ثقافة وأدب

إريتريون حالمون: من دفاتر العشق والخيانة والمعارك ! بقلم / محمود أبوبكر

26-Oct-2020

عدوليس ـ نقلا عن موقع

مكابدات عظمى، يخوضها العشاق الكبار بصمتٍ، في ساحات المعارك، ففي حين يسعون بكل حزمٍ ودقة، من أجل أن تكلل معاركهم الحربية بالنصر، إلا انهم يبدون أكثر تسامحاً، أمام نداءات القلب والروح -التي يدركون مسبقا- أنها قد تفضي بهم نحو هزائم نكراء!

فـ حِيّل العقل المُـدبرة بدقة ودهاء، قد تضعف أمام انكسارات القلب، وحصاره غير المتوقع، ثمة أحداث تجري خفية، بالتوازي مع الأحداث الكبرى، وحينها لا يعرف المقاتل، أين تبدأ الهزيمة، وأين ينته النصر، وأي المعارك أكثر ضراوة من غيرها .. بين مكابدات القلب، وحيل الأعداء .عن العاشق “السيء الحظ”
في التاريخ الإريتري ثمة انتصارات وهزائم، يحفظها المقاتلون في صدورهم، ويروونها خفية، كتاريخ موازٍ، لذلك الذي ينشر في “مذكرات الحروب” و المناهج الدراسية، فتلك الكتب لا تحتف، ِبدوافع القلب، وأغان الحب، لا تلتفت للضعف الإنساني، و لا تعرف للمناضل خفقة قلب يرق او ينتبه لـ “إنسانيته”!
فمن المؤكد أن الكثير من قصص الحب، تموت صمتاً وكمداً، و يبقى البعض الآخر منها، راسخاً في الذاكرة، لجهة إرتباطه، بعشاق مبدعين بثوا تجاربهم وإنكساراتهم في أعمال إبداعية خالدة، ففي العهد الاستعماري الإيطالي، ثمة حكايا لا تزال تروى، وتتوارثها الأجيال، فذاك شاعرٌ تغنى بحبيبته (ابنة الضابط الكولونيالي الايطالي)، بعد أزمنة من الصمت، و مكابدات العشق من طرف واحد، حيث إنبرى وهو يشهد لحظة رحيلها، (حين تقرر نقل الوحدة التي يشرف عليها والدها، من ارتريا نحو المستعمرة الإيطالية -حينها-ليبيا) مما دفعه للتغني جهراً هذه المرة : لآلي ولالينا بابورا تروبلي سافرا”، و لآلي هذه موال يوازي (ياليل ياعين عند العرب)، وبعد استهلاله بهذا الموال، يعرج مباشرة نحو “الخبر” الموجع، “آه لقد أبحر مركبها نحو تروبللي ” – طرابلس -!
ويبث وجعه أكثر في عقده لمفارقة غرائبية : “أهلي غاضبون، زادهم النار الحمراء – وأهلك منتشون يرتون بدماء أهلي، فليرحل جيش الاحتلال عن أرضنا .. ولتبقِ انت ِ هاهنا .. حيث لا شيء يستحق الحياة بعدك ” !وهنا مفارقة، وفرز قوامه معادلة الهوى، الذي أحتل خرائط القلب بشكل مواز لإحتلال الوطن، فبينما يخضع الشاعر طواعية، لذلك الاحتلال الذي يزرع مساحات القلب خضرة وبهاء، يقف -في ذات الوقت- بالمرصاد أمام إغتصاب الأرض، وإذلال مالكيها.هو الحب في حالته الفطرية الأولى، حيث لا يُحاسب المعشوق بجريرة أهله، ولا يرتهن القلب لمحددات الجغرافيا، والعرق، والطبقة الاجتماعية، كأن الحب “حالة هدنة ” مع كل معارك الوجود .
حكاية “فياميتا” :
ثمة حادثة أخرى، تروى سراً، عن حسناء عشرينية، تدعى “فياميتا”، جنّدها الثوّار الأرتريون كفدائية، للإيقاع بضابط كبير، من جيش الاحتلال الاثيوبي، وتلك حيلة طالما نجحوا في تنفيذها بجدٍ واقتدار، إلا أن قلب العشرينية الحسناء، لم يكن -كما يبدو- قد تحصن بما يكف من القلاع الشاهقة.
في البدء بدت المغامرة محض لعبة، تنته في ساعة الصفر، التي يحددها قائدا ما، يتابع الغواية عن كثب، لكن مياه كثيرة وهادرة ظلت تجري، على غفلة من أزمنة الثورة، وتبني جسورا وخرائط، تمتد من القلب إلى القلب، وفي كل لحظة تنهار جسورا وقلاعا أخرى، حتى أتت لحظة الصفر، وقد تحولت قواعد اللعبة تماماً الى النقيض!
حيث وضعت “فياميتا”، كل عناصر اللعبة أمام الضحية المفترض، ليقررا سوياً الفرار، من ساحة الصراع بأسرها، ويهاجران الى حيث خارطة تضمن لطفل الحب بالنماء داخلهما، بعيداً عن ما يُبدد صفو التفاصيل الصغيرة، التي تبدو “خيانات كبرى ” لدى المتحاربين!
لعلها “هزيمة ثقيلة”، وفقاً لكل القيم التي شبت عليها “فياميتا” في لحظات ما قبل “اللعبة الكبيرة ” لكنها لسبب ما، عدته “نصرا” مباغتاً بتوقيت القلب الذي دق دون حسبةٍ مستحقة !.فالأحداث الصغيرة والجانبية، قد تقضي في لحظة ما، على الحدث الأكبر، ولا تبقِ منه شيئاً، و غوايات الهوى في تعريف العشاق، تبدو كالنقطة المركزية في ورقة التوت، حيث تبدأ كل الخطوط منها واليها تنتهي ..
من يفض عناق الغيم :
سبع سنوات (1991-1998)كانت فترة مسروقة من عمر الاحتراب، أو “حالة هدنة” مقتطعة للغزل، قبل أن تعود الساحة الى سابق عهدها من المواجهة المستعرة بين الجاريين اللدودين اثيوبيا وإريتريا، وتبدأ مسيرة أخرى من التشظي، و شكل جديد من الممارسات البشعة، المتمثلة في استهداف الرعايا المقيمين في البلدين، بعد اتخاذ قرارات تعسفية تتعلق بإجبارهم للعودة، الى موطنهم الأصل، دون أدنى مراعاة للخلفيات الشخصية والأسرية، وكان من الطبيعي أن يبدو كسب كيلو متراً، أو اثنين على أرض المعركة، أهم بكثير من خسائر الأرواح وتشظي القلوب، في الخط الفاصل بين هنا وهناك.
كأن “مرب” نهرٌ لا يجيد عزف موسيقى الجداول، وإن أجاد تبدو مقطوعاته كسيمفونيات نحيبٍ، لرثاء باذخ الألم .
هنا تمد الأغنية أجنحة من غيم، حيث لا أحد يمكنه أن يرسم خطا للمسافة الفاصلة، و يفض عناق الغيم، أو يبدد حميميته، وحدهم من يمشون على الأرض يملكون قدرة توفير الأعداء بالأعداد المطلوبة واللازمة، ولا يهم كثيرا أو قليلا، حجم الخسائر العامة والفردية، فثمة خسارات مربحة، وثمة “علاقات حب” تعطل مسيرة الوطن (في عرف بعض الأنظمة)، وحيث تنتهي سياسات تلك الأنظمة يبدأ وجع الأغنيات!.
“دهلك” كان عنوان أغنية للفنان الأثيوبي “تيدي أفرو ” أنتشرت كالغيم في السماء الممتدة من “أديس أبابا” الى “أسمرا”، والتي تروي حكاية عاشقين، كانا أول ضحايا الاحتراب، عندما تم تهجير الحبيبة الى موطنها اريتريا، كانت الميديا في الطرفين ترش ما توفر من الملح على الجرح، و الأغنية بالكاد ترتق بعضه:
“تحضرين في منامي،
وانت هناك في جزيرة دهلك
على مركب واهن،
وقد حاصرتك الأمواج والوحشة والقلق
تحملين طفل حبنا وليداً يخشى الغرق
تتوصلين الرب بلقاء ما، فإذا بالموج يصمت فجأة ليبتهل لله معك .
حالة هدنة مستحقة:
الحالة الاريترية ليست استثناءً، بل ليس ثمة استثناء في التجارب الإنسانية، سيما في حالات الحروب، حيث تتضاعف ألآم العشاق، المحاصرين بين واقع المعارك، ومخيال القلب، الذي يدوزن نبضه، على إيقاع الرصاص! حيث تُعرّف أنبل المشاعر ، بـ “الخيانة”، وتوصف أقسى التجارب وأبشعها، بـ “الوفاء” للوطن! .. هل الوطن أصغر من إحتمال حالة حب صادقة؟!، وهل خديعة “محبٍ مخلصٍ”، تُعد نصرا للوطن؟!أسئلة تحيل الى واقعة تعرض لها الروائي الثوري الكبير، جابرييل غارسيا ماركيز، الذي أجاب على سؤال المعترضين، على كتابته لقصة حب في زمن الثورة، بالقول ” كتابة قصة حب جميلة، لا يمكن أن تعطل مسيرة ثورة”!، وحتما أن كان تدوينها لا يعطل، فمن باب أولى أن وجودها لن يعيق أية مسيرة.
ـــــــــــــ
https://zatmasr.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى