ثقافة وأدب

قصّة قصيرة: النقر على الصفيح! بقلم / مُنى محمّد صالح

8-Sep-2019

عدوليس

– لا مرافئ، لا نوارس هنا، تلوّح لنا بعرى الروح، لن ننجو.. لن ننجو يا صاحبي.. لا مفر إذ يبتلعك الموج، جسدك النحيل لم يعد يحمل هذا القلب التعس. دعه يحملك إلى فجيعته الأخيرة.تقاطر له الصوت وكأنما الريح تذروه بعيداً لتتساقط لعنة التعب بأجزائها المهترئة في دفعة واحدة.تمّتم بإيماءةِِ مُنطفئة:- آه‍ِِ… وهل نحتاج إلي ما يفجعنا من جديد، لكي نبحث عن بعضنا المنسِيُّ!غاصت كلماته في أصواتِِ هوائية تنوء تحت ثقله، فيما يُشبه السقوط في هاويةِِ سحيقة من العمى وكأنه ينتف آخر وصاياه وما تبقى من ريش القلب.

“عافة ود شيخ جِمِع” كما عرفته للمرة الأولى وهو يجاورني صباح كل يوم في الوقوف في ساحة الطابور المدرسي.. عندما إقترب منه معلم الفصل وسأله:
ـ ما أسمك؟
ـ أجابه بصوت مهذب وهو يقف بإعتدال:
” عافة ود شيخ جِمِع”.
طلب منه المعلم أن يختار له مكاناََ ثابتاََ في الطابور الصباحي، كعادة نظامية تلتزم بها المدرسة مع كل تلميذ جديد. وأمام دهشة الجميع وأولهم “أنا” التلميذ الشقي صاحب السجل الكامل في الشغب والبلاوى.. الذى يتفاداه البعض تحسباََ لما لا تحمده عقباه!
أشار “عافة” بأصبعه وبهدوء شديد إلي الصف الخلفي الطويل حيث أقف في الوسط، على مقربة من مدخل الباب الخارجي للمدرسة، أتمرجح برأسي وقامتي الطويلة ولا أدري من أين واتته الشجاعة..إذ تحرك من مكانه بخطى راسخة وهُوَ يتقدم نحوي ويرمقني بإبتسامةِِ هادئة إنبلجت على أسارير وجهه الدقيق. ومد لي يده بالسلام وبقي وجهها بشوشاً دون أن ينبس ببنت شفه.. وهو يقف هادئاََ بجواري وكأننا في طابور عسكري.
على غير عادتي قفزت في حركة تلقائية وأنا “أبحلق” في الجميع بعينين متسعتين وكأنهما ستخرجان من محجريهما وبدأتُ أدور حول نفسي كالأخرق، وثمة حدس مجهول لا أدري كنهه.. أصابني بفرحِِ غامر.
ضحكتُ بصوت عالِِ وانا مازلت مستمراً في دوراني الراقص حول نفسي كالبهلوان، غير مكترث بنظرات تلاميذ الطابور الصباحي التي توجهت نحوي بهمهماتِِ سرعان ما اتسعت وإنتقلت العدوى التي أصابتني إلي بقية المجموعة إذ عمت حالة من الهرج والضحك بين صفوف الطلبة، حتى استاذ الفصل لانت قسمات وجهه وانفلتت ضحكته بتلعثم واضح لم يفلح في إخفائه، وسرعان ما أفقتُ علي صوته الحازم يعتدل من جديد يستعيد توازنه ليصك أذني في زجرِِ واضح بأن ألزم الصمت هادئاً في مكاني.إعتدلت أنا الآخر بسرعة في صف الطابور الطويل وقد ألجمتني المفاجأة، وأفسحت للتلميذ الجديد “عافة” مكاناََ بقربي دون أن أفهم من أين واتتني الشجاعة وأنا أربت بيدي على كتفه بقوة وأبادله الإبتسامة بنظرة مشجعة ومطمئنة وسط اللغط والإرتباك الذي أحدثه “عافة” بإعتداده الآسر بنفسه.. وهو يتخذ مكانه الثابت في الطابور الصباحي وعلى مرآى من الجميع وكأنه لم ياتي بفعلِِ عجائبي!
كان “عافة” صديقي منذ أن إلتحق طالباً جديداً بالصف الخامس في مدرسة ” ” الإبتدائية للبنين في مدينة “تسني” ورفقة لازمتني بكل نتوءات العمر، وما علق بالقلبِ من نشيج!
روحٌ تضئ بما حولها، وكلما إبتعدتْ تترك خلفها حباتٌ من الؤلؤ المنثور!
كان “عافة” صبيٌ هادئ، يقاربني في العمر رغم هيئة جسده النحيل وملامح وجهه الدقيقة. كان يبدو لافتاََ للإنتباهِ بهندامه الأنيق وهيئته المرتّبة، وطريقة أدب حديثه النادر التى لم نعتاد عليها الا بعد مرور وقت طويل. كان للمعان الغريب في عينيه وما يصاحبه من صمت تجعله يبدو أكبر من عمره، ومثار تَندُّر أحياناََ بين الأولاد في المدرسة.
وجدتني ولسببِِ ما.. لا أفهمه.. كثير التعاطف معه، خاصةََ حين يتعرض للإضطهادِ من أولاد الحي في ساحة ميدان المدرسة، كنت أنبري لا شعورياََ وبشجاعة كبيرة للدفاع عنه.. حيث كنا نقضي معظم الوقت بعد إنتهاء اليوم الدراسي في لعب الكرة والتراشق بما تعلمناه من الكتب. و”عافة” الذي لا يتحدث كثيراََ.. كان ينسى نفسه تماماََ، لا يأبه بتندّرنا عليه وهُوَ يتربّع في وسط الميدان ونحن من حوله نتابعه بشعور باهي إذ يتحوّل إلى نهرِِ دائم الجريان.. حكاء القصص التي يأتي بها من كل حدب وصوب، عوالم.. يعرف كيف يمنحها طعمها الخاص بها. كُنّا نضحك عليه ونحن نستمع بتعجبِِ إلي ما يقوله، ومحض تساؤل مُلحُّ:
ـ من أين يأتي بكل هذة القصص والحكايات؟،
وبهاء روحه وأحاديثه التي تسرق دهشتنا!..
ولا ننتبه للوقت إلا على صوت آذان العصر وصياح عمنا “عمر أسناي” صاحب دكان الحِلاقة المواجه للشارع العام.. يلاحقنا من بعيد.. وهو في طريقة للصلاة. وبسرعة فائقة نكون على أهبة الإستعداد، نطلق لأقدامنا الهواء، ونكون قد غادرنا نصف ساحة الميدان الكبير، نقف بعدها لهنيهةِِ نلتقط أنفاسنا المتسارعة ونلتفت لنرى عم “عمر اسناى” رغم تقدمه في العمر يضرب على الأرض بعصاه ويخبو من بعيد في مشيه نحونا بصوته الجهوري الخشن:
ـ أذّن الآذان وانتو لسه في الشوارع زي العفاريت، هيا كل واحد يذهب إلى بيته.نتفرّق مثل النوارس كل يمضى الى سبيله لكي نلتقي في اليوم التالي، روتين ألفناه بكثير من الحب.
إلتقيت “بعافة” ،للمرة الاولى عندما جاءنا طالباََ جديداََ في القسم الثاني إبتدائي في المدرسة المجاورة للسوق الكبير في بلدة “تسني” حيث إنتقل مع والدته وشقيقته “حليمة” التي تكبره بعامين.. من السودان إلي إرتريا مع الكثير من الأسر والعوائل التي إختارت بفرحة عظيمة الرجوع للبلد بعد التحرير. وإستقر به المقام في بيت جده الكبير”عثمان شيخ جِمِع” حيث يمتلك محلاََ لبيعِ الخضروات في سوق “تسني”. وبعد نهاية العمل يعطي لأطفال الجيران دروس لتحفيظ القران الكريم بعد صلاة المغرب في مسجد الحي. وقد تكفل جده” عثمان شيخ جِمِع” بتربيته وتعليمه بعد إسشهاد والده في حرب التحرير.. و”عافة” مازال في رحم أمه، لم يتسنى له معرفة أباه.
ولم يترك له سوى “عافة” الذي كان معروفاََ في بلدة تسني بأسم سلالة عائلته ـ عد شيخ جِمِع ـ أهل معرفة وعلم. إستشهد معظم أبناءه في الحرب، وكان عافة الصبي الحفيد الوحيد في العائلة الذي يتوكأ عليه في دروب الحياة، ويتزوّد بما يبعثه له من فرح وذكرى رحيمة كلما عاوده الحزن وإشتدّت عليه المحن.
كنت أميل للعبِ مع “عافة” كلما إلتقيته وهو على عجاله في طريقه إلى دكان جده “شيخ جِمِع” في سوق الخضار، وأنا أحكي له عن بطولاتي مع اولاد الجيران وكل ما يخطر في البال. وبهدوئه الغريب كان يتابعني وينصت إلى هرطقاتي الكثيرة دون أن تفوته شاردة منها، وبين الفينة والأخرى نغرق في موجة من الضحك.. ويردف “عافة” مازحاََ:
أنت بالفعلِ أحمق يا صديقي.
ونفترق لنلتقي صباح اليوم التالي في المدرسة، وكل يوم تتوالد عوالم جديدة بيننا تتسع معها بقعة الضوء ، لأصبح بالفعل الصديق الأحمق صاحب البطولات التليدة، والخِلُّ.. الوتد، كما يراه “عافة”.
كنت دائماََ أقاسمه ما أحضره معي من الموز وقطع الخبز الناشف، المغمّس بالسمن والعسل الذي كانت تعدّه لي أمّي كزوادة الظهيرة، حيث كنا نتناوله بعد إنتهاء حصص الفترة الصباحية، تجمعنا هموم يوميات لا ندري كيف تبدأ لتنتهي.. وتأخذ معها كل شيء!.
تعودتُ على قضاء معظم يومي في نهايةِ الأسبوع مع صديقي “عافة” أساعده في محل الخضروات. الذي يملكه جده” شيخ جِمِع” وأتلقى معه في بعض الأحيان القليل من دروس تحفيظ القران الكريم التي كان جده يداوم عليها بحرصِِ وروتين ثابت. وبعدها صار هذا الروتين جزء من يومياتي المحببة التي أجد فيها نفسي، بشعورِِ تسبقه فطرة إلاهيّة تبرز ملء عفويتها وطيبة ما نحمله من خيرِِ ومحبة. صار “عافة” مثل أخاََ لي لم تلده أمّي.. ومن بعدها لم يكن هناك من شيء يفرق بيننا.
– ماذا لو تراجعت هذة الحياة البائسة يا صاحبي.. بضعة خطوات عن لهاث مسارها المجنون لتمنحنا القليل من الوقت.. فقط القليل من الوقت.. لإصلاح ما يمكن إصلاحه من عطب القلب، وما فعلته بنا من خطوبِِ لا تُغتفر!
تذكر لقاؤهما الإسبوعي كل يوم من أيام الجمعة في الساحة الرئيسية بالسوق الكبير في بلدة “تسني” أمام المسجد بعد الصلاة. يشربون القهوة والشاى في قهوة “بوبري”* الواقعة على طرف الشارع العام، يجلسون وسط الصخب المتداول بيومياته طوال اليوم، يلتقطون أصوات الماره من بعيد.. مع سماع الأغاني وبعض الأخبار المتكررة لا جديد حولها ،تصدر من صوت مذياع قديم، وُضععلي رف خشبي معلّق بعناية على الحائط في مدخل بهو المقهى، وقد فرشت من تحته قطعة من قماش الدانتيل القديم، كانت تزيد من شحوب المكان.. وهم جالسون مع ثلة من الأصدقاء.. يثرثرون بهدوء. يتقاسمون تفاصيل يومياتهم الرتيبة كما تعودوا على ذلك كل مساء، بين قراءة الكتب القديمة وقصائد الشعر.. وسط دخان التبغ الرخيص المتصاعد وأحاديثهم المقتضبة بإيماءات خافته سرعان ما تبتلعها تعرجات خيوط الدخان وتختفي معها دون أن تحدث ضجة.. لا تكاد تُلمح سوى دلالاتها التي يفهمونها بسكوت دون الإشارة إليها. والكثير من الحيطة والحذر وهم يختلسون أحلامهم سراََ وكيفية الخروج بها سالمة في أول سانحة.
ـ لقد أضعنا الكثير من الوقت ياصاحبي في إنتظارِ شئٌ يشبه هذة النهايات المبتورة، نجهل بوصلة توقيتها إلي حين.
أتاه صوت “عافة” الحاضر بتمام غيابه:
ـ لأنّ هذا هُوَ فقط ما نملكه !
وإستدرك بصوتِِ واهن:
ـ وعليك أن تحمل عبء روحك مثل دوامة ريح تدور بكَ، وصريرها المتقطّع يناوشك بين الحين والآخر دون هوادة، كالنقرِ على صفيح قديم أكل الصدأ نصفه وملأه بالثقوبِ، لا شئٌ أمامك سوى أن تواصل المشي حافي القلب، بعينين مفتوحتين على إتساعهما دون أن ترمش بهما أوتتعثر خوفاََ من نهاية لا تعرفها!
حلّق صوت “عافة” من حولي يختصر الوجع، يأتي من مداه السحيق. كان يعرف ان هذا اللقاء خارج الزمن، وأننا لن نلتقي بعد هذا اليوم ابداََ. وعقارب الوقت الضرير هُناك ثابتة لا تتزحزح، تدور بنفسِ الإيقاع.. في بلادِِ نغادر أسوارها القديمة في صُرّةِِ واحدة من الحنين، توزِّعِنا في شتى الأنحاء الأربع، ويسكننا كل ما فيها، عشقاََ صامداََ، ووجعاََ يهاجر كالطيرِ.. يلازم غصن التيه، وكلما تراءى له ثمة فرح.. رفّ إليه بأهدابِ القلب مثل عقيق ينفلت نديّاََ برائحةِ الأرض، أبواب البيوت العتيقة وشوارعها المغسولة بقيلولة النهارات الماطرة، ظلال السرو الكبيرة، جنائن البرتقال والليمون، ضجيج الصبية المعفّرين بصخبِ الحياة من الصباحِ الي المساءِ، يوميات النسوة ولغطهُنّ الحنون المتسرِّب بنكهةِ صباحات البُنْ المُر ورغيف الخبز الحار. وفي كثير من الأحيان يتقاسمنّ هموم التعب الطاحن و تأخذهُنّ نوبّة بكاء حزينٍ لا أحد يسمعه، ويمسحنّ دموعهُنّ بأطراف الطرحة الملوّنة التي تغطي نصف الجسم بتوجس وإرتباك يشئ بالترددِ، وأصواِت خافته تكاد لا تُسمع.. عن عودة الغائب الذي طال غيابه، ومن لم يزل يُهمهِم لوحده قابعاََ هناك في غيابه القسري، وعصافير القلب الشريدة وتلك الأحاديث المتداولة بخفيه عن وجوهٌ ترتّل أسرار الجذور البعيدة هناك، يحجبها كفنِ الشمس وصمتٌ صَدِئٌ يتيم، مغموراََ حتى عنقه بعسسِ الظلامِ والخوفِ ورائحةِ القهر!
بدا البحر أمامي عارياً.. عارياً.. عارياََ مثل بلّور على سطحِ زجاجِِ مُهشّم، يجهل لون ساحله، وطمى طُحلبيٌ لامع يُكلّل الأرض التي غاصت في لزوجتها كما لو أنّ شهيتها تفتّقت لالتهام ما تبقى من حياة. ومرارة الطعم العالق يندلق بتعرّجِِ يسمح لذراتِ الهواء بالهرولةِ إلي الخارج، يمتص رحيق القلب، يصبح مالوفاً ومستساغاً في مرارته. تتزاحم الأشياء في بؤسها بتَسَارُعٍ كأنها تخرج من رحمِِ غريب، تناى عن تفاصيلها واحداً تلو الآخر، تفقد ملامحها الاولى رويداََ رويداََ، وتتناسل مثل مسخ هُلاميٌّ يتنامى ببطءِِ مقيت، تنبت له أذرع وأطراف من كلِ الجهات.. ليكتسح المكان!
رفعت راسي المثقل بجيوشِِ من الحزن تنذر بالتلاشيِ، وقهقه مشروخة تنبش كل ما بالروح من تعبِِ وظلمِِ خانق يستظل بي، أعرف شكله، لونه، ملامح وجهه القمئ ورائحته العالقة بنا من الراسِ حتى أسفل القدمين. وكأنها ألوان الفناء من فوقي ليس فيها غير هذا الضباب، يتداعى من حولي مثل رسناََ يلف خاصرة الوجع.
ـ قل لي بحق الشيطانِ يا “عافة”:
كيف لي أن ألتقيكَ من جديد أو أغادر هذا المكان البائس دونك؟
والأرض التي سقت دموعنا هُناك، ما زالت طريّة كالندى، تُلامس يباس القلب، وكأننا إلتقينا للتوِ!ـ آه‍ِِ .. يارفيقي، وصاحب القفار البعيدة، لا اتذكّر منذ متى ونحن نمارس هذا الشقاء.. لا صوتاََ أو إنتظاراََ كسيحاََ آخر يأتي بالغائبين، أو يشفع لنا بلعنةِ البقاءِ!
كيف للحياةِ أن تستقيم ونحن هنا يتمُّ إصطيادنا كالطريدة؟ تتباعد المسافات بيننا ساكنه كالموتى دون رحمة. تسقط تباعاََ.. تباعاََ على نَصّها المبتور؟
وأرواحٌ أخرى هُناك قد تيبّست عظامها وهي تخلق قشرة لونها المتقيّح مجدداً مثل عنقاء الرماد، وكأن حق الحياة التى حباها الله لخلقه أجمعين، ملكاََ لأحدِِ دون الآخر؟
– ليت لي هتافٌ آخر.. يستغيث بكَ الان يا “عافة” يصلح..عطب الروح، غبار الأسئلة، ويفطم كل ما يغص به الحلق من ملحِِ حارقِِ كالصدأ.
لملم بقاياه المتهالكة وأصواتٌ أخرى تتبعه في إستشاهدِِ غير معلن:
– وها نحن هنا يا صاحبي نعتاد على الفاجعةِ، نفشل حتى في إلتقاطِ هذا الهواءِ المُرُّ.. بعد أن تعاظمت شرور البشر. يُوحّدنا هذا الخراب المترامى وقلبٌ غادرته نبوءة المعجزات منذ زمنِِ بعيد فتتضح المفردات بدلالتها مثل تشكيل سوريالي أخرق!
ـ وهل يُحدث هذا فرقاً؟
أغمض عيناه بإعياءِِ واضح، وهو ينصت إلي هواجسه المتعاظمة، وقد أمسك كتفِ رفيقه “عافة” برفقِِ، غير آبه لفاجعةِ العويل البارد المنكفئ داخله. ناداه بكل ما أوتي من قوة وكأنه يُحدّثُ نفسه:ـ إنهض أيها التعس.. إنهض أيها التعس.
لصوتِ الماء حكايات لا تفرّط في أسرارها، والبحر هُنا كالصحراءِ لا يَرْوِي العطش، وهذا البؤس صمٌ.. بُكمٌ، يخرج من تحت جلدك.. ويبيت كالذكرى في صدرك!
لم يُروعه هذا السقوط اللامع وهُلاميّة المدى المتسع في جنونه. إستعذب كل ما حوله من أسى وهُوَ يتأمل وجه “عافه” المسجى بقربه في هدوءِِ وكأن هناك من سينفخ فيه الحياة من جديد!ضوءٌ هرم إنتشر إصفراره على خطوطِ وجهِِ بدأ له غريباً بعد أن تودّرت نصف ملامحه، وكأن الأمر لا يعنيه!
ـ كم نبدو تعساء يا صاحبي.. ونحن الناجون من رمق الحياة حتى أشعار آخر، نسيانٌ آخر نُرتّق فيه معجزتنا الأخيرة، يتفتّت الوداع بيننا بلا ألمِِ، وجثثاً طازجةََ تحملنا، تقرض حُلماً صغيراً شهق ذات موت بعيد.. مثل ريحٍ مجنونة، ثم راح في غيبوبةِِ تامة.
– من يمنع هذا العبث من التكاثر؟!
ألقى نظرة أخيره على رفيقه وبقى متسمراً في متاهته في إنتظار معجزة، أو مصادفة حمقاء تنفض ما علق بها من دَّنسِِ وتنهض من نومةِ اللحود!
تواتر صوته متحشرجاََ بحثاََ عن منفى يُشفى الجراح:
– كم أبدو وحيداً الان يا صاحبي.. وأنا أرنو نحوي، أتعرّف على الأشياء من جديد، أحيل لون هذا البؤس عبثاََ إلي ما كان قبل الميلاد!
راقه هذا الهراء، وجال بنظرة أخيرة حول المكان متسائلاََ بصمتِِ يشرق بالدمع:- كيف يمكن للهواءِ أن يخترق جدار البحر، وما إبتلعته خفايا الرمل اللعين..!!؟ـ وهل لي أن أختار لون المدى، ووجوه الأنبياء..!
وسماءٌ تُودِّع زرقتها الـ …إختفت ملامح وجهه للحظةِِ وهُوَ يلتقط إرتعاش إنفاسه القصيرة المضطربة، وهمس بشفتين باردتين شبه مطبقتين كجيفةِِ ناشفة، وهُوَ يمطُّ كلماته الميّته بحرقةِِ تدمي القلب:
ـ ودفناََ يُليق بنا سويّاََ يا صاحبي؟!!
إنطفأت الشمس وهي تغور للداخلِ بتلاحقِِ بطئ، وقد إنكمشت في إنكفاءةِِ مرتجفة، ووقعت خلف بؤبؤها الخاوي. كُتلْ غليظة من خيوط الدخان الخانق تجمّعت في حلقاتِِ سوداء كبيرِِة وإلتفتّ حول الصوت المتصاعد بوهنِ االأسئلة، وإنفقعت بإرتطامِِ له دويٌّ عالِِ غطَّ على المكان، لم يبق هناك من شئٌ البته.
تمادى البحر في عُريهُ جاحظاً في تمدده، على مرآى من جمهرةِ الإصطفاف ومشهد الحضور الناقص بتمامهِ السحيق.. مُحدثاً فجّة كبيرة، ليلفظ آخر ودائعه.
كان وجهه كالحاً مثل جِنيٌّ اغبر كساه العمى، وقد غادرت الأرض سطحها الغائر في عويله، والذهول رمادٌ تنثره الريح. صمتٌ بارد إكتنف الفضاء احتراقٌ يُشبه منفاه ولم يعد هُناك من شئٌ آخر يعيد للسماءِ شظايا سقفها المنفوش.. مثل طيرِِ ذبيح!.
مُنى محمّد صالح
برمنجهام 24 يوليو 2019 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للتشكيلي الإريتري محمود دبروم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى