوافر للجنة من ادلة وشواهد يبدوا انه كان كافيا لصياغة لائحة اتهامها ضد النظام الارترى.اذن والحال هكذا، فالرجل ومرافقيه جاؤا لمواجهة فريق عمل انجز مهمة عمله بمهنية وحرفية تقتضيها طبيعة العمل المكلف به، وفق معايير متعارف عليها فى مثل هذه القضايا، كما اشار الى ذلك رئيس اللجنة الذى كان يتحدث بلغة الواثق من اجادة عمله دون تلعثم، او الخروج من دائرة اختصاصه، سنده فى ذلك وجود الضحايا واستعدادهم للادلاء بشهاداتهم امام اللجنة، مما مكنها، اى اللجنة، من توثيق الانتهاكات، وتحديد الجرائم، المتهم النظام بارتكابها.وبما ان وفد الحكومة وعلى راسه السيد يمانى يعلم ان ما ارتكبه وما زال يرتكبه نظامه من جرائم بحق الشعب الاريترى ربما يفوق ما استطاعت لجنة تقصى الحقائق التابعة للامم المتحدة من توثيقه،وبالتالى احساسه بعدم قدرته على مجاراة افادة اللجنة الموجزة حول خلاصة تقريرها، حاول نقل ساحة المواجهة من اطارها القانونى الى ساحة المماحكة والمكايدة السياسية متهما اللجنة باستهداف ارتريا وحكومتها.وان لم يقل لنا السيد يمانى ما الذى يثير غيرة الاخريين فى نظامه، ويدفعهم لاستهدافه، والجميع يعلم انه لايمكن تجميل وجه هذا النظام حتى ولو استخدم -اى النظام -كل ما انتجته مصانع العالم من مساحيق.!على كل، الاستهداف وارد فى العلاقات الدولية، وخاصة بين الانظمة ذات المصالح المتناقضة،والتى تتبادل العداء فيما بينها، كما يمكن التاثير على ألافراد والمجموعات الناشطة فى عمل المنظمات الدولية ، الا انه ليس من اليسير اثبات ذلك. واذا كان النظام الارترى يملك مايبرهن خروج اللجنة عن اختصاص عملها وفق ما كلفت به، فعليه اقامة الدليل على ذلك. وكان المؤتمر الصحفى الذى عقده وفد النظام الارترى فرصة مواتية لرد الصاع صاعيين للجنة امام الصحفيين من خلال كشف مالديهم من معلومات عن هوية الجهات المستهدفة لارتريا، وطبيعة هذا الاستهداف، وكيف تم التاثير على اعمال لجنة تقصى الحقائق الدولية. وبدلا من ذلك، شاهدنا كيف انتزع الصحفيون المبادرة من السيد يمانى ووضعوه فى زاوية ضيقة باسئلتهم الحاسمة والمحددة عن احداث ووقائع يعلمها القاصى والدانى،الامر الذى وضعه فى حرج شديد. اما طلبه حشد الهتيفة والمؤيدين امام اللجنة، ورغبته بالاستماع لاقوالهم، كما طالب بذلك الوفد، فهو امر يثير الشفقة والاشمزاز فى ذات الوقت. فهل يعقل ان ياتى شخص ايا كان دافعه, اوفصاحة لسانه،او درجة ولاءه لسلطة ما ليدحض شهادة ضحية يحمل فى جسده دليل ادانة جلاديه ووحشيتهم! هل يعقل ان يتجرد الانسان من ادميته وانسانيته لقتل الضحية مرتين . مرة بالة قمع السلطة الهمجية، ومرة اخرى بتزييف ارادة المجتمع لحرمان الضحية من الاعتراف بما لحق به من جرم، والمساعدة فى افلات الجناة من العقوبة التى يستحقوها. وبعد ان اكتشف الرجل المأزق الذى وجد فيه نفسه ونظامه، حاول ان يطمئن من كانوامعه، وربماكذلك من كلفه بالمهمة، بان امامهم مساحة اوسع لمواجهة اللجنة ليس فى ميدان القانون طبعا وانما فى سوق المساومة ، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة والمنافع الانية، اما الاخلاق والمبادئ فلا وجود لها فى قاموس نظامه. ولكن هل كل من هم فى مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة فى دورته الحالية من شاكلة النظام الذى يتحدث باسمه السيد يمانى؟ وما هو رصيد نظامه من العلاقات والصداقات الدولية وهو الذى فشل حتى فى اقناع موظف صغير من الدول التى يقيم معها علاقات دبلوماسية لحضور احتفالاته بمرور ربع قرن من تحرير كامل التراب الارترى من براثن الاستعمار الاثيوبى؟. لا استبعد وجود من يتحسسون رقابهم كل ما سمعوا اسم المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائمهم تجاه شعوبهم، وفى هذه الحالة لانستغرب معرفة السيد يمانى بهم ، لان الطيور على اشكالها تقع،الا ان هذا فى حد ذاته غير كافى، لان درجة الاحساس بالخطر ليس واحدة ،كما ان مثل هذه المواقف تخضع لموازنات مختلفة وحسابات معقدة ليس هنا مجال نقاشها. اما تطورات المعركة الاخيرة، فقد اضافت مشاهد درامية اضافية زاد من غموضها تحرك دبلوماسى ارترى فى اتجاهات محددة ارتبطت فى الذاكرة الارترية باحداث ونتائج معلومة للجميع. من السابق لاوانه التنبؤ بمسار الاحداث، ولكن يبدوا ان عوامل الارتباط بين جنيف وظرونا اكثر قوة مما نتصور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى