إقرار التباين أساس لبناء الدولة الإرترية – بقلم محمود عمر ــ بورتسودان

27-Dec-2013
عدوليس
ارتريا هذه الدولة الصغيرة تمثل ملتقى حضارات ، خاصة السودان وإثيوبيا ،فللسودان تأثيره الحضاري والثقافي على المنخفضات الارترية التي كانت جزءاً أصيلاً من تاريخ وجغرافية شرق السودان والذي كان يضم مديريات (التاكا وسنحيت ومصوع وسواكن )وتعرف جملةً بأرض البجا.
وكانت المرتفعات الارترية جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الإثيوبية إذ تعتبر التجراي والمرتفعات الارترية بعاصمتهم الدينية (اكسوم) وحدة سياسية واجتماعية واحدة وكانت تشكل حتى قريباً هموم مشتركة كما أورد ترفاكس حاكم ارتريا البريطاني في كتابه ( ارتريا مستعمرة في مرحلة الانتقال )، أنه في فترة تقرير المصير – في أربعينيات القرن الماضي – رفع التجراويون مذكرة للجنة الأمم المتحدة يؤكدون فيها إن مصيرهم مرتبط مع ارتريا(التجرينية) خوفاً من ابتلاع وسطو حضارة (شوا) الإثيوبية، هذا فضلاً عن الامتداد العفري لإرتريا في كل من إثيوبيا وجيبوتي.
بدأ تشكل الدولة الارترية بحدودها الحالية منذ إنشاء الطليان مستعمرتهم واختيار اسمرا عاصمة لها وبالرغم من مقاومة بعض القادة المحليين للاستعمار الايطالي ، إلا إن الإحساس بالهوية الارترية برز بعد الحرب العالمية الأولى في مرحلة الوعي الوطني وتشكل الدولة القطرية وتكونت أول لحمة تعبر عن الوطن في ارتريا باسمرا بما عرف باجتماع بيت جرجيس وتأسست جمعية حب الوطن ” فقري هقر” ثم مرحلة نمو الوجدان الوطني بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي تلاها تشكيل الأحزاب السياسية في ارتريا والتي انضم عدد كبير منها تحت مظلة الكتلة الاستقلالية ولم تخلو هذه المرحلة من العمق الحضاري والثقافي للدولتين إثيوبيا والسودان ، حيث نشأ حزب التقسيم والذي يطالب بضم المنخفضات الارترية للسودان والمرتفعات الارترية لإثيوبيا كما تأسس حزب ينادي بضم ارتريا لإثيوبيا ، هذه التناقضات اضطرت الأمم المتحدة لتشكيل لجنة تلو الأخرى قامت بثلاث زيارات لإرتريا .
لم يكن للسودان أطماع في ارتريا بينما بذلت إثيوبيا أقصى قوتها لضم ارتريا وانحاز اغلب أبناء مرتفعات ارتريا لإثيوبيا لدور هيلاسلاسى العميق الأثر دينياً وثقافياً وما قدمه لهم من خدمة وتوفير فرص الشراكة من عمل وتعليم، وزاد التلاحم وتعمق بعد قيام الدولة الإسرائيلية بأرض فلسطين، القى هذه التطور النوعي بظلاله على الصراع الارتري ،إذ كان هيلاسلاسى يدعي الانتساب للأسرة السليمانية، وحشد جهده لجعل ارتريا جزءاً لا يتجزأ من إثيوبيا وتوصيف رغبة الشعب الارتري في الاستقلال بالفتنة والتدخل من الدول العربية والإسلامية في شؤون دولته الداخلية لاستدرار عطف الغرب وبالفعل قد حصل على دعم ضخم جداً حيث استقرت أول قوة عدداً في العالم خارج أمريكا آنذاك في “قاعدة كانيو استيشن ” باسمرا قوامها 4000 خبير أمريكي ، كما أن هذه التقاطعات أدت لتضامن الدول الشرقية عامة والعالم العربي خاصة في دعم الثورة الارترية وتبني القضية الارترية كقضية عربية تحررية وشقت جبهة تحرير ارتريا طريقها وأمامها تحديات كبيرة أهمها إقناع شركاء الوطن من أبناء المرتفعات وضرورة جذبهم للثورة وإعطاء الأولوية لمن يلتحقون في فرص التأهيل والتمثيل، وخير دليل على ذلك إن الرئيس الحالي قد حصل على فرصة تأهيل قادة في الصين ضمن عدد ضئيل وفرص محدودة.
بالرغم من مساهمات بعض المناضلين من أبناء المرتفعات منذ بواكير النضال الوطني الارتري إلا أن تدفق أبناء المرتفعات على الثورة الارترية اقتضته ظروف مهددة لمصالحهم أقواها مشاركة أمان عاندوم من أبناء التجرنية في انقلاب الدرق على هيلاسلاسى ثم تصفية أمان عاندوم من قبل منجستو هيلي ماريام وتوجه الدولة الإثيوبية للمعسكر الشرقي مما افقدهم الوظيفة بل هدد حياتهم بحكم قربهم من السلطة إبان فترة حكم هيلاسيلاسى ، بالإضافة لبلوغ الثورة الارترية ذروتها وسيطرتها على كامل الريف الارتري .
في ظل هذه الظروف سعت نخبة من أبناء المرتفعات مستغلة بعض الأخطاء الإدارية لجبهة التحرير الارترية وخلفية التباين التي ورثها أبناء المرتفعات من تعبئة إثيوبيا، إقامة مشروع نحن وأهدافنا “نحنان علامانان” هذه الوثيقة التي عملت على التشكيك في الثورة الارترية وذكرت الوثيقة في إحدى فقراتها (إن قيادات الجبهة العسكرية تقوم بنهب أبقار سكان المرتفعات وتبيعها في كسلا وتشتري من عائداتها البيوت في كل من كسلا والقضارف)من يتدبر هذه الفقرة يجدها إنها تشكل دعوة صريحة للمواطن العادي من أبناء التجرنية إن التفافه حول مشروع نحن وأهدافنا هو حماية له ولممتلكاته وبناء تنظيم يثق به.
وتأتي هذه الوثيقة للتأكيد على تشكيك هيلاسلاسى على الثورة الارترية بان هؤلاء الذين يشترون بيوتاً في كسلا والقضارف دخلاء على أحلامكم وما يهمهم هو استقرار وبناء سكن مريح في أراضيهم على حساب قضيتكم – لسهولة الاطلاع وتوفر الوثيقة في المواقع الارترية يرجى قراءتها لأهميتها لكل من يؤمن باجتثاث الفكر العنصري التجرنيوي وبناء دولة المساواة والعدل الاجتماعي.
ولذا استوعبت الجبهة الشعبية اكبر عدد من أبناء المرتفعات وسعت في تعميق الهوة فكراً وممارسة وكان اكبر سيناريو التحالفات اتفاق أبناء المرتفعات مع عمقهم الاجتماعي التجراي لإخراج جبهة التحرير الارترية من حلبة الصراع ثم استمرار هذه التحالفات حتى تغيير النظام في إثيوبيا واستقلال دولة ارتريا.
نعود إلى جوهر الموضوع وهو التباين المبني على عمق الدول من حولنا فنقول إن إتكاء المنخفضات على السودان والامتداد العربي الإسلامي وفر لنا الصمود والاستمرار في النضال ضد الاستعمار ونفخربه كما انه يمثل جزءاً مهماً من شخصيتنا الاعتبارية.
كما أن إتكاء أبناء المرتفعات على عمقهم الثقافي والاجتماعي في إثيوبيا جدير منا بالاحترام ولكن هذه الاتكاءات تظل مهدداً أساسياً لمشروع الدولة الوطنية الارترية وان الجبهة الشعبية التي تعتمد حتى الآن على البعد الثقافي التجرنيوي وجدت فرصة ذهبية لبناء الثقة وتناسي جراحات الماضي ولكنها عمقت التباين واستمر النزيف حتى وصل حال شعبنا إلى إقامة تنظيمات حقوقية على أساس قومي وديني في معسكر المعارضة وحتى الأوضاع في داخل ارتريا وجُل المحاولات التصحيحية في الداخل أصبحت تعتمد الاصطفاف على أساس جهوي وديني ، وبعض أطراف المعارضة يعاودها الحنين لاستمرار نهج النظام ألإقصائي ولعب دور البديل الذي يستخدم نفس الاتكاءة التجرنيوية الاستعلائية والاستحواذ على الوطن ثقافة وحضارة ، ويصل الغلو بالبعض منهم ما يفوق النظام الحالي وذلك بالتغول على رمز النضال الارتري القائد الشهيد/ حامد إدريس عواتي وأخرى تعتبر اللغة العربية لغة دخيلة .
إن إلإتكاءة على الخلفية الحضارية والثقافية والامتداد الطبيعي من قبل الدولة القطرية الحديثة نقمة على حسب المشهد السياسي الارتري الحالي، ويكاد يؤدي إلى انهيار الوطن آخذين في الاعتبار المتغيرات والانفلات الذي تشهده المنطقة من حولنا ويكاد يقترب في بعض مشاهده في الصومال سابقاً ودولة جنوب السودان في الوقت الحالي والتي لم تكمل عقدها الأول من مرحلة الدولة، زد على ذلك التدخلات الدولية والإقليمية، فكما شاهدنا فرنسا تتدخل بقوة لتثبيت النظام الذي يخدم مصالحها في كل من مالي وإفريقيا الوسطى وحزب الله اللبناني يساند نظام الأسد حتى يحافظ على مصالحه وكذلك يوغندا تتدخل في جنوب السودان من نفس الرؤية السابقة، مع ذكر هذه الأمثلة لا نرى ما يحمي من تدخل السودان وإثيوبيا بحجة حماية أمنها الاستراتيجي سواء كان تدخلاً ناعماً كما يبدو الآن أو تدخلاً خشناً تقتضيه ظروف المصالح الموضوعية والحيوية في لحظتها.
يمكننا القول أن ” ارتريا ولت أسـَـــرِّيتــَّــا” بلغة التجرايت ، وتعني أن ارتريا نشأت نتيجة سلسلة من المعالجات والأدوية، أي أنها ( بنت البخرة والحجاب ـ علاجات ) كما يقولون، وكانت كلفتها باهظة الثمن مهرت بدماء وأرواح أبنائها وهي لذلك وسام شرف يتلألأ في صدر كل وطني غيور وتاج في رأس كل مناضل شريف يحلم بغدٍ مشرق لهذا الشعب المكافح المميز، وزينة في عنق جيد كل الأرامل من نساء الوطن، لذا علينا التفكير كرتين ونحن ننظر إلى اتكاءتنا الثقافية باعتبارها مصدر فخر واعتزاز لنا، وعلينا أن نتعامل مع امتداداتنا كسفراء سلام وإناء يمزج كل حضارات القرن الإفريقي ونتطلع إلى مد جسور التواصل والاعتراف بشريك الوطن رغم ضعفه وهوانه لان سنة الحياة تقتضي بعد الضعف قوة وبعد الهوان عزة.وان من استخدم اتكاءته طيلة ثلاثين عاماً لمواجهة اعتي الإمبراطوريات في إفريقيا وحقق النصر عليها من البديهي حماية ذاته والتكيف مع واقع المرحلة القادمة للحفاظ على ما تبقى من اللبن المسكوب .